على رفوف الزمن

هند خضر | سوريا
كانت تعيش بهدوء داخلي، روحها مليئة بسلال المرح حتى أنها كانت توزع منها لكل من يحتاجها، بمعنى آخر تنشر الفرح في كل مكان لأنها تؤمن أن السعادة تولد من رحم العطاء ..
لديها قدرة تفوق الوصف لامتصاص حزنك القابع في كيانك والمتمكن من خلاياك ..
كان ثغرها مبتهجاً، ابتسامتها فاتنة هكذا كانوا يقولون لها
بل أنها تكفي لإيقاظ شمس الصباح ما إن لمحت مبسمها ..
تحوم حول الزهور كفراشةتجمع الرحيق، ثم تحلق في الفضاء وتتراقص من لذة تستقي منها ..
هكذا كانت، لم يستطع اليأس أن يتسلل إلى قلبها ،لم تسمح للقنوط أن يخترق تلافيف دماغها ولا حتى العبث بها ..
ضحكتها عالم آخر معجونة بالسحر مضافاً إليه قطرات من ماء حلو المذاق رغم كل الظروف ،تجعلك تشرد بها بشكل غير معقول ..
أنوثتها طاغية لم يتمكن أحد النيل منها.. بقيت على هذا الحال إلى أن دارت أيامها وأردتها قتيلة بين براثن المسمى بالحب،سقطت سهواً، ضاجع العشق فؤادها فأنجب أنثى رمادية اللون، حساسيتها مفرطة للدرجة التي تسقط معها شلالات مالحة من عينيها، دائمة البكاء والنحيب، عاندها حظها فشعرت أن قدومها إلى الدنيا كان خطأً ..
تغيرت مجريات الأمور في أعماقها، لقد مدّ الوله يده إلى تلك القطعة التي تركن في الجزء الأيسر من صدرها في لحظة ضعف وقام بالسطو عليها وسلبها نعمة الإحساس، لطالما اعتقدت أنها بالحب ستجد الروح التي تحتويها، ستقابل المحبوب الذي انتظرته على شواطئ العمر راكباً في زورقه ليأخذ بها إلى ما وراء البحار حيث الرومانسية اللامحدودة، الهمسات الناعمة في الليالي المخملية، الموسيقا المفضلة، باقة من النرجس الموضوعة بجانب فنجانين من القهوة الصباحية التي يُعدّها بيده فيدغدغ مشاعرها ما إن تناول رشفة من كوبها وهي كذلك ترتشف من كوبه فتثير عواطفه، العطر الذي ينثره على عنقها من أنفاسه ليفتعل عناقها و…
انتابها إحساس أنها عندما تحب سيزهر اللوز في رئتيها، وبأن العاشق المنتظر سيقطف لها نجمة من السماء ليضيء بها شفتيها ،سيعتّق لها الغرام في قلبه ويسقيها من كأسه، لكن سرعان ما نهضت من تحت الأنقاض لتجد نفسها مهشمة،كالعائدة من الحرب مجروحة، مهزومة ..
على رفوف الزمن التي غطاها غبار الضياع مركونة كدمية لعبت بها اليد كثيراً ثم تخلت العين عن شغف النظر إليها فوضعتها جانباً، بقربها لا يوجد إلا أمنية وحلماً مكسوراً عاشت في سجنه، بقيت رهينة في منفى انكساراتها وحولها صرخة مدوية وصل صداها إلى السماء منبعها ضجيجها الداخلي وتيهانها بين نعم ولا، ممكن ومستحيل، واقع وخيال وبين أحبها أم لم يحبها …
لاشك بأن التيه هو أصعب مرحلة وصلت إليها،مؤلم جداً ما يعترض أفكارها ،تارةً حبيبة وتارةً غريبة، يالها من مسألة معقدة يعجز العالم عن حلها! أضلت الطريق إلى أمانها و طمأنينتها، أمسى الخوف رفيق لياليها الباردة الطويلة، بدت عليها ملامح الموتى فقد اختفى وهج الحياة من وجهها وغدت أطرافها باردة ..
اليوم تشعر بتفاهة كل شيء وهذا ما يُعرف بالانطفاء الأخير، هي بأمسّ الحاجة لمن يضيء عتمتها فقد انطفأت شعلة الأمل في أعماقها ورغم ذلك تشتعل كشمعة وتحترق لتنير الظلام لمن حولها، بالتحديد لمن عاش وسط تكويناتها ومشى كالدم في شرايينها ..
ليس غريباً عنها أن تجدها بجانبك بنفس الوقت الذي تفتقد لوجودك بجانبها، تهبك من سرورها وتدع الأحزان تطوّقها من كل جانب، تجمع شتاتك من عمق لحظات تمزقها وتناولك بيديها الدواء وهي أكثر من يحتاجه ليساهم في شفائها من مئة علة أرهقتها ..
هكذا أصبحت، جروحها نازفة بلا انقطاع، تمضغ ألمها بكبرياء قاتل، تنتظر بفارغ الصبر اللحظة الحاسمة للهروب من وجه قدرها الذي مازال يطاردها كي يمسك بها ويخضعها لمشيئته ..
لقد حكم عليها زمانها بالعيش في دائرة الموت البطيء عندما أوقعها في هوى مرسوم على حدود الأيام ولكنه خارج الوقت، لم تكن أحلامها على مقاسها لهذا أقفلت قلبها رغماً عنها و وضعته خارج نطاق التغطية …
رفقاً بها وبما تبقى منها أيها الوجع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى