اغتيالُ الآئمة !

صبري الموجي|رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة

فارقٌ كبير بين المنهج، وهو الطريقُ الواضحُ البيِّن، أو القضيةُ التى تبدأ وتنتهى فى رأس الداعية، وبين الوسيلة التى تحملُ هذا المنهج وتُوصله للمُستمع، وعليه فإذا كان من حق وزير الأوقاف تحديدُ المنهج الخطابى بغرض تطوير الخطاب الدينى وتحقيق الانضباط فى الخطبة، وعدم الزج بها فى مناح سياسية تُثير اللغط وتنشرُ البلبلة، فإنه ليس من حقه تحديدُ وسيلة نقل هذا المنهج لأن فى هذا ضررا بالمُتلقى والمُبلِّغ( أى الخطيب) فى آن واحد !

 فما إن تقبَّل المُهتمون بشأن الدعوة – على مضض – قرار وزير الأوقاف بقصر الخطابة على الأزهريين، وتجريم اعتلاء غير الأزهريين المنبر لإلقاء خطبة الجمعة، حتي ولو كانوا يحملون أعلى الشهادات العلمية، حتى فوجئنا بقراره المُطالِب بتوحيد الخطبة وإلقائها مكتوبة أمام الجمهور من أعلى المنابر فى شتى مساجد الجمهورية.

وتبريرُ الوزير بأن فى ذلك صونا لحمى الدين، وبأنه يُسهم فى تطوير الخطاب الدينى ويُحقق الانضباط، مردودٌ عليه، إذ كيف ننشد تطويرا من خلال وسيلة تقتلُ الابتكار وتئد الارتجال فى مهده !

إن إلقاء الخطبة بهذا الشكل سيُمثل عبئا على عقول الأئمة، إذ سيجعلهم أشبه بقطار يسير على قضبان مُحدد لا يمكن تجاوزه؛ مما يقتل روح الإبداع لدى الخطيب، الذى كان من قبل يتفننُ فى استخدام الطرق لتوصيل المعنى !

بل سيصير خطيبُ الجمعة بموجب هذا القرار أشبه بالراديو أو التلفاز الذى يُردد المعلومة دون الإبحار والغوص فى روح المعنى، مما تستحيلُ معه نصوص الشرع إلى قوالب صماء يتلقاها المرءُ دون تدبر وتفكر وهما غايتان من أسمى غايات الشرع.

وحسنا فعل د. جمعة بأن تراجع عن قراره السالف – بعد مُراجعة الكثيرين من المهتمين بأمر الدعوة له – لأنَّ في تنفيذه قتلا للعلم، وتهميشا لدور الخطيب، والذى قد يُنافسه فيه أصحابُ الحرف الأخرى
ماداموا يستطيعون القراءة والكتابة!

 ولا شك أن سوءات هذا القرار العنتري كانت ستُلحق الضررَ بالمُتلقى تماما كما ستُلحقه بالخطيب؛ لأن جمهور المُتلقين يتفاوتون فى الأفهام والعقول، فمنهم من تنجح معه الوسيلة المكتوبة، ومنهم من لا تُشفى تلك الوسيلة غُلته، ويحتاجُ إلى شرح وإعادة، وبعد الإعادة زيادة؛ لهذا أُثر عن النبى: خاطبوا الناس على قدر عقولهم، إذ الأفهام تتفاوت.

 وإذا كانت الخطابةُ هى فنُ مشافهة الجمهور للتأثير عليهم واستمالتهم، فإن قرار الوزير بتعميم الخطبة المكتوبة- والذي تراجع عنه- كان بمثابة أول مسمار فى نعش الخطابة ، وليس كما صرح سيادته بأنه لبنةُ ضمن لبنات تطوير وتجديد الخطاب الدينى.

 وأخيرا دعونا نتفق على أن رغبة وزير الأوقاف فى تجديد الخطاب الدينى، وعدم اتخاذ منابر المساجد مسارح لترويج الأفكار السياسية لن تتحقق بفرض الخطبة المكتوبة، بل بتوعية الأئمة، وصقلهم عن طريق دورات تدريبية تُنمى روح المواطنة والإبداع، وتوحيد الخُطبة شريطة أن تكون مواكبة لروح العصر، كاشفة لمشاكل المجتمع مع طرح حلول لها، هذا بالإضافة إلى  تغليظ العقوبة على من يُخالف ذلك من الخطباء، والتى قد تصل بجانب الغرامة إلى المنع من الخطابة؛ وذلك عن طريق إلزام الخُطباء بتسجيل الخطبة ورفعها للمسئولين؛ للاستماع إليها لإثابة المُلتزم والأخذ على يد المُخالف، وغيرها من الحلول التى تحول بيننا وبين اغتيال الأئمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى