القطار

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

ركب الأب القطار فَرِحاً مع ابنه الشاب البالغ من العمر 25 عاماً، وبدت البهجة والفضول على وجه الشاب الذي جلس بجوار النافذة، أخرج الشاب يده من النافذة وشعر بالهواء يمر بين يديه ثم صرخ قائلاً: انظر يا أبي إن جميع الأشجار تجري عكسنا، تبسم الأب لابنه مجاملاً، فاندهش رجل كان يجاورهما من هذا الشاب الذي يشبه الأطفال في كلامه، ثم صرخ الشاب مرة أخرى قائلاً: يا أبي انظر إلى بركة الماء والطيور ترشف منها، انظر إلى الغيوم تسير مع القطار.. استمر تعجب الرجل من حديث الشاب، ثم بدأت الأمطار تسقط.. فصرخ الشاب إنها تمطر والماء يلامس يدي..فما كان من الرجل إلا أن عاجل الأب سائلاً لماذا لا تذهب لطبيب يعالج ابنك؟! فقال الأب: إننا بالفعل قادمون من المستشفى، إذ إن ابني قد صار بصيراً لأول مرة في حياته. 

كثيراً ما تمرح الأوهام والظنون في أذهان بعضنا، تغدو وتروح دون رقيب أو محاسب. ولعلنا نرى آلاف المواقع الإخبارية التي تموج بها الدنيا..لو أمعنت النظر فيما تعرضه.. ما وجدت الحق إلا قليلاً، إنه حق يلمع في صفحة السماء هنيهة ثم ما يلبث أن يختفي في أعماء الليل. 

وجدير بالإنسان أن يجتهد في تحري الحقائق، وأن يأخذ بها وأن يرجع إليها كلما شدته تيارات الظنون..إن الحقائق هي المنهج الأقوم الذي ينبغي للمرء أن يتبناه في حياته، والصراط الذي يلتمس فيه الصواب والخير. عليه أن يستمسك بأحبال الحق فيما يراه من مشاهدات، وسيرى أنه سيضحى أدنى إلى جلية الأمر بعيداً عن التخبط في شتى المنعرجات والمنحنيات.

والاهتداء إلى الحق والثبات على الصراط يحتاج إلى دأب وجهد..بل واستلهام من العناية العليا، يسلم به المرء من خداع البصر الذي يلون الحقائق فيقلبها وهماً، بعيداً عن التصورات المتعجلة للمواقف والأحداث التي تنقل المرء من ضلالات إلى ضلالات أشد؛ فلا يحسن التصرف إزاء واجب يناط به، أو أزمة يقف أمامها. وقد تعشى الحواس عن الحقائق؛ فيأتي الفكر معيناً للوصول إلى حق اليقين الذي ينأى عن التخرصات والظنون.

والملفت أن بعضنا قلما يهتم بالحقائق، وإذا ما بحث عنها تراه يتصيد منها ما يعضد فكره الراسخ في ذهنه ولا يبالي بما يناقضه، أي أنه يسعى إلى ما يسوغ ظنه، ويؤيد أمانيه، ويتفق مع الحلول السطحية التي يرتجيها.

إن كل ما يتفق وميولنا وظنوننا يبدو معقولاً مقبولاً في عيوننا، وما يناقض رؤيتنا فإنه يشعلنا غضباً؛ فلا ندهش عندما يصعب علينا أن نحل مشاكلنا وأن نصل إلى حلول واضحة لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى