من المعلمين مِعوَلُ بِناء

رحاب يوسف | كاتبة وتربوية – طولكرم – فلسطين

التقيتُ إحدى معلّماتي في أحد المحلات، وأخذت أتساءل: رأيت هذا الوجه من قبل، لكن أين؟ لم أتذكر إلا بعد أن افترقنا، إنها معلمتي! ماالذي جعلني أنساها؟ كانت مِعوَلَ هَدم لا مِعوَل بناء، تسخر من الجميع بانتهاكٍ صارخٍ للإنسانية، تنظر إلينا نظرة سخرية بحدّة وعنف، تستوجب التجريم بكل القوانين، كانت بأسلوبها تخلق طالباً منسيّا مقموعا مهشّما مهمّشا غير واثق وغير متّزن، بليد الفكر؛ لأنها ساعدت على انحسار تفكيره، عندما أقنعته أنه غبي، كانت تستخدم عيارات موجعة قاسية تشرخ نفسه، حتى يقتنع هذا الطالب أنه كما تقول معلمته، فيرضى بالدونية في كل شيء، كيف نبني جيلا أفضل لحياة أفضل؟ كيف نمنع جيلا كاملا من السقوط ؟ كيف نحيي جيلا من العدم ؟ كيف نغيّر جيلا كاملا؟
على المعلم الخبير وضع خطة في فن الممكن والمسموح والمستطاع والإمكانيات المتاحة، يستطيع من خلالها تدريب طلابه من خلال التربية بالقدوة ، والتعليم بالقدوة، والإدارة بالقدوة، يقولون في الشريعة “فعل رجل في رجل خير من كلام ألف رجل”، فالمعلم القدوة يمكن أن يبني طالبا من موقف يديره أمامه قد يعادل خُطّب المنابر.
أنا مدينة لتلك المعلمة التي غابت في ذلك اليوم، يوم بعثتني المديرة لإشغال حصة إلى صف لم أدرّسه، دخلت الصف، بدا كل شيء لي غريبا، وجوه الطالبات متعبة جدا، عيونهن تدور، حدقاتها تائهة، تنظر في كل الاتجاهات على غير هدى، أصواتهن تعلو فوق صوتي الرقيق الناعم الذي لم يسعفني على إسكاتهن إلا بعد أن وعدتهن بسماعهن، بدأ الهدوء يسيطر شيئا فشيئا، سألتهن: “لماذا نجد طالبة عنيفة في صوتها وتصرفاتها وسلوكها؟” قاطعتني فجأة طالبة بصوتٌ مضطرب متردد: “يمكن أن يكون بسبب عنف أهلها أو أخ يضربها، أو أب يصرخ في وجهها، أو أم لا تفهمها”، ثم أقفلت حديثها بسرعة البرق، وكأنها تقصد نفسها، خيم الصمت لفترة قصيرة، ثم أصبح الحديث ذا شجون عندما قالت لي إحداهن: الكل ينكر وجود هذه الطالبة، ويقصيها في النظرات التي توحي لها أنها منبوذة أو غبية، لا تحفيز ولا مشاركة في الإذاعة، ولا مشاركة في المسابقات، قلت لها: أنت أخبر منا جميعا بطاقاتك وقدراتك، زاحمي هذا العالم وخذي مكانك الذي خلقك الله لأجله، اشحذي همتك بمولدات الإيمان والحياة والنجاح، لا تلتفتي إلى من يحبطك، أو يلغي وجودك، ستواجهين صعوبات كثيرة، ذلليها بالتحدي والمواجهة، وإثبات الذات، والإنجازات العظيمة، لا تنظري إلى نفسك على أنها لا شيء وسط التزاحم على التفوق، بل حدّثيها بجُمَلٍ إيجابية تشعل فيك حب الحياة والبقاء والنجاح، وكرري هذا الحديث حتى تهدمي كل جدران الخوف والضعف ، فيتقبله عقلك ويؤمن بها.
علّم طلابك أن يكونوا من أصحاب المعالي في طموحهم، ففي تاريخ الدولة الأموية في الأندلس كان هناك شخص اسمه “محمد بن أبي عامر”، كان يملك حِماراً، وكان يعمل حمّارا، ويسكن في كوخ على تل في قرطبة – العاصمة – مع ثلاثة شباب، وفي يوم من الأيام دارالمزاح بينهم، فقال لهم محمد: “إن صرت أنا الخليفة ما هي طلباتكم؟” انفجروا بالضحك قائلين له: “أنت حمّار، لن تصير خليفة، شكلك لا يوحي بذلك”، فقال لهم: “الخلافة لا علاقة لها بالشكل”، أعاد السؤال عليهم أكثر من مرة، وتحت إصراره، قال أحدهم: “أنا أريد قصراً منيفا، وحدائق غناء، وخيولا أصيلة، ومئة ألف دينار من الذهب”، التفت إلى الثاني وقال له: “إذا صرتُ خليفة ماذا تريد؟” فقال: “إذا صرتَ خليفة ركّبني على حمار ووجهي إلى الخليفة، وامش بي في الأسواق”! لكن الحمّار كان جادّا في طموحه، فكّر قليلا: “أنا في مكانٍ لا يؤدي بي إلى الخلافة، كيف أصبح خليفة إذن؟” وبالفعل أصبح شرطيا، وترقى حتى أصبح رئيس شرطة العاصمة، و شاءت الأقدر أن مات الرئيس، ووليّ عهده عمره عشر سنوات ، ولا بد من وصي للخليفة الصغير.
بدأ التنافس بين بني رؤساء بني أمية، اجتمعوا واتفقو عمل مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص ليسوا من بني أمية، فكان من بينهم رئيس الشرطة محمد بن أبي عامر، بعد شهرين فقط تفرد محمد بن أبي عامر بالحكم، ونقل أموال وأختام الدولة إلى قصره، فأصبح الآمر الناهي، ثم آصدر قراراً لا يسمح بأحد أن يلتقي الخليفة إلا بإذنه، ويمنع الخليفة الخروج من القصر إلا بإذنه أيضاً، عمليا هو الخليفة، لكنه يريد أن يصبح أعظم خليفة، فكّر كثيرا، ما الأمور التي تبني الدولة العظمى؟ فوجد الإيمان والعلم والقوة، فأصدر قرارات نادرة في التاريخ أهمها: تصفية الأخلاق في المجتمع كنشر الدعاة وإنكار المنكر، والقضاء على الفساد، وقرار آخر يحثّ على العلم، حيث خصّص لكل عالم يدرّس في قرطبة راتباً من خزينة الدولة، فأخذ العلماء يتوافدون إلى قرطبة.
وبعد انقضاء السنين تذكر المنصور من كان معه في الكوخ، وأمر الجند يإحضارهم إليه، فذهبوا ليجدوهم في نفس الكوخ ن بنفس الوظيفة ، بنفس الطموح، جاؤوا ودخلوا إليه وتعارفوا، ولم ينكر أصله، بل قال: كنت حمّارا معكم، وقال لمن حوله: “أعطوا القصور والحدائق والخيول ومئة ألف دينار لمَن طلبها مسبقا، والتفت إلى الثاني، وقال له: “أنت طلبت كذا وكذا” قال: “اعفني يا أمير المؤمنين!”، ولكن هيهات!
عدل سلوك الطلاب ببيان الثواب، و أسلوب الربط بالله والآخرة، في يوم بدر وقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحرض الناس، فقال: “قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض”، اربط الطالب بالأجر لا بالمكاسب الدنيوية، الربط بمعنى أسمى وأعلى حتى يدوم الأمر.
الرسول – صلى الله عليه وسلم – القائد يقبّل الأطفال، ويحضنهم ويلزمهم ويكسر كل الحواجز، ويقدم مكافأة الحب، فيتعلقون به لا من أجل الحوافز.
تعديل السلوك يكون بالتخلية قبل التحلية، أصفّي السلوك السّيء قبل زراعة السلوك الحسن، هذا يجرنا إلى الحديث عن الازدواجية، بعض الناس يقبل أن يكون من أصحاب السلوك السيء، ويبررونه باسم المصلحة يغشون ويخلفون المواعيد تحت مسمى المصلحة.
عزز تحسّن سلوك طلابك بالمكافآت المعنوية، كالمدح والثناء، قال الحسن بن علي رضي الله عنه: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : يابن المنذر، أتدري ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، كرر الرسول السؤال حتى أجابه: آية الكرسي، ففرح الرسول فرحا شديدا، وقال: لِيُهنِكَ العلم أبا المنذر، كيف عرفت؟ “وهنأه على المعرفة.
التعزيز بإظهار الحب والرضا عن المتعلم بإخباره أن سلوكه يرضيك، فعندما بعث الرسول – صلى الله عليه وسلم – معاذاً قاضياً إلى اليمن، قال له: كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: إن لم تجد؟ قال: بالسنّة، قال: إن لم تجد، قال: أجتهد برأيي ولا أتردد، فضرب الرسول على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
مِن أقوى وأعظم الأساليب في تعزيز السلوك هي المشاركة، مشاركة المتلقي في كل عمل أطلبه منه، وإطلاق الألقاب، الرسول – صلى الله عليه السلام – كان يطلق ألقابا على من حوله، سمّى أبا بكر بالصديق، وعمر بن الخطاب بالفاروق، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول، اتبعت هذا الأسلوب مع طالباتي، ووجدتُ فيه أثراً مميزاً.
هناك من يتفنن في كسر المعنويات، هناك أسلوب في النقد اسمه “النقد الإيجابي” بالمدح أولا، ثم ذكر النقص، الإنسان عندما يُنجِز إنجازاً ويطلب رأيك هو لا يطلب رأيك في هذه اللحظة هو يطلب مدحك، امدح وأجّل كل الملاحظات، امدح ولا تقل لكن، الرسول لم يقلها إلا بعد سنين من التربية لعبد الله بن عمر.
السلوك هو نتيجة مشاعر، والمشاعر نتيجة الطموح والأفكار والقيم والمعتقدات والمبادئ، هناك مصدران للأفكار: داخلي وخارجي، الخارجي مستمد من البيئة: البيت، المدرسة، المسجد، الإعلام، وتجارب الآخرين، حالية أو تاريخية، والمصدر الداخلي للأفكار ينبع من القراءة و التجارب التي مررنا بها، الفاشلة والناجحة، ونوعية القدوات، ومستوى التعليم، إذا كنتم تريدون تعديل السلوك عدلوا القراءة والتجارب التي يمرون بها، اجعلوهم يمرون بالفشل ليتعلموا، يقول الغزالي: “كلما عزّ المطلوب وشُرف، صعُب مسلكه، وطال طريقه، وكثرت عقباته، فالذي يكون هدفه صغيراً يكون سلوكه بسيطاً، أما مَن كان هدفه عظيماً لا بد من تربيته تربية عميقة، وإعطائه قراءةً من نوع مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى