أدب

تأصيل حضور الذات الساردة في قصيدة “دهشة متجددة” لماهر حسن

منال رضوان | القاهرة

“دهشة متجددة” قصيدة ماهر حسن في ديوانه السادس كل عشق وأنت بخير، ويمثل الديوان حالة من الامتزاج فيما بين الذاتية والموضوعية، ويميل إلى مسايرة الدافع الخاص المتجه بتأثيره على النسق العام لمجمل العمل، كما أنه يحمل ثلاثة مستويات للقراءة يمكن للمتلقي أن يلمسها، مستوى الشبق والميل إلى التصوير الحسي، ومستوى الخيانة، وأخيرًا مستوى الأسى على ما فات ومحاولة التطهر.

والقصيدة في “كل عشق وأنت بخير’ يمكننا أن نعرفها بأنها: القصيدة الأنثى، أو الأنثى القصة، والأحجية التصويرية لحالات مضطربة من العشق والرغبة والاندفاع والانكسار والعجز عن المواصلة دون شك أو ريبة أو سبك الألم في أتون النار؛ لصياغته في صورة مفردات وتراكيب بدت حزينة هادئة في أغلب الأوقات، سافرة متمردة في أوقات أخرى، حادة وظالمة للطرف الآخر في علاقة حاول الشاعر تبرئة ذاته فيها، ما خلا مواضع قليلة مثلت الاعتراف بأن الحبيبة طالبته ببعض اطمئنان في مقابل الدفع بقلبها إليه، كما في قصيدة “جزء من يوميات رجل وقح:” والتي حملت سبع مقطوعات..
فيقول:
وأجوب حدائقها فرحًا.. منتشيًا.. مزهوًا
لم ألمح شبه استهجان
لم ألق غير الترحاب
لكن في آخر أيامي معها قالت:
لا تأخذ مني كسرة خبزي.. خذ قلبي
وامنحني صك اطمئنان

الشاعر ماهر حسن

وكأغلب قصائد الديوان، لم تحمل لنا دلالة قاطعة عمن هو المخطىء من طرفي العلاقة، فالتراكيب تذهب بنا تارة إلى خيانة العشيقة وتارة أخرى إلى تخلي السارد عنها، فتجده يحاول التنصل من تبعات العلاقة بالندم أو الفخر الزائف بهزيمة معشوقته رغم الأسى على ما آلت إليه الأمور، ليقف الشاعر في أغلب قصائد مجموعته موقف الضحية والجلاد في آن واحد، وهو ما مثل حالة من الزخم الشعوري لديه، انعكس ولا شك على من يتلقى ذلك العمل الملآنة جعبته بمشاعر مختلطة تبرهن مدى الهزات العنيفة التي اصطدمت بها التجربة الشعرية حتى اختمرت واكتملت بصياغة إبداعية شفيفة.

وربما كان تماهي هذه الخطوط الفاصلة فيما بين مشاعر المفترض فيها التباين يمكن تأويله أنه كنتاج لعمق التجربة التي برع حسن في توصيفها، أو لنرجسية شعورية ذكورية ألقت بظلالها على مفردات القصائد، فحاول الرجل – هنا – لا الشاعر الثأر من محبوبته، فتجده يقول على سبيل المثال:
(حمدًا لله قاتلتي ماتت
وأنا فيها عشت.)
ومن يعيد النظر في تحليل مفردات القصائد يجدها بمثابة ضربات “دون كيخوت” لطواحين الهواء؛ فحالة الانتشاء والزهو بهزيمة الطرف الآخر كانت ضربات لطائر ذبيح تناثرت قطرات شعره، وتفرقت دماء عشقه بين النساء، وقد أجاد الشاعر في التعبير عن تلك الحال من الاضطراب عبر العودة للاعتراف بأنه وقع فريسة لمشاعر متباينة رغم وصولها إلى نتيجة واحدة مفادها: لا أحد هنا قد سلم من العشق، كما أنه لا أحد سلم من جرح الآخر!

وفي غمار هذا الزخم الشعوري كتب ”حسن” القصيدة التي أعتبرها مفتاح الشفرة للخروج من نفق الذاتية إلى الموضوعية.

“دهشة متجددة” قصيدة قد يتعجب البعض من وضعها في ديوان يتحدث عن تجارب – رغم صدقها – لكن تم اختزالها في خيانة جسدية بين عشيقين، بيد أن وجود هذه القصيدة بتقنية كتابة سنتحدث عنها لاحقا، عمل على إحداث التوازن الحقيقي في الديوان الشعري ورجح كفة الموضوعية والتحرر من ربقة الخصوصية التي ميزت بعض القصائد.. وإن كانت خصوصية “حسن” محسوبة باحترافية شديدة وخبرة عدة دواوين سابقة وعشرات القصائد التي لم تنشر بعد.

“دهشة متجددة” كانت حل الملغز لشاعر أثبت أن ثنائية الذاتي والموضوعي يمكنهما الامتزاج؛ لصنع معادلة فريدة سنتناولها بنزر من تحليل.
العنوان كمفتتح دال على الفكرة أو كعتبة أولى للنص يتكون من كلمتين (دهشة)، وما تحمله من تأهب وتأهل لشيء ما سيحدث؛ فتعمل على التفات ذهنية المتلقي والذي عادة ما يتوقع الاندهاش لمرة واحدة، لكنه يؤكد على استمرار فعل التعجب بكلمة ( متجددة) وهو ما يستلزم أن ترتكز القصيدة على حاجز واضح من الدينامية للنص، وإلا فقدنا خيوط اللعبة ووقعنا في فخ الثبات ومن ثم فقدان الاندهاش ولذا فإن الشاعر -عن وعي- عمل على محورين مهمين.

الأول: الاتكاء على الحاجز الزمكاني وإبرازه طوال مفردات النص فتجده يستخدم ( نواصيك – المدن – الموانىء – أرفف – العمر – رف – السنين – الوطن – الليل – الحدائق – المنصة – تسافر – مسافات ) هذا التحرك والتلاحق في المفردات يعزز من حالة الاستنفار والتأهب لحالة الدهشة التي تتجدد لذات ساردة تخاطب الآخر وكأنها تنظر في مرآة وتنتظر الإجابة عن أسئلة مشروعة لفتى أجهض حلمه في غد مشرق، أو كهل يتحسر على ما فات من أمنيات لا تجىء.

المحور الثاني: الملاحظ أن القصيدة كتبت منذ بدايتها وفق ما يعرف بأسلوب الذات الساردة، فالشاعر يتحدث إلى آخر ويبدأ قصيدته:
مراثيك لا يرتضيها غناء
نواصيك لا تبتغيها نساء
لياليك لا تشتهيها سفن
وعيناك- في ذروة الاشتياق
المرير المذاق
بجبن المدن
فحطم مرايا غرورك
بعثر أغانيك فوق الموانىء
طبب جراحك في العشق
نسّق فوضى العذابات
على أرفف العمر…..
….
في ذلك المجزوء يبرز التأصيل لحضور الذات الساردة ومدى التمكن في استخدام الزمن المضارع وفعل الأمر للدلالة على استمرارية الشعور الذي يتحول فجأة عقب عدة أبيات وفي شيء من إعجاز بالانتقال بين الأزمنة بسلاسة لا تفقد النص ديناميته عبر الوقوع في فجوة بين الحاضر والماضي، فتجده وقد تحول إلى ميكانيزمية الاسترجاع والتذكر لالآم الماضي وانكساراته جراء موت حلم ذلك المخاطب المقصود بالقصيدة، فيأخذنا طوال زمن القصيدة بتقنية تشبه flash back عبر التقطيع الزمكاني والمشهدية البصرية المليئة بالزخم مع التشظي الواضح لإبراز حالة الأسى والحزن مع الحفاظ على تنوع المفرادت تارة واللجوء إلى حيلة التكرار تارة أخرى كما في مفردات ( الكفن – الوطن – المسافات) والتي تكررت لمرتين أو ثلاث؛ لتظل الدهشة رغم الانتهاء زمكانيا بالحدوث أو الوقوع، لكنها تتجدد عبر التكرار والانتقال أو المراوحة في الزمن بين الماضي والحاضر مما يمنحها الحفاظ على ذلك التأثير المتجدد لمشاعر من التعجب تعترينا رغم فقدان الأمل في شيء جديد قد يحدث في يوم ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى