ثقافة الفقر الأنيق

إياد شماسنة – بيت لحم – فلسطين

ليس بوسعِ الكتابة أن تحقِّقَ رسالتَها؛ مهما كانتْ قضيتها الا إنْ كانتْ كتابةً جيدةً، فالأدبُ والفنُّ الرديئان يروِّجُ لهُما فقراءُ الثّقافة الأنيقون، ذوو الياقات المنمَّقةِ، وكتّاب الجملةِ الجاهزة المصنَّعَةِ مسبقا لتناسبَ كل موقفٍ على حدة. هذه الثقافة أكثر ضررا من السلاح الرديء الذي لا يردع عدوا ولا ينصر صديقا.
قد لا يكونُ الأدبُ الرديءُ مجرّد عدم اتقانِ أَبجدياتِ الأدبِ، أو ضعفِ امتلاكِ مهارات الكتابَةِ الرّاقية، بل إنَّهُ يصبحُ تتويجاً لتصوراتِ قادة في مواقعَ متقدمةٍ بوعيٍ سطحيِّ ورؤيةِ ضيِّقةٍ، مشوَّهةٍ، ومطامِحِ طاغيةٍ.
ذلك القياديُّ في وعيهِ الرديءِ يرضى عن الفنِّ أو الأدبِ الذي يجاريه أو يمدحه أو يستُرَ ضعفَهُ ويبرِّرَ فشلَهُ، مثلَما يرضى المقاتِلُ الجبانُ عنْ أيِّ قصيدةٍ تمدحُ هروبَه على أنَّهُ تكيتيكٌ، واستسلامَهُ على أنَّه صناعةٌ للسَّلامِ، ويعلنونَ عن انتصاره التاريخيِّ، ويقدِّمونه كما يقدِّمون فارسَ الفُرسان في عصر النهضة.
عندما قرأتُ مقولَةَ رئيسةِ الوزراءِ البريطانيَّةِ الأسبقِ مارغريت تاتشر (“أحبُّ النِّقاشَ، أحبُّ تَداوُلَ الأمورِ. لا أَتَوَقَّعَ أنْ يَجْلسَ الجَميعُ ويتَّفِقَ مَعي، هذهِ ليستْ وظيفَتَهُمْ”: 1980)، تذكَّرتُ النَزَعاتِ التخوينيَّةِ في نقاشاتِنا البائِسَةِ؛ الَّتي تَتَّهمُ المُثَقَّفَ الحقيقيَّ بالتشكيكِ والخيانَةِ في شرقِنا الجميلِ، لأنَّهُ أظهرَ أوْ قدَّمَ رَأياً مختلفاً أوْ توصَّلَ الى فكرةٍ علميَّةِ أوْ سياسيَّةٍ أوْ استنبَطَ حُكماً مغايِراً، ابتسمتُ بمَرارَةٍ عِندَما تذكَّرْتُ حِواراً معَ صديقٍ. قلتُ لهُ إنَّ الصحابة ” ” ليسوا معصومين، فقال، ومن أنت كي تتَّهمَ الصَّحابَة بالخَطأِ!! عندها تأكَّدت أنّني في ورطّةِ حقيقيةِ، وبعدَ ذلكَ عثرتُ على مُصْطلحِ “ثقافَةِ الفَقرِ الأنيقِ” في كتابِ الأُستاذِ “فيصلْ درّاجْ” عنْ بُؤسِ الثَّقافَةِ الفِلَسطينيَّةِ.
تقولُ الثَّقافَةُ بضروراتِ الابتكار والإبداعِ، ومنهما يُخلقُ التجديدُ، لكنَّ ثَقافَةَ الفَقْرِ الأنيقِ يُمارِسُها فُقراءِ الوَعيِ والبصيرةِ، لَهُمْ هامِشٌ ضيِّقٌ جداً واطِّلاعُ بسيطٌ، وَهُمْ مَنِ ارْتَضوا التَبَعيَّةَ وبرّروها، والتبعيَّةُ قيدٌ وإذعانٌ، وتقليدٌ، والتقليدُ يزعجُه الابتكارُ، ويخافُ منهُ ويحاولُ اقصاءهُ. يردِّدُ هؤلاء شعاراتٍ مكررَّةً، وقوالبَ مستعملةً، يمتطونَ عنُفَ البلاغَةِ تنمُّراً لا أدباً وفصاحةً؛ منْ أجلِ المحافَظَةِ على مسافَةٍ آمنَةٍ بينَ الجَميعِ ضماناً للبَقاءِ بينَ أَصحابِ السُّلطةِ والمصالِحِ والمنافِعِ، وعلى مَساسٍ معَ الثَّقافةِ وأَهلِها.
بعدَما كَتَبَ اولييه روا عنِ الجَهلِ المُقدَّسِ، أصبحَ منَ الواضح مفاهيمياً خطورةَ الفقرِ الأنيقِ؛ إنَّهمْ كُتّابٌ لا يقرؤونَ، بلا ثقافةٍ نوعيَّةٍ الثَّقافةُ النوعيَّةُ تخصُّصٌ وعمقٌ ومنهجٌ، ولا يمكنُ لِحاصدي المعلوماتِ أنْ يَكونوا مُثقَّفينَ نوعيينَ، إنَّهُم لَيْسوا أَكْثَرَ منْ قراصِنَةِ فُرصٍ، وأقلَّ منْ أقراصٍ صلبةٍ لتخزينِ المعلوماتِ، دونَ ربطٍ منهجيٍّ بينها، وهم مصدر اضطراب فكري ومعلوماتي وعقائدي.
المثقَّفُ بلا ثقافةٍ، والمتديِّنُ بلا ثقافةٍ، والمستَثْمرُ بلا ثقافةٍ، كلُّهُمْ فُقراءُ، بلْ متسوِّلونَ، وهُمْ عائقٌ خطيرٌ بين الجودةِ والوُصول إليها. إنَّهم يُغرقونَ البَلادَ والأَسواقَ بِمُنتجاتٍ رديئةٍ، ثم يَصيحونَ في كُلِّ وادٍ إنّ “أُمَّةِ إقرأْ؛ لا تقرأ”. وماذا ستقرأُ هذه الأُمَّةُ والرديءُ يملأُ الرفوفَ؟ وللمعرفة ألفُ مصدرٍ آخرٍ غيرَ كتابٍ رديءٍ أوْ منتجٍ ثقافيِّ باهتٍ.
وماذا تقرأ النّاسُ من الرداءَةِ؛ وطوفانٌ من السخافةِ يجعلُهم يائسينَ، والثَّقافَةُ معرفةٌ، والمعرفة اليومَ صناعةٌ ومهارةٌ وعلمٌ وفنٌ، لها عشراتِ السُّبُلِ، والثَّقافَةُ معلوماتٌ وسلوكٌ ومناهج، وللمعلوماتِ مصادرُ متعددةٌ موثوقَةٌ وليس مجرَّدَ مُتَنَطِّعٍ فقيرٍ، أو مغرِّدٍ بمجدِ السُّلطاتِ، والمصادِرِ الأتيةِ من وسائِلَ أُخرى أكثرُ دهشَةً وإثارَةً وإتقاناً، والإتقانُ مدهشٌ وشيِّقٌ، والتشويقُ منافِسٌ أعظمُ أمامَ صُنّاعِ المعرفَةِ ومنتجيها والمستثمرين فيها، فأينَ سيجدُ الفُقراءُ ذوي الياقاتِ موقعاً ثقافيَاً ومعرفيّاً وتنافسيَّاً يصولونً بهِ ويجولون.
لقد أصبحَ الكسادُ وافراً وخصيباً لهُ أهلهُ ودُعاتُهُ، وَأَصْبَحَ كُلُّ عابِرِ سبيلٍ أوْ سريرٍ يَدَّعي مجداً أدبيَّاً أو ثقافيَّاً، وكلٌ ينصِّب نفسهُ فَيلسوفا يفكِّكُ أسرار الكتب المقدسة، ويحل غموض حجر شامبليون – رشيد، وأَنَّهُ أَدركَ ما لم يُدركْهُ نيتشة وهيجل وماركس وابن سينا والفارابي. وهناكَ خلطٌ عظيمٌ بينَ المعرفَةِ والعلمِ والتَّخَصُّصِ الدَّقيقِ، مع أنَّ الأصلَ أنْ تَتَضافرَ جميعاً، فالعلمُ معرفةُ، والتَّخصُّصُ معرفةٌ متقدِّمةٌ ودقيقةٌ، لكنَّ الفقراءَ الانيقين يعتبرونَ كُلَّ معرفةٍ ثقافة، وكلَّ حاملِ قلمٍ كاتب، بلا تمكُّنٍ أو تخصُّصٍ أو مَنهجٍ عِلميٍّ، وبذلكَ عمّتِ الرداءةُ، وَطَغَتْ رائحةُ التَّردي والكسادِ على أسواقِ الوُرودِ، وبقينا بعيدينَ عن الأُممِ في السِّباقِ الحَضاريِّ مئاتِ الأَعوامِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى