المكافأة قصة قصيرة

عصري فياض | فلسطن

أغلق عزت الباب خلفه وهو يغادر منزله المتواضع ضحا ً إلى المقهى ليمارس طقوس البطالة اليومية من جولات في أوراق النرد، وطاولة الزهر، وشهق النرجيلة حتى تهمد جمراتها، وخرج إلى الحارة الصغيرة التي تعصف بصوت الصبية والأطفال، وعواء كلب يشكو حجارتهم ولسعات عصييهم الرفيعة، وهم يتلذذون في قضاء الوقت مع هذا “الزائر ” الذي أوقعه القدر بين يدي من حرموا الألعاب، وغابت عنهم متعة اللهو بالهدايا، ولم تتجاوز أحلامهم أفق حييهم الصغير.

أزعجه عواءُ وأنين الكلب النظيف والغريب، فصرخ بهم زاجرا، وأمرهم بتركه وشأنه، فحملوه وهرولوا تباعا حتى غابوا بين الأزقة، فهز رأسه وشق طريقه إلى المقهى وقد تذكر دنو افتتاح العام الدراسي الذي سيكفل احتواء اولئك الصبية في الفصول الدراسية، فقفزت في نفسه حالة استدراك أبرزت له قائمة استحقاقات تحضيرية تتطلب مبالغ من المال يستعصي عليه توفيرها، وخاصة أنه بلا عمل ولديه اربعة طلاب في المدارس يحتاجون للحقائب والملابس والقرطاسية والرسوم المدرسية.

جال في ذاكرته يبحث عن فرصة عمل منسية، يستهدي عليها لتستره امام متطلبات الايام القادمة وهو ينقل خطواته الثقيلة إلى المحج اليومي…. أفاق على صوت يناديه… التفت …. إنه أبو العبد البقال، يجلس أمام حانوته وهو يمسك الصحيفة ويبتسم قائلا:-

أقبل يا عزت…

 لبى عزت النداء بعد أن تذكر نقاء صفحة الديون المروسة باسمه في دفتر أبو العبد، وجلسا يتحدثان معا في الامور السياسية والاقتصادية الصعبة قبل أن يحضر أحد الزبائن ويدخل البقالة فيتبعه أبو العبد تاركا الصحيفة على الكرسي، فالتقفها عزت وأخذ يتصفحها بعد أن تأخر ابو العبد في تلبية مشتريات الزبون، فشده إعلان في الصفحات الداخلية يقول عنوانه ” أربعمائة  دولار لمن يعثر على كلب ضائع” تابع بشغف نص الإعلان بدافع الاستهجان، وأعاد قراءته مرة أخرى ،فدهش حينما أدرك تطابق مواصفات الكلب الضائع مع الكلب الذي كان مع الصبية…. قال في نفسه :- هل أغتنم الفرصة ؟ ؟ أربعمائة دولار مبلغ لا بأس به ……. انه يسد كثير من حاجاتي ومتطلبات بيتي وأبنائي ….. كل ذلك في ساعة على الأكثر …لمَ التردد ؟؟…

استل قلمه، ودون العنوان المذيل في قاعة الإعلان وألقى الصحيفة على المقعد وانطلق.

//

طوى الأزقة، وعبر الحارات وهو يحمل صندوقا من الكرتون لينقل به صيده الثمين باحثا عن أولئك الأشقياء، وأخذ يسأل الأطفال همسا لئلا يسمعه أحد ويستهجن فعله ،وفجأة … تناهى إلى سمعه عواء الكلب وأنينه المتواصل ،سار بحذر حيث مصدر الصوت ،إلى ان أشرف على ذلك المشهد… فانقض عليهم صارخا بأعلى صوته ،ففروا جميعا في كل الجهات، ولم يبقى غير ذلك الشقي الممسك بحبل الكلب المشدود على رقبته… فبكى الصبي المذعور بعد أن مال عليه عزت، فترك الكلب وقد فاز بالنجاة ،فأسرع عزت في إدخال الكلب في الصندوق، وتحركت أقدامه تمحل نفسه المحتاجة إلى ذلك العنوان.

//

تمسمر طويلا أمام تلك “الفيلا” الأنيقة وهو يدقق بالعنوان، ويقرأ اسم صاحبها المطابق لما ورد في الإعلان… تقدم بخطى بطيئة من الجرس الناطق، ومد شاهده قارعا بلطف محتوم بالواقع الذي يشاهده…. سمع صوتا نسائيا يسأل عبر سماعة الجرس الناطق :- من هناك ؟؟

رد بلهجة مأدبة خجولة :- انا عزت

أتبعت جوابه بسؤال سريع :- ماذا تريد ؟؟

قال :- أحضرت كلبكم الضائع …..

أغلقت تلك الموجة السمعية بقولها :- انتظر لحظة ..

دقائق… وكانت تلك السيدة الشقراء تهرول نحو الباب حيث يقف عزت، فوصلته وقالت :- أين الكلب ؟؟

أجاب عزت :- صباح النور يا مدام …ها هو في الصندوق ….لقد خلصته من بين أيدي الأشقياء بصعوبة ..

حركت إصبعها آمرة :- إفتح الصندوق لكي أرى إن كان هو أم لا …

إنصاع عزت وفتح الصندوق من أعلاه، فصعقت الشقراء لما رأته من آثار الأذى الذي لحق بالكلب وصرخت قائلة:- من فعل به هذا؟!

رد بهدوء محاولا تهدأة غضبها :- أطفال

قالت :- إنهم وحوش ..أعطني الكلب حالا..

قال :- لا مانع …. ولكن أريد مكافأتي ..

قالت :- ليس قبل ان تدلني على اولئك الاطفال المتوحشين لأبلغ الشرطة ليأخذوا جزائهم .

وشرعت شتما ونعتا بطريقة أثارت عزت فرد بغضب :- أرجوك كفى … أحضرت كلبكم .. أعطوني مكافاتي

قالت بازدراء :- إن لم تبلغني عن أولئك الأولاد وذويهم … سأسلمك للشرطة ……

علا الصراخ، فتجمهر بعض المارة وحاولوا التدخل لفض الإشكال، فيما حملت هي الكلب ودخلت المنزل غير آبهة به، فشعر بالغبن، وأخذ يصرخ وهو يهز الباب بكلتا يديه مهددا بفعل الكثير إن لم يحصل على أجره … فظهر رجل أنيق المظهر صامت القسمات… تقدم نحو الباب، فساد الصمت والانتظار حتى وصل الباب، فاستل من جيبه رزمة سمينة من الدولارات وعد منها أربعا من فئة المئة وناولها لعزت وقال بلسان جاف:-

مع السلامة….

عصر عزت النقود في يده وقد أعياه التوتر والغضب، فاغرورقت عيناه بالدموع قبل أن يشرع في تمزيق النقود بهدوء ينم عن إحساس جديد، وألقى قصاصات الدولارات في وجه ذلك الرجل قائلا:-

أجرى على الله في إنقاذ ذلك الحيوان المسكين، أما أجري عندكم فانا بريء منه … وسأبقى عزت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى