المشهد السينمائي في ديوان (شط العرب) للشاعر منذر عبد الحر

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

   إن العنوان الذي يلتصق به العمل الشعري قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع,وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز, وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، فمثلا عنوان المجموعة الشعرية (شط العرب) للشاعر المبدع منذر عبد الحر  كمكان, وقيامه بدور المركز في الحركة السينمائية  ,وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في القصائد ,ويفرض نفسه على عناوينها  ,ويبلور رؤية الشاعر لعالمه[1], وفي المجموعة الشعرية  أنفة الذكر للشاعر منذر عبد الحر  تترابط جميع عناصر المجموعة ترابطا متناغما يشد العنوان إلى الكلمة الأخيرة فيها,مرورا بعتباتها النصية,والنصوص,فهذا(شط العرب) ,عنوان محمل بالدلالة,ومعبر عن صورة شعرية أراد لنا الشاعر أن نتوقف عندها عندما اختار أن يكتب عنوانه بهذا الشكل(شط العرب)ليست مألوفة في الحديث اليومي,لان الشط يكون مرئيا للجميع ولا حاجة للإشارة إليه باسم العرب وبذلك يكون العنوان الوارد هنا عنوانا من نوع خاص,يحتاج إلى الإشارة ولفت الانتباه إليه,ويأتي ذلك الصمت الذي يعقب الإشارة,ليعطي القارئ فرصة للتأمل في العنوان,وربما التساؤل عنه,لتتحقق المعرفة أخيرا ,بأنه شط الشاعر العراقي الأصيل ,والمراد من نصوص هذه المجموعة,مما يكسب النص صفة معنوية قد لا يستطيع التعبير عنها بصورتها المكتوبة,فحرص الشاعر منذر عبد الحر  على إظهار هذه الصفة من خلال الإشارة إليها,وجعل هذه الإشارة فاتحة للمجموعة,ليدخل القارئ إلى عوالم النصوص,وهو يختزل في ذاكرته تلك الصورة المعبرة عن الحقيقة التي تقف وراء النص,إذ أن الشط  يكون دوما بحاجة إلى ما يثيره,وأكثر عوامل الإثارة التي ترد في النصوص الشعرية هي الحزن والألم العراقي على وجه الخصوص ,ولان الشاعر ابن البيئة الجنوبية اختار عنوان المجموعة الشعرية (شط العرب) للدلالة العربية عموما ,والعراقية على وجه الخصوص,التي تعبر عن ضراوة ما يعانيه الشاعر في نفسه نتيجة تأثره بالواقع,وأحداثه المترسبة إلى ذاته[2],فنراه يقول:

رميت شبكة الصيد

على ذكريات علقت

في كومة قش في الماء

حصيلتي:

أسئلة وأصدقاء

وجوه.. وضحايا

قرابين … وأغنيات

انتظار انكسارات [3]

    إن تشغيل الكاميرا في المتن الشعري  يعني – قبل كل شيء- استهداف القصد بشكل مرئي , بغية رفع أحساس المتلقي بالشاعر , وتتمكن من تنفيذ استهدافها هذا عن طريق سلوكها الذي تقوم به لصناعة اللقطة , فهي بهذا السلوك أنما تقدم اللقطة على أنها حرف سينمائي متبدل بحسب نغمة التجويد لهذا السلوك , فالكاميرا هي التي تقوم بتصوير الكل بواسطة تجزئته باللقطة [4], استطاع الشاعر  المبدع منذر عبد الحر من تحويل القصائد الشعرية  إلى مشاهد سينمائية متقطعة إذ جعل من كل شخصية من الشخصيات الرئيسة بلسانه  تتحدث عن الماضي ,وربطه بالحاضر ,وهذا ما نسميه بالنقد الحديث (الاستباق والاسترجاع) , فهو جعل الحدث الرئيس للموضوعات اليومية التي عاشها الشاعر, وبدأت كل شخصية تروي على لسانها الإحداث الماضية عن طريق الفلاش باك فنراه يقول :

وأنا أقلب شتات همومنا

رأيت فواخات كنت أخفيها

عن سجن الغربة

تراقب العربات التي تمر

وهي تحمل أشلاء أحلام

يا ما وضعناها على موائد

جراحنا

 قلت لي :

انس العالم

ارم كل الصخور

التي جثمت على صدرك

دعنا نسمع أبا خالد [5]

ما يميز الشاعر الكبير منذر عبد الحر إدخاله تقنيات حداثوية في مجموعته الشعرية (شط العرب), وتحتوي على عدة مشاهد سينمائية تأخذ اللقطة معنى مزدوجا: أنها تدخل أللاستمرارية, والتقطيع ,والوزن في الواقع امتدادا مكانيا , أن نصوغه في السينما كسلسلة , وذلك عن طريق تجزئته إلى لقطات ومن ترتيب تتابع هذه اللقطات [6], وبهذا التوصيف تكون الكاميرا وحدة الشعور الفيلمي فهي التي تؤسس الحركة العامة للفيلم وهذه الحركة تتكون من حركة تصوير المنظر, ومن الحركة داخل المنظر وبذلك تؤدي الحركة إلى تغيير التكوين , ويؤدي بنا إلى تغيير التكوين الحركي إلى تغيير الانفعال [7],  لقد اشتغل الشاعر الحر والمعاصر على دعم نصه بهوية بصرية من خلال التعامل مع الكاميرا التي تهدف من وراء ثباتها وحركتها إلى ترجمة قصد محدد[8], وهو بذلك يعمل على وضع نتاجه الشعري  ضمن مجال بصري تتراجع فيه اللغة لأجل الصورة , كما هو الحال في السينما فاللغة في الشريط السينمائي تكون مجرد ظهير للصورة [9] , فنراه يقول :

كل ضحكة غرسناها

أفصحت عن وردة

كل خطوة باتجاه الجنوب

عبدتها أحلامنا بالشجن

كل وجع صمتنا أمامه

غنت ذكرياتنا  [10]

 إن معاينة متفحصة لبعض عنوانات النصوص التي ضمتها المجموعة الشعرية   (شط العرب) تمنحنا فرصة سانحة نحو عوالم الشاعر منذر عبد الحر, وخساراته, ومنها فقده للشعراء:(حسين سرمك , محمد علوان, كزار حنتوش, جمال حامد, شهداؤنا, إلى الذين رحلو… والى الذين يقفون على لائحة الانتظار) إنها رسائل موجعة بثها الشاعر الكبير  منذر عبد الحر  إلى متلقيه, وهي تروي متانة تشبث الشاعر بناسه,ووطنه,ولاسيما في قصائد الرثاء, والتفعيلة,إذ إن  للأوزان ,والقوافي أثرا في تلقيها بنحو جميل منسجم[11], مثلما في النص  الشعري الآتي الذي يصور لنا بعين الكاميرا الدمار الذي حل بمدينة البصرة ,وبشاعرها الكبير بدر شاكر السياب على  الكورنيش الذي تحول إلى صحراء قاحلة, وهو يصف لنا بدقة متناهية   تمزيق جيب الشاعر السياب فنراه يقول:

بدا الكورنيش صحراء

حين استبدل عشاقه الحالمين

بقطط ضالة

وكلاب سائبة

وجمع من المشردين

وتمثال شاعر

هجمت عليه الشظايا

فثقبت قلبه .. وجيبه

وأبيات قصيدته

   شجرة البمبر..

جسدها جريح[12]

 يتشكل المشهد الشعري في القصيدة كلها من لقطتين,لقطة صغيرة جدا تستغرق(5) اسطر شعرية, ولقطة كبيرة تستغرق(6) اسطر شعرية, وحركة المشهد تخرج من قوة الصدمة بين هاتين اللقطتين,ففي اللقطة الأولى كانت الحركة واضحة, وهادئة, وفي وضع معلوم, ولا سيما بعد إعادة أول حركة في هذه اللقطة, وهي(شط العرب) إذ أعيدت هذه الحركة في منتصف اللقطة لتمثل على سهولتها استعمالا سهلا لأسلوب الاسترجاع[13], وذلك ليعزز حضور اللقطة ككل بأجوائها, ودلالاتها, وفي هذه اللقطة تبدو الحكاية الشعرية مباشرة من حيث, تواصل الصور وبناؤها, لان الشاعر الكبير منذر عبد الحر  منتبه في الإفادة من التقنية السينمائية, وذلك من خلال القصدية التي جاءت بها اللقطة الثانية, وهي تحمل دلالات تملأ القصيدة بالحركة إذ إن حركة هذه اللقطة مجهولة,ومرتبكة[14], وقد تجسدت في المقطع الآتي  من القصيدة فنراه يقول:

في طفولتنا ..

نجتمع عند ضفاف الظهيرة

نسترق السمع لنداء باخرة قادمة

وحين يمزق زعيقها سور الصمت

نتسابق لبلوغ المرسى

جاء البحارة من البلدان البعيدة

يحملونبضائع الدهشة

وهم فرحون

يهزجون [15]

  ومع هذا الغنى في تنوع البنية, جاءت القصائد بموضوعات مستمدة من روح الواقع العراقي في عقد التسعينيات, والسنوات التي تليها, إذ  كان الجوع, وخسائر الحرب الفادحة, جديرين بإثارة القلق الوجودي في نفس الشاعر, واستنهاض كلمته المناوئة للواقع, والنافذة له, لتبوح القصائد بمواجع الذات, والآخر, وترسم خطا بيانيا للازمة التي تعصف بحاضر الإنسان,ومستقبله[16], فنراه يقول:

معذرة …

أيتها الأرض

الجثث التي استسلمت لعويلك

هي ظنوننا

الممهورة باللهاث

       لذلك …

آثرنا الصوم عنك

وأفسدنا الطرق إليك

بالتوبة ![17]

إذ يتم الاستدلال على قصد الشاعر عن طريق تتبع سلوك التصوير فبتغيير سرعة الكاميرا يمكن التعجيل بالحدث والتباطؤ به [18], وكذلك تتوفر للكاميرا ميزات تمكنها من تبني دور الشاعر  فهي – فضلا عن عملها أثناء ثابتها – تتمتع في التحكم بتقسيم اللقطات المتحركة بحسب متطلبات وجهة النظر, ومن هذا التحكم تأخذ أهم أوضاعها التي تمكنها من متابعة القصيدة, ويمكن استعمال كل حركة على حدة أو الجمع بين حركتين أو أكثر, وكل لقطة تبين مجموعة مختلفة من العناصر التي تكشف عن المعلومات  إن استدارة الكاميرا من نقطة ثابتة من التقنيات السينمائية, وهي بتغلغلها في القصيدة المكتوبة تكون قادرة على تشكيل وزن سينمائي لهذه النصوص إلى جانب وزنها الأدبي لذا يحقق لدينا نوع من التوازي بين الفنين, واللقطة الأفقية تشمل حركة آلة التصوير على محورها الأفقي بوضح ثابت, وهنا تقوم آلة التصوير عين الشاعر  بمتابعة الحركة بشكل مباشر , لقد تعرف الشاعر منذر عبد الحر على هذا الأسلوب المعاصر- السيناريو- ووعى فاعليته في تجهيز قصائده الشعرية  باليات من شانها أن تعطي للشعر نكهة خاصة تتفاعل مع فعل القراءة,وتفتحه أوسع أمام تحركات التأويل, يفتح الشاعر مشغل مجموعته الشعرية  بدورية سيناريوية تدور حول تهيئة الوضع الشعري, وذلك بموضعة الشخوص , وتنضيد وحدات المكان النصي[19] , فنراه يقول:

رسمت على الموج

أمنيات شاحبة

وقرابين

تصعد إلى السماء

نساء ملثمات

بالسراب والزبد

ليلحق دخاني بآهاتهن

وهو يؤدي ترنيمة الوجع [20]

  لم نلمح في تفاصيل أية من هذه القصائد بارقة لروح تزدهي بالأمل,أو الحب  انكسارات,حروب,حزن,فوضى,قلق,وهذا هو تعبير مشروع عن ذات محملة بالأسى لا لنقص فيها,وإنما بدافع الضغوطات الخارجية التي أجبرت الكل على الانصياع لإرادة قاهرة عندما تختار البقاء في فضاءات العنف المتوالية, وإما عندما تختار الهروب إلى منافي بعيدة سيكون فيها الألم أشد مرارة,وضراوة, بسبب الغربة ,والاغتراب, إن الشاعر منذر عبد الحر  في هذه الأبيات لم يكتب شعرا عابرا,وإنما استرجع ذاته المتبقية في الذات العراقية المسلوبة الإرادة  في قوانين الحرب,وقوانين الموت,وقوانين التعسف التي مازالت باقية,وما زلنا نطبقها في هذا الزمن الجاري,لكل شيء بقية من الألم,والحزن,ولكن أليس للفرح في أعمارنا بقية؟سؤال أزلي نطرقه ونحن نجوب في خارطة الحزن التي رسمها لنا الشاعر في مجموعته الشعرية (شط العرب),فنراه يقول :

إلى أين ؟

إلى جمر المعنى

ملح البلاد التي فقدناها

إلى ذئب جريح يصيح

إلى شبق الشجن

ونواح الجنوب

إلى شحوب الأيام

والقوارب الباحثة عن رتق

كي لا تغرق

من افسد خمرة الفرات

وموال دجلة

وانين الديوانية [21]

 وهنا نرى الانتباه في استعمال تقنية المونتاج شيئا واضحا لدى الشاعر منذر عبد الحر, وذلك في البناء ألمشهدي, مثل رسم المشهد الشعري بلقطة عامة أولا,والاستخدام البسيط لأسلوب الاسترجاع ثانيا, فضلا عن احتفال القصيدة المنظم بتوزيع الوحدات الديكورية[22], وقد أشار عز الدين إسماعيل إلى براعة الشاعر ونضجه في البناء المشهدي في شعره,وذلك بصور كلية تأتلف في القصيدة[23],هذا هو الظهير البانورامي لعموم العمل التصويري في القصيدة, إذ إن كل ما سيرد في مشهد القصيدة يعود في عمله إلى الأخذ من هذه المقدمة الشعرية التي هي موجز عام لموضوع القصيدة الذي هو تصوير مشهد ,ثمة فضاءات شاسعة من وظيفة محتملات العلاقات التمثيلية في النص, تصل أحيانا إلى درجة تفعيل المتمثل الضمائري, على وفق حدود بنيات,وتراسلات التناقد,والتشابك داخل حلقات هوية المحاكاة,والانعكاس الواقعي للملفوظ الخطابي,وبدلا من قراءة القارئ لعوالم قصيدة هذه المجموعة الشعرية بمشاعر تهتم بتحديد درجات الشعرية, والتأويل, وسوف نهم بدلا من هذا بتناول القصائد على أساس وجود اضمارات كشوفية بهوية المتحرر من طابعية الشعري,وما هو غير شعري, أي بمعنى أننا سوف نتعامل مع القصيدة على أساس ما يترشح منها من أوجه صورية يومية لقطية,وإمكانيات نسقية في تعليل صنع دلائلية الخطاب الصوري في القصيدة,ثم نتناول اثر هذه العلاقات النصية داخل حدود مجريات انجذاب القراءة, بموجب قابليات الدلالة التي هي حركية الطبيعة داخل تنويعات العلاقة النصية العامة[24], في الجزء الثاني من مقالتي النقدية.

المراجع:

[1]ينظر مقالات نقدية في الرواية العربية :6 0

[2] ينظر جريدة الصباح الجديد:11 0

[3] شط العرب : منذر عبد الحر : 64 0

[4] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : د0 حمد محمود  الدوخي : 250 0

[5] شط العرب : 13 0

[6] مدخل الى سيميائية الفلم : 38 0

[7] الروائي والتسجيلي :28 0

[8] ينظر الكتابة السينمائية : 154 0

[9] في نظرية الرواية :298 0

[10] شط العرب : 43 0

[11] جريدة الصباح ع 2164 ,في 31 كانون الثاني,2011 :11 0

[12] شط العرب : 65 0

[13] ينظر المونتاج الشعري:34 0

[14] المصدر نفسه:35 0

[15] شط العرب : 67 0

[16]  مقال للأستاذ حسين الابهر نشر في جريدة الزمان:11 0

[17] شط العرب :86 0

[18] السينما العملية الإبداعية : 237 0

[19] ينظر جماليات الشعر المسرح السينما : 216 0

[20] شط العرب : 6 0

[21] شط العرب : 11 0

[22] ينظر المونتاج الشعري:35 0

[23] ينظر التفسير النفسي للأدب:عز الدين إسماعيل:113 0

[24] مقال للأستاذ حيدر عبد الرضا نشر في جريدة الصباح:11 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى