أيتامُ وَطن

مناسك إبراهيم حسن | السودان

كانت أمي تنظر إلىّ وعيناها تترقرقانِ بالدموع، حاولت بقدر الإمكان أن تتماسك أمامي، ولكنها فشلتْ في ذلك، أمسكت اختي بطرف ثوب أمي، وبدأت تنظر إلى جميع الحاضرين، لم تكن تدري ماذا سيحدث الآن، أو ماذا سيحدث بعده؟
اقترب مني ابي وهمس في أذني قائلا:
“منْ قال أن الرجال لا بيكون؟
نحن نبكي يا بُني..
نبكي على الضعف،
على المعارك خسرناها،
على القرارات التي لم يكن لنا يد فيها،
ارجوك سامحني يا بني…وإن كان يُعزى عليّ مسامحة نفسي”
نظرتُ اليه ولم أنطق بكلمة، انسكب الدمع من عينيه، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها والدي يبكي…وأظنها ستكون الأخيره.
أنا أعلم جيداً أن أبي لم يتخلى عني..
وأن أمي لم يَهُنْ عليها أن أذهب هكذا..
ولكن تخلى عني وطني، وهان عليه أن أذهب وأُباعَ للحربِ كما يُباعُ العبيد!
سمعت الضابط ينادي بإسمي، تسمرت مكاني ولم أقوى على الحرك، كرر اسمي مجددا، فحملتُ حقيبة ظهري واتجهت الي الحافلة،
صعدتُ عليها وجلست في المقعد المخصص لي، لم يكن أحد يدري الي اين ستذهب بنا تلك الحافلة، ولكن ما نعلمه جميعاً أنه سيكون الموت أو الموت!
نظرتُ إلي طُرقاتِ المدينة التي إعتدتُ السيرَ فيها،
أكياسٌ مِن القُمامةَ مكدسةٌ في الشوارع،
مئاتٌ من الناس الواقفين في مواقف المواصلات،
نساء يتسولنَ مِن المارةَ،
أطفالٌ يحملونَ الحلوى والمناديل الورقية، يطلبون من الناس شرائها،
لم أكنْ أنظرُ إلى وطنْ..وإنما كان بقايا وطنٍ فحسب!
طالَ الطريقُ؛ فبدأتُ أتفحصُ وجوه تَعِسي الحَظِ الذين تم إختارهم للذهب في هذه الرحلة، كانوا رجالاً أشداء، ولكن ما لفت إنتباهي فتى أظنه في السابعة عشر من عمره، كان خائفاً ومتوتراً جداً، يبدو لي أنه كان يشُمُ رائحة الموت!
وَصلنا إلي مُبتغانا وليتنا لم نَصِل، كانت المَعركةُ في أوجها، لم نأخذ قسطاً من الراحة، وإتجهنا فورنا الي مُقدمةِ الجيش.
في الحرب المنتصر الوحيد هو الدولة، أما نحن خاسرون على كل حال،
فإما أن نَقْتُلَ أو نُقْتَل..
خاسرون بأن نخسر ديننا أو دنيانا، أو كلاهما معاً!
أقترب العدو مِنا؛ فإتجهت للإختباء خلف إحدى الصخور الضخمة، كان معي ذلك الفتى صاحب السبعة عشر عاماً، نظرتُ إليها ولم أتفاجأ به وهو يبكي، قال لي بأنفاس مُتقطِعة:
“أنا لا أريد أن أموت، أريد أن أبقى مع أمي وأبي وإخوتي”
إبتسمتُ بحسرةٍ وقلت: “لنقل أننا أيتام، نعم نحن أيتام وطنٍ أيها الفتى، وأيتام الوطنِ لن يتبناهم من ملجئ الحياةِ سوى الموت!”

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى