الإنسانية ودينُ المُسْتقبل

زكريا كوردي | أمستردام – هولندا

في كتابه ” مُستقبل العلم ” أفصح الفيلسوف والمفكر الفرنسي إرنست رينان (.1823-1892) عن اعتقاده الراسخ بأن الأديان بمختلف أنواعها ومشاكلها إلى زوال، وأن دين المستقبل سيكون النزعة الإنسانية الخالصة، وقد أوضح ما عناهُ بذاك الدّين الجديد والأكيد القادم، بأنه سيكون عبادة كل ما ينتسب إلـى الإنسان وتقديس الحياة الإنسانية ورفعها إلى قيمة معنوية سامية عليا ..
لقد آمن رينان بشدة أن العِلم سيُنقذ الإنسانية في المستقبل، وأنّ العصر الذي يسود فيه العقل ويصل فيه الانسان الى الكمال والوئام المنشود آتٍ لا محالة، لأن العلم في معناه الواسع من حيث هو تنظيم المعرفة جميعها على اختلاف ألوانها، هو الذي سيحل باستمرار كل المشكلات التي تواجهها الإنسانية .. بما فيها مشكلة الموت وهو ما ذكرني بالعملية الخطيرة والمنتظرة لزراعة رأس إنسان في جسم إنسان آخر ، التي سيُجريها هذا العام الطبيب الإيطالي سيرجيو كنافيرو بمساهمة 150 مختص ، والتي إذا ما نجحت كما هي التوقعات العالية حولها ، ستخلق جدلاً فكرياً كبيراً جداً ، وتفتح باب الأسئلة العلمية والفلسفية على مصراعيه حول ماهية الحياة وكنه الروح وحقيقة الموت ..وما إلى ذلك ، من جواهرٍ تقوم عليها الأديان وكثير من العقائد بشكل عام .
أما بالنسبة إلى رينان فقد أكد أن لا مناص للإنسان سوى أن ينحو منحى العلم والإيمان به ، بديلاً عما يؤمن به الآن من أديان أخذها عن غيره ، وباتت تصطدم أجوبتها في أمور الحياة مع أبسط بسائط العلم الحديث ..
وقد طاف في خلدي وأنا أُغلقُ دفتي هذا الكتاب الهام ، تساؤلات عديدة ومُقلقة ، تدور في معظمها حول مدى صلادة تلك الحدود المُتعددة التي مازالت تفصل بين بني البشر ، مثل : اللغة / العرق / الدين / الجنسية / ..الخ
و تذكرتُ كيف أن الأديان وتعاليم بعض العقائد لعبت دوراً في كثير من الحروب في التاريخ البشري ، حيث كانت – وربما بعضها مازال – المُحرّك الرئيس للحروب الأهلية ، وأهم مصادر بثُّ الفرقة وأفكار الكراهية والتمييز بين البشر ،
واستذكرتُ أيضاً كيف شكّلَ الايمانُ الأعمى بالتعاليم المُقدسة وطاعتها كلٌ حسب فهمه وتفسيره لنصوصها ومقولاتها أبرز الأسباب في قتل الانسان لأخيه الانسان ، وكذلك كيف كانت الحروب في كل العصور ومازالتْ تُغلَّفُ بشعاراتٍ دينية حتى الآن ، (من فتح وجهاد وغزو وحماية واستعمار و …الخ).
وبالرغم من معرفتي اليقينية أن هناك فوارق واقعية في تأثيرها وحقيقية في وجودها الحالي بين البشر ، لكن في الحقيقة مازلت أجدُ في خاطري الحاجة المُلحّة كي أتساءل بكل عفوية وصدق :
تُرى أما آن الأوان كي يدفعنا عنف هذا الإختلاف الديني المرير إلى الإئتلاف ، والسعي نحو خلق المعراج الحقيقي للإنسان ، ونبذ الخلافات بالحوار ، والركون إلى صدق الاعتراف بالآخر ، والتبصر فيما نؤمن به وما نعتقده مُطلقاً في صوابيته ..
أما آن الأوان كي نجعل هذا العالم خالٍ من المُفرّقات القليلة والاهتمام بالمُوحّدات الكثيرة ، وعلى رأسها السير مُوحّدين قدماً في طريق العلم وحقائقه الواحدة ، التي يُجمع عليها كل الناس على اختلاف مشاربهم ، ومن ثمَّ الاتجاه بالإنسانية نحو صالحها ورغد مصيرها في فردوس العلم والمعرفة الذي بشّرَ به المُفكر العظيم رينان ..؟!
ترى أليس من الأجدى التخلي عن نواجذ تلك الفوارق المقيتة من ( دين – عرق – طائفة – أثنية – ) التي مازلنا نقيم منها سدوداً تحجّزُ بيننا ، وتُشكل عامل تفرقة في أفهامنا، أو تسمم فينا القلوب والعقول بالأحقاد والضغائن، و تمنعُ عنا حقيقة أساسية هي أننا جميعا وبرغم من كلّ شتات افكارنا وتناحر عقائدنا و تلوينات جلودنا ، ننتمي إلى طائفة واحدة تدعى ” الإنسانية ” وأننا جميعا شركاء وأخوة حقيقيون مع باقي الكائنات على هذا الكوكب وغيره من العوالم في هبة أُمّنا الطبيعة الأسمى ألا وهي ” نعمة الحياة ” ..
قصارى القول : لعل الأديب والشاعر إلياس فرحات أوجز الحقيقة حين أنشد قائلاً :
مادمتَ مُحترماً حقي فأنتَ أخي آمنتَ بالله أم آمنتَ بالحجر
وللحديث بقية …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى