تجاعيد الماء (12)

سوسن صالحة أحمد | كاتبة سورية تعيش في كندا

(عافية)

مستلقية على أريكة منذ زمن ليس بالقصير لم تستلق عليها، مرت أيام طويلة نسيت معها متعة الاستلقاء تلك، لمتابعة بعض البرامج على التلفزيون أو سماع مقطوعة موسيقية تريح بها روحها من تعب النهار، تُسْكِتُ ضجيج حركته في رأسها.

واليوم، شعرت بالعافية، حملت كتابًا، عاشت مع كل عبارة فيه بعد أن فارقها التركيز ردحا لا يُستهان به من الزمن، كانت دومًا كجهاز نقال خارج نطاق التغطية، لا يلتقط من العالم حوله أي شيء، لا يتفاعل مع محيطه، لا نفع به حتى لذاته.

كانت الصدمة أقوى من أن تحتملها، أغرب من أن تخطر في بالها، لم تدركها يومًا توقعاتها، فهي ما انتظرت من الصدق إلا الصدق.

كانت متأكدة أن القِطاف من جنس الزرع، لم يخطر ببالها أن النباتات المُتطفلة من المُمكن أن تقضي على الزرع مهما بلغت شدة الحرص عليه والعناية به، هي لم تعتد التعايش، هي، تحب وتريد أن تعيش.

مُستلقية على تلك الأريكة حينَ دخل ورآها، ظنّ أنها تعيش مسرحية من المسرحيات التي بات تمثيلها واقعًا بين بطلة وبطل هما الممثلان الوحيدان لها على مدى بضع سنين، عاوده استغراق يعيشه بانتصار نصفه الذكر، فأقبل وطبع قُبلة على جبينها، هو طقس خارج عن المشاعر والأحاسيس، لم يعد له معنىً في نفسها منذ زمن طويل، يساوي زمن غيابها به عنها.

_أهلا. . هل أعد لك العشاء؟

_لا. . لقد تعشيت مع أصدقائي في المطعم

مرّت لحظات وهي مُنشغلة بفيلم تتابعه

_لم تسأليني من هم أصدقائي كالعادة

_لايهم، نغير العادة، والإجابات باتت معروفة، فما الفائدة من التكرار

_هل هي حرب جديدة؟

_ بل، سلم جديد

_لهجة جديدة؟ !

_ ستعتادها، ليس من الآن سواها

_ وأي معنىً لكل هذا؟

_ أي هذا؟

_ وهل لديك أكثر من هذا واحدة؟

_ لدي أنا واحدة، سأشير لها بكل هذا تسعدها

_لغة جديدة!

_ ما بك ترى كل شيء جديدا اليوم؟

_ وضعك اليوم مختلف، وهذا يجعلني أرى أشياء جديدة

_ وهذا أيضًا، عليك الاعتياد عليه

_ علامَ أعتاد؟

_ وضعي الجديد

_ المختصر بِ؟

_ أنا فقط

_ أنانية؟

_ بل حب

_وأي انتصار تحققين؟

_ تركت الحرب التي لم أدخلها أصلا وقد جعلتني طرفًا فيها، لا أسعى لانتصار ولا أخشى هزيمة، ماكنتُ أراها حربًا، كنتُ أراها وقفات على أطلالٍ قادمة لامحالة، وبتّ أرى أول مشاهدها

وكان قد انتهى الفيلم الذي تتابعه، نهضت من على أريكتها متوجهةً إلى غرفتها

_ إلى أين؟

_ أريد أن أنام

_ دون أن أدفئ لك الفراش كما اعتدتِ

_ نغير العادة أيضًا، لقد قضيتَ على مُنبهات البرد عندي، سأكون بخير

_ أمرك عجيب اليوم!

_ وأي عجب فيه؟

_ تتغيرين

_ بل تغيرت

_ كيف؟

_ كنتُ مُحتلّة وتحررت

_ عن أي احتلالٍ تتحدثين؟

_ احتلالك

_ وهل تعتبرينني عدوًا لأكون محتلًا؟

_ أولا الاحتلال ليس دومًا من عدو، ثانيًا أنت الآن لا عدو ولا صديق

_ تتحدثين دون حساب لردود أفعالي!

_ ألم أقل لك تحررت منك

_ هناك ورقة تمنحني حقوق

_ الورقة رباط خارجي ظاهر للعيان، تستطيع الحصول على ما يعتبره الظاهر حقا لك، لكن وحدك، ليس لدي داخلي ما أقدمه لك، داخلي خلا منك، لم تعد هناك حيث لم آلُ جهدًا أن لا تفارق

_ ألا تخشين أن أتحرر منكِ؟

_ ليتك تتحرر مني، بل ليتك تتحرر منك

_ أتحرر مني! ؟

_ نعم، أنت تحتل ذاتك، بل ذاتك تحتلك، احتلال مركب من الصعب أن تتحرر منه، من هو مثلك لن يستطيع مفارقة أناه لتسكنه وترافقه أشياء أخرى سواها

_ إلى أين إذا؟

_ إلي، ومن ثم فليكن أي شيء

_ ترحلين؟

_ بل أعود

_ لم أعد أفهمكِ

_ ومتى فعلت؟

ضحكت، ومشت إلى سريرها دون انتظار إجابة، وهي تقول نصف جملة: تصبح على. .

ومضت تاركة إياه مستغربًا ملامح العافية في روحها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى