السينما الجميلة نكهة استثنائية

فاضل الغزي | العراق

حادث سير يودي بالفتى الريفي قبل اقتباس روايته “الطوق والإسورة

ينظر كثر من النقاد والمؤرخين السينمائيين عادة إلى فيلم خيري بشارة “الطوق والإسورة” (1986) باعتباره واحداً من أجمل وأقسى أفلام السينما المصرية. ويعرف الجميع أنه إلى إدارة خيري بشارة للفيلم والسيناريو الناجح الذي كتبه مع يحيى عزمي، ثمة أساس شاعري ومدهش لهذا الفيلم هو قصته التي كتبها يحيى الطاهر عبدالله أحد كبار كتاب الستينيات في الأدب المصري. ومع هذا ثمة دائماً سؤال يتعلق بهذا الاقتباس الأدبي الاستثنائي بالذات. ففيما يقول البعض إنه تم انطلاقاً من القصة الأطول التي كتبها عبدالله بنفس العنوان، يقول كثر ومن بينهم المقتبسان أن الأصل قصتان للكاتب نفسه وليس قصة واحدة. ولما كان الكاتب قد رحل قبل أن يُنجز الفيلم ويُطرح السؤال، ظلت المسألة أشبه باللغز، على الأقل بالنسبة إلى الذين لم يقرأوا أعمال الكاتب على قلتها. أما الذين قرأوها فاكتشفوا مع شيء من التنقيب أن الجوابين كانا صحيحين: الفيلم اقتبس من قصة طويلة هي أطول قصص الكاتب المبدع الذي كان اعتاد كتابة نصوص قصيرة تتأرجح بين الشاعرية المطلقة والواقعية القاسية. والحال أننا قبل الحديث عما نشير إليه قد يجدر بنا أن نلخص الحكاية.

كلهم في البؤس نفسه 

ففي “الطوق والإسورة” حكاية بالمعنى العادي للكلمة: حكاية أم وابنتها، والابن/ الأخ الغائب. وتتخذ الحكاية في هذا الإطار خصوصيتها من خصوصية الوضع الذي تعيشه هذه العائلة حيث الذكر مغيّب مرتين: مرة من خلال الأب المريض المقعد الذي سرعان ما يموت، ومرة أخرى من خلال الابن/ الأخ الغائب في فلسطين يبحث عن لقمة العيش ويعد بالرجوع، رجوعاً يعقد البيت عليه آمالاً كبيرة. لكن الابن لا يعود. فيبقى البيت البائس أسير حالة أنثوية تتمثل في الأم وابنتها والحفيدة التي ستولد لاحقاً من زواج فاشل للابنة… علماً أن ولادتها ستكون إيذاناً بموت الإبنة، كما تموت كل امرأة لا يعتنى بها في ريف بدائي جاهل، نتيجة مرض يلي الولادة. تهيمن على هذا الحضور الأنثوي في البيت، شخصية الأم التي تعيش معوزة ممزقة بين ذكرى زوج طيب متسامح مات، وواقع مجتمع قاس لا يرحم. مجتمع صنعه الرجال على قياس رغباتهم ومخاوفهم. لكنه عاد وصنعهم بدوره وكيّفهم.

جدلية الجلاد والضحية 

ليس الخير والشر قيمة ثابتة هنا، بل هما حركة جدلية تتولد عن تضافر الظروف والمرجعيات. في مثل هذا المجتمع قلما يكون هناك جلادون هم غير الضحايا أنفسهم. والحكاية تدرك هذا الأمر بكل وضوح، فتتعامل مع الشخصيات الأساس على أنها ضحايا وإن بدرجات متفاوتة. التبادل بين الجلاد والضحية يتم، في معظم الأحيان، داخل الشخصية الواحدة. فالابن، مثلاً، الذي سيصبح خالاً، بعد أن عاد من غربته الفلسطينية خائب المسعى، هو بدوره ضحية قبل أن يكون جلاداً. وهو جلاد من غير اقتناع وإن كان عدم الاقتناع هذا، غير قادر على تبرير ثورته المجانية الساذجة في الدقائق الأخيرة من الحكاية والفيلم. وكذلك الحدّاد، زوج الإبنة ووالد الحفيدة جلاد بمقدار ما هو ضحية. والأم أيضاً ضحية… لكنها هنا من نوع الضحية التي تتواطأ مع الجلاد… حتى ولو كان جلادها.

الطوق والإسورة :

مشهد من فيلم “الطوق والإسورة”.. قصتان أم قصة واحدة؟
باختصار تلكم هي الحكاية التي نعرف أنها تحولت عبر كاميرا خيري بشارة وبخاصة قبل ذلك قلم يحيى الطاهر عبدالله إلى تحفة نادرة في السينما والأدب العربيين. فما حكاية الأصل الذي تم الاقتباس عنه إذا؟ ببساطة كان الكاتب قد نشر في مجموعة مبكرة له هي “الدف والصندوق” قصتين تبدوان متكاملتين وبنفس الشخصيات هما “الشهر السادس من العام الثالث” و”الموت في ثلاث لوحات”، وهما القصتان اللتان سيعود ويمزجهما بنفسه مضفياً عليهما أحداثاً وتفاصيل كانت نتيجتها رواية “الطوق والإسورة” التي اقتبس الفيلم عنها مباشرة ناقلاً الكاتب من الأجواء النخبوية التي وضعه فيها أدبه الكبير إلى الجمهور العريض الذي تلقى الفيلم وبوّأه مكانة كبرى في تاريخ السينما العربية.
لكن الكاتب لن ينعم بتلك المكانة في حياته. ففي ربيع 1981، قبل ظهور الفيلم بخمس سنوات وفيما كانت مصر بشكل خاص والوطن العربي بشكل عام يعيشان من الأحداث والتقلبات ما يجعلهما غير منتبهين تماماً إلى حادث السير البسيط والمفاجئ الذي وقع على طريق القاهرة، وأودى الحادث بحياة “فتى” صعيدي أسمر وهادئ، دفن عند وفاته في قريته الكرنك بالأقصر. كان ذلك “الفتى” يومها في الثالثة والأربعين من عمره. ولكن لئن كانت حياته البائسة وأصوله المتواضعة قد جعلته، مثل كل البؤساء المصريين، جديراً بأن يبدو أكبر من سنه بكثير، فإن انصرافه إلى ملكوت الأدب والكتابة غير مشرك بهما شيئاً، وغرقه في عالم اللغة الشعرية جعلاه يبدو مثل مراهق دائم وصبي أبدي. ولعل أكثر ما أدهش أصدقاءه يومها اكتشافهم أنه بلغ الثالثة والأربعين من عمره.

الكرنك” لنجيب محفوظ تثير عاصفة غريبة من الغضب:

“حقيقة” يوسف إدريس تحرج شرف مجتمع “الحرام”
أدب شاعري استثنائي

ذلك “الفتى” كان يحيى الطاهر عبدالله، أحد أبرز أبناء جيله من كتاب “الستينيات” في مصر، أولئك الكتاب الذين كانوا يعتبرون أنفسهم “جيل الثورة” ويدينون لتلك الثورة- كما سيقول يوسف القعيد بعد ذلك- بسنوات التعليم وبالخروج من الأمية، وخوض مغامرة الإبداع. وإن كانت تلك الثورة نفسها، التي تربوا في أحضانها لم يفتها أن تنكل بهم كلما لاح ذلك ضرورياً أو ممكناً. فحتى يحيى الطاهر عبدالله، على رغم ثوريته وخروجه، مثل أصحاب الثورة، من الطبقات المتواضعة في المجتمع، وعلى رغم أنه لم يمارس أية نشاطات سياسية خطيرة، حتى يحيى هذا، الهادئ، اعتقل في شهر تشرين الأول (اكتوبر) 1966 بين من اعتقلوا من الكتّاب والأدباء. ولم تكن تلك آخر مرة تنكل السلطات به فيها، إذ بعد ذلك وحين حل عهد “الثورة” الثاني أيام حكم أنور السادات نال يحيى الطاهر عبدالله ما ناله من اضطهاد وتنكيل.

جيل ما بعد محفوظ وإدريس :

يحيى الطاهر عبدالله كان في سنوات الستين، ثم طوال السبعينيات واحداً من الآمال الكبرى لميلاد توجهات جديدة في الكتابة في مصر، إلى جانب جمال الغيطاني ويوسف القعيد وبهاء طاهر وجميل عطية إبراهيم وإبراهيم عبدالمجيد وغيرهم، من الذين شكلوا الجيل التالي لجيل نجيب محفوظ ويوسف إدريس. والغريب في أمر يحيى أنه يبدو لنا اليوم وكأنه طلع من العدم. فهو على رغم علاقته الحميمة بـ”الصعيديين” الآخرين الراحلين بعده مبكرين بدورهما، عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل، تأخر ليبرز ككاتب. فهو بدأ حياته العملية بالحصول على دبلوم الزراعة ثم عمل لفترة قصيرة من الوقت بوزارة الزراعة، قبل أن ينتقل في 1959 إلى مدينة قنا، ويكف عن أي عمل إداري. وفي 1961، وكان لا يزال يقيم مع صديقيه في تلك المدينة الريفية كتب يحيى الطاهر عبدالله أولى قصصه القصيرة بعد أن ظل لسنوات مجرد قارئ وناقد لأشعارهما. ولعل قراءتنا قصص وروايات عبدالله مثل “ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً” و”الدف والصندوق” و”أنا وهي وزهور العالم” و”حكايات للأمير حتى ينام” و”الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”، ثم خاصة قصته الطويلة “الطوق والأسورة” (وكلها صدرت في كتب خلال سنوات السبعين بعد أن كان بعضها ينشر متفرقاً في مجلات وصحف)، لعل قراءتنا لها تكفي لتبيان كم أن شاعرية أمل دنقل (الكلاسيكية) ورهافة شعر الأبنودي (العامية) أثرا في لغة يحيى الطاهر عبدالله، التي تبدو لنا اليوم استثنائية في شاعريتها وتماسكها وجمالها، بحيث يمكن لكتابات هذا المبدع أن تُقرأ للغتها قبل أن تُقرأ لأي شيء آخر، بخاصة منها تلك التي تتسم بنوع من البساطة الخادعة وبتكثيف مدهش.
لم يمارس يحيى الطاهر عبدالله، منذ تركه وزارة الزراعة وحتى رحيله المفجع، أي عمل متواصل يعيش منه. وهو الذي ترجم العديد من كتاباته إلى عدد من اللغات، ووصلت السينما إلى أدبه. ومن المؤلم أن يحيى الطاهر عبدالله، الذي كان يحب السينما والريف كثيراً، لم يعش حتى يشاهد هذا الفيلم الذي يمكننا دائماً أن نتذكر كيف أنه صور الريف بأقوى ما فعلت كاميرا سينمائية في تاريخ السينما المصرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى