دراسة تحليلية لنص (الحروف المتشظية المتواضعة ) لعبد الرحمن بوطيب

سي مختار حمري / المغرب

= القراءة النقدية:
المدخل: لفهم النص اقترح المرجعية التالية لتكون ”عكازا ” أو ”مهمازا ”نتكئ عليه أو يقودنا أثناء الإبحار ضمن موجاته .
طرح إشكالية فلسفة اللغة//توظيف الأسطورة كرمز للواقعي//توظيف الغرائبية والعجائبية// الواقعية السياسية// إشارة للرومانسية.
قبل التوغل في النص نقف عند العنوان و الشطر الأول من القصيدة : نصطدم بسؤال فلسفي عميق ” الحروف المتشظية..عجبي وما الحروف حروفي..أنت الحرف مني..منك أنا..مابال الكلمات لا تنتظم”هنا الشاعر يتعجب يشك في الانتماء المتبادل لحرفه ويصفه بالتفتت والتشتت. يطرح أمامنا مخرجين للفهم . المخرج العرفاني الذي قد يحدث فيه نوع من الإلهام أو الإيحاء القلبي كمصدر للتعبير ويتم إلغاؤه على عجل بعد الإنتقال إلى الأجزاء الموالية حيث
تطرق خيالنا رقصة الآلهة الإغريقية .يبقى ماثلا امامنا المخرج الفلسفي لفهم ما يقصده الشاعر وبالتالي نلجا للفلسفة التحليلية مع “فيتغنشطاين” الذي يتبنى مفهوم “الألعاب اللغوية” وجاء بما يسمى “المنعطف اللغوي “في مواجهة السرديات الكبرى في الفلسفة القارية الغربية بل قال”بموت الفلسفة” باعتبارها “العابا لغوية ” ..نتساءل مع الشاعر على ضوء ما اسلفنا إذا كانت الحروف ليست حروفنا فهي حروف من؟ هل بالإمكان أن نكتب حروفا ليست لنا؟ أنصفف الكلمات كما بيادق الشطرنج ليتحول التعبير اللغوي إلى مجرد ألعاب ،ألا تفرض علينا هذه الأخيرة فكرها من خلال بيادقها( الحروف) ؟!!.. الشاعر يبدي نوعا من التحفظ والحذر، فاللغة قد تخدع وعوضا عن أن نعبر بها قد تعبر بواسطتنا ، فاللفظ البيدق قد يتسلل إلى لغتنا دون استئدان منا أو نداء من فكرنا. هناك لعبة شديدة التعقيد قد تتحول إلى مجرد هذيان لغوي سواء كتابة أو على مستوى الفهم والتحليل. إضافة إلى إشكالية اللغة المطروحة ، هناك مشكل تواتر كلمة ”عجبي” وأمامها علامة التعجب مما يعقد المشهد ، فإضافة إلى أنها قد تعني العجب العجاب فهي تقسم القصيدة إلى خمسة أجزاء . هل نتعامل مع كل جزء على حدة . أم نتعامل مع القصيدة كوحدة متكاملة مندمجة . في اعتقادي الجزء الأول يمكن عزله لأنه يطرح إشكالية فلسفة اللغة ولا يهم من أية زاوية نتناولها أكثر مما يهم التنبيه لها وإن كان هذا الجزء أيضا ينتهي بالتعجب المزدوج … الشاعر يحذرنا بداية من الوحش اللغوي كتابة وفهما . الذي يطمع في افتراسنا وتقطيع فهمنا إربا إربا على مهل و بالتتابع . مما يدعو الى الصحو واليقظة والفكر الواعي .. يحاول الشاعر أن يجعل من اللغة المفترسة حيوانا أليفا نستطيع لمسه دون خدش مخلب أو غرز ناب .منخرطا في عملية ترويضية للوحش اللغوي الذي نسكنه، يسكننا ، لا ندري: من الساكن؟ من المسكون؟ في زمن الشرود والتيه وانعدام هوية متبلورة عميقة و متجدرة قد تجرفنا الأنهار اللغوية الى بحار لا قرار لها .. الشاعر يحاول أن يجعل اللغة تتلعثم والفهم يتشظى ليندمج ويتبلور. قد نفهم ومضة هنا وأخرى هناك لكننا أمام الفكر المتدفق كالسيول الجارفة والصور الشعرية التي تهدف لتواصل أعمق من اللغة المستعملة “فوق لغوي ” تعبيرنا وفهمنا قد يعتريه نوع من الوهن أمام واقع سريالي نعيشه وشاعرنا يوظف دفعة واحدة الأسطوري الغرائبي، العجائبي ، الواقعي الثقافي المحلي ، والعالمي. نجد أنفسنا أمام قصيدة تعكس عالما متعدد الأبعاد يصعب احتواؤه أو ضغطه في مساحة أو رقعة او قرص …

التطرق إلى الجانب الأسطوري في القصيدة يجعلنا ننفتح
على حضارات قديمة يونانية رومانية, بابلية امازيغية مغاربية . فلفظة سيريبروس في الأسطورة اليونانية الرومانية تمثل كلبا متعدد الرؤوس. شعره من الأفاعي, حارس مثوى الأموات. تحيلنا في الشعر العربي إلى بدر شاكر السياب في قصيدته المشهورة ” سيريبروس في بابل” و في الأدب العالمية إلى” دانتي” في الجحيم”الكوميديا الإلهية” حيت أن سيريبروس هو حارس مدخل جهنم, يمنع الموتى من الهروب ,والأحياء من استعادة أمواتهم.فهو رمز للشر المستطير والخراب والدمار.
يوظف الكاتب حكاية أو أسطورة السند باد . ويطلب منه الرحيل وعدم العودة بل مغادرة الزمن أو” التزمن” أي ”الذاكرة” بقوله ”ارحل أمس اليوم وغدا” و يحرمه العودة . كأننا أمام سندباد من فصيلة أخرى يباد الأصلي ويؤبد في الرحلات السبع التي تنسب إليه” السبع العجيبات” وان يمكث هناك ألف قرن. تتم مقارنته بشداد بن عاد الذي رحل و لن يعود وهو الذي تحدى نبي الله هود وبنى جنته الموعودة على الأرض التي تحولت إلى خراب وغادر دون رجوع. إذن خد العبرة وارحل يا سندباد فما هناك سوى ضياع وخراب. الحكي صار نوعا من الضياع والتشوه نال من العظم نزفا وسما زعافا. تتحول حكاية السندباد إلى واقع فيه أمر وتفاعل لا طيف حكاية أو أسطورة من نسج الخيال وهذا يؤكد بالواضح توظيف الأسطوري كرمز للتعبير عن الواقع و فهم مداخله ومخارجه . يأتي أيضا ذكر بوسيدون . إله البحر والعواصف والزلازل والخيول . لكن في الأصل يعتبر إله الماء ، إله ليبي أمازيغي اقتبسه الإغريق , وتم ربطه بكل أضرحة سيدي بوزيد في شمال إفريقيا باعتبارها معابد كانت مخصصة لعبادته . يطلب من السندباد الرمز ان يتطهر بدموعه هو الذي يبكي رحيل الفرح مع رحيل رقصات الأعراس التي تقام للفتيات اليافعات الجميلات ”الكواعب النواهد”وان يشرب من مياه الموجات الشاردات ويسقي الصبيات.

يوظف الكاتب العجائبية خار ج الأسطورة المتمثلة في البغلة التي تحبل بالذئب في المهد منه يصيح , مع العلم أن الذئب يعوي والبغلة لا تمثل نوعا حيوانيا بالمعنى العلمي للكلمة والذي تتوفر فيه خاصيتين: التشابه والتوالد والخاصية الثانية غير متوفرة حيت يقول المثل ”اعقر وأعقم من بغلة” إضافة إلى أنها هجينة فهي تولدت عن تزاوج بين حمار ذكر وفرس من باب الرمز قد تشير إلى حال مجتمعاتنا الراهنة ثقافيا وحضاريا واقتصاديا وسياسيا وكل ما يتعلق بالهوية الهجينة .
خارج الرموز الأسطورية التي نطلق عليها مفهوم الواقعية الجديدة كما اصطلح على تسميتها زمن بدر شاكر السياب, و توظيفها للتعبير عن الواقع المعاش ، نلمس تعبيرا مباشرا عن واقع الإنسان العربي في دروب المدن المكتظة خاصة حيث استفحل الشر وتحول الإنسان إلى قطيع مشلول في غابة لم نعد نسمع فيها إلا البكاء والصياح. تم إفراغ الخزانات الملآنة ”الدنان”من كل مخزونها إلا قطرات وهذا يرمز إلى استشراء الفساد بكل أنواعه والإستحواذ على خيرات البلاد والعباد من طرف فئة معينة.
تستعمل كلمة رفيق وهي أغلب الظن تعني رفاق النضال ويتم التساؤل : لماذا ضاع كل شيء في الطريق؟ لماذا فشلنا ؟ تبخرت أحلامنا لجمت أفواهنا هذا لا يطاق . ضلت الأسرار في عمق سحيق ، إنكشافها منيع ، تعب الصمت من هذا الخراب وهذه الجروح النازفة والندوب البارزة ، تحول كل شيء إلى صحراء قاحلة جرداء لا ضرع ولا زرع هناك” ضياع يلاعب ضياع الضباع” وهنا قد أشير إلى ما قاله المفكر المغربي الكبير الراحل محمد جسوس حينما صرح محذرا” إنهم يريدون خلق جيل من الضباع والضياع جيل يخرب يعتدي يغتصب ويقتل إنهم مسؤولون عن ضياع جيل بأكمله” تُفهم الومضة كصدى لمثل هذا الواقع المر المرير.
السند باد قد يرمز أيضا إلى جيل يغامر بركوب البحر في رحلة للبحث عن حياة أفضل في الضفة الأخرى من البحر. دون التفكير في العودة فما عاد العود محمودا. بقي الضياع والرعاف والسم الزعاف ولم يعد الكهف ”الوطن” سوى مجرد خواء من كل الأوجه.
الومضة الرومانسية الوحيدة في القصيدة إن جاز التعبير” بنوع من التحفظ” جاءت في الختام ”أنا في حضن حبيبتي الصغيرة النائمة على صدر جدتي القديمة…….”قد نلمس فيها بعض الحنين إلى حياة مضت بلا عودة عندما كانت العائلة الكبيرة مجتمعة فتجد الحبيبة الزوجة إلى جانب الأم ,الجدة ,الحفيدة ,الشال ,الوشاح والضفيرة تتجسد حروفا لغزل ونسج وحياكة آخر ما في الكلام من معاني… القصيدة شديدة التراكبية طية معقدة جيولوجيا أفقيا وعموديا يصعب احتواؤها بالكامل ونشر كل مكوناتها تحتاج لدراسة أعمق ووقت أطول خاصة أنها مليئة بالرموز والمعطيات.
لذلك قد نجد أنفسنا أمام ضرورة وضع شفرة لفك بعض رموزها أو بالأحرى لتوضيح بعض من فهمنا للقصيدة ذات الامتداد الشاسع ،الأبعاد المتعددة و الغور العميق . لذلك اقترح ما يلي:
الرموز:
ـــ عجبي: أعيدت في النص خمس مرات قد ترمز إلى المقارنة بين فترتين تاريخيتين أي ”بين البين” وقد يكون لها مدلول يرمز الى تردي الوضع الاجتماعي الذي وصل إلى حالة قد توصف بالسريالية العجائبية الغرائبية أو تستعمل كعكاز يتكئ عليه الشاعر في تنقله في مستويات ذات معاني بشحنات عالية وأبعاد مختلفة . او لحظة التقاط نفس لمجابهة القادم من ”صيرورة ” فكرية -مجتمعية .
ـــ سيريبروس: رمز الشر بكل أشكاله وأنواعه ، القمع والإستبداد ،الظلم القهر والتحقير الأصنام الفنية الثقافية السياسية الخ…..
ـــ بوسيدون: جاء كلفظة عابرة مرتبطة بالدموع لكنها ذات دلالة عميقة في النص قد ترمز إلى الأهوال التي يتعرض لها ما اصطلح على تسميتهم” بالمهاجرين غير الشرعيين” راكبي البحر بشتى الوسائل البدائية في تحدّ انتحاري.
ـــ السندباد: قد يرمز إلى المواطن بصفة عامة . او المسافرين المغامرين عبر البحر في فهم لبعد معين.
ـــ البغلة: قد ترمز إلى الهجونة والميوعة الثقافية ، فقدان الهوية ، الإنقلاع من الجذور ،التسطح الانسلاخ والتفكك بكل أشكاله.

سي مختار حمري / المغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النص:// للشاعر عبد الرحمن بوطيب – المغرب

=الحروف المتشظية المتواضعة
=عجبي ! … وما الحروف حروفي
وأنتِ الحروف مني
منكِ أنا
ما بال الكلمات لا تنتظم
عجبي!
هي القوافي لا تجري إلى مستقر
تنزاح
ذا الإنسان ما عاد يرتاح
وفي دروب مدينتي
يعوي سربروس
خرفان مشلولة الساق في غاب
ومنها نواح
ما في الدنان كانت تَرْوي تسقي ترتوي بقيةُ قطرةٍ شاردة من سلم مباح
عجبي!
يا رفيق
لم ضاعت حروف الطريق
لِمَ البغلة تحبل بالذئب في المهد منه
يصيح
لا أطيق
لِمَ ينهش الضلوع من قصيدتي
بالسر لا أبوح
وأكرع الصمت من خراب وجروح
عجبي!
سندباد
يا سندباد البعاد
ارحل
لا تعد غداً اليوم أمس
رحل قبلك قبلي شداد بن عاد
وما عاد
هي الحكايات الضياع الكساح الرعاف السم الزعاف
لا تعد
طُفْ بالسبع العجيبات ألفَ قَرن
تَطَهّر بسلسبيل دموع بوسيدون تبكي رقصةَ عرسٍ رحل رحلتْ معه كواعبُ ناهداتٌ ملاح
انهل من شاردات موجات
اسق الصبيات
في قريتي البعيدة وراء ضباب جف الضرعُ الزرعُ الجذرُ الغصنُ الوردةُ الحمراءُ الفرعُ
ما في قريتي إلا ضياع
ضياع يلاعب ضياع ضباع
عجبي!
ارحل سندباد
هذا أنا في حضن حبيبتي الصغيرة النائمة على صدر جدتي القديمة تغزل لي من شعرها قصيدة أخيرة
أغزل لها شالاً
وضفيرة
ارحل
ما وراءَ أمامَ جنبَ الكهف القديم غيرُ خواء
خواء خواء خواء

عجبي!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى