انتحار الآباء من مناهج الأبناء

توفيق أبو شومر – غزة – فلسطين

منذ أيام معدوداتٍ مرَّ خبرٌ خطيرٌ، حدثَ في قرية فلسطينية بالقرب من نابلس، بدون أن يُثير اهتمام كثيرين، بالتحديد يوم 22/4/2014.
حاولتُ أن أستقصي سبب مرور الخبر بدون أن تكون له أصداءٌ واسعةٌ، فرجَّحتُ الاحتمالات التالية:
الخبرُ ليس سياسيا، فالسياسة وحدَها، هي الطعامُ الشعبي الفلسطيني الشهير، كما أن الخبرَ ينتهي بفاجعةٍ وموت، ولأننا معتادون على الفواجع والمآسي، فإن الخبر كذلك لم يُحرِّك فينا الحميَّة، ولم يُثر حتى كثيرا من الإعلاميين ليتابعوه، ويرصدوا آثاره!
كما أن الخبر َلا يرصدُ إلا ضحيةً واحدة، ونحن كغيرنا من أمة العرب، أصبحنا نقيس فواجع القتل والدمار بالأعداد والأرقام، ولم تعد أسماء القتلى تَهُمُّ العربَ، بفعل جرائم القتل والدمار الجارية حتى كتابة هذه السطور! الخبر نقلته على حذر بعض الصحف الفلسطينية الإلكترونية، ويعود الفضلُ في نشر الخبر للدكتور عدنان ملحم، من جامعة النجاح في نابلس، والخبر هو حادث انتحار البرعُم الطري، فارس مشاقي في الصف الثامن، وهو في عمر الزهور، في سن الرابعة عشرة، في إحدى قُرى مدينة نابلس، ولم يكن الانتحار بسبب القهر الاجتماعي والضائقة الاقتصادية، ولا بسبب عُنف الأهل وقسوتهم، وليس كذلك بسبب قهر الاحتلال.
ولكن الانتحار كان بسبب [ منهاج] مادة التربية الوطنية، المقرر على الصف الثامن في المدارس الفلسطينية!
بحثتُ عن أداة الجريمة!! فوجدتُ كتاب التربية الوطنية للصف الثامن، والمشاركون في تأليف الكتاب هم ثلاثةٌ وثلاثون مؤلفا وباحثا ومشاركا، إنه كتابٌ مثيرٌ للألم، محرضٌ للنقد، وهذا مما دعا مكتشف الجريمة، أن ينشرَ وصيةَ البريء المنتحر، بخط يده في ثلاث صفحات، والتي تهُزُّ مشاعرَ قُساةِ القلوب!!
المنتحر البريء يطلب المغفرة من أبيه لأنه (سوَّدَ) وجه أبيه، فلم ينجح في مادة التربية الوطنية!!
قال لي أحدُ المُحاورين ممن أرسلوا لي الخبر:
انشروا هذا الخبر قبل أن ينتحرَ الآباءُ أيضا والسبب؛ مناهج الأبناء، أنا لم أعد قادرا على متابعة أبنائي في مدارسهم، لأنني أصبحتُ مدرسا فاشلا من وجهة نظر المناهج المدرسية، فعلى الرغم من تفوقي وشهادتي وكفاءتي، فإن المناهج المدرسية الحالية، ولا سيما في التربية الوطنية محبطةٌ للآباء قبل الأبناء، فقد اختبرتُ نفسي في كتاب الصف الثامن، فاكتشفتُ أنني لا أستطيع الإجابة عن أسئلة الكتاب، لا لأنها صعبة، ولكن لأنها تافهة:
أرجو أن تطرحوا هذا السؤال على أنفسكم:
ما الفرق بين الأسرة النووية، والأسرة الممتدة؟
إن فلسفة الكتاب وفلسفة مؤلفيه الأشاوس تتجنب التعريفات المشهورة للأسرة:” الأسرة الصغيرة” “والأسرة الكبيرة” فاستبدلوها بتعريف (بليغ) !! الأسرة النووية، والأسرة الممتدة!!! وسيجد أصحابُ التعريف عشراتِ المبررات الفلسفية لهذا النحت، غير الجميل!!
وهل تعرفون عما يتحدث التعريف التالي:
” هي مراعاة توقيت الإنجاب، بمعنى تباعد الولادات، ومراعاة ظروف الأسرة وعمر الزوجين؟”
إن هذا التعريف مخصوصٌ للصحة الإنجابية، وعلى الطالب أن يحفظه غيبا كما هو، وألا يشذ عن مفرداته إذا أراد أن ينجح!!!
وهل تعرفون العامل (الرايزيسي) أي الآر إتش والثلاسيميا، وهل تحفظون جداول معدلات الوفيات والأمومة في فلسطين؟!! كلها ضمن منهاج التربية الوطنية؟!!
وهل تعرفون بأن كتاب التربية الوطنية هذا، يُجبر الطلاب على حفظ التعريفات غير الصحيحة، مثل:
“قوانين الأمس لا تصلح اليوم”؟
بعد تصفحي للكتاب أدركتُ أمرين:
الأول: الرغبة في تثقيف الطالب وتوعيته، وهي الحُجَّةُ التي يُسكتُ بها سدنةُ التربية والتعليم منتقدي الكُتب المدرسية!!!
أما الثاني، فهو أن هناك فرقا بين وضع خطة كتاب، وبين إلزام الطالب بحفظ أسطر الكتاب، ومحاكمة الطالبِ غيابيا على هذا الحفظ، والحكم علية بالحياة أو الموت، بناء على دقة الحفظ!!، بعد تحويل أسطر الكتاب إلى جرعات دوائية إجبارية،وبهذا ينجو مؤلفو الكتب، وموجهو التربية والتعليم من اللوم، ليضعوا المسؤولية على كاهل المدرس المقهور!!
إن إلزام الطالب بالحفظ وإعادة كتابة النصوص كما هي في الكتاب، جريمةٌ مدرسية، تُشوِّهُ النسلَ الثقافي والفكري لإبنائنا، وتؤدي في النهاية إلى اغتيال الإبداع!!
كما أن مادة التربية الوطنية يجب أن تكون هي المادة الأكثر شعبية بين الطلاب والمدرسين، لأنها مادة حُرَّة، يجري فيها النقاش، وتبادل الأفكار والآراء، وهذه المادةُ مسؤولة أيضا عن اكتشاف المواهب بين الطلاب في معظم مجالات الحياة، فهي مادة إبداعية عملية!!
لذا يجبُ أن تُمنحَ أعلى الدرجات في مادة التربية الوطنية، لمن يكتبون إجاباتٍ إبداعيةً، تختلف عن الكتاب المدرسي المقرر!!
وأخيرا فإنني أعتقد بأن الغايةَ من إلزام الطلاب بحفظ المقرر حفظا، ليست غايةً تربويةً بريئةً، بل إنها مؤامرةٌ، ليس لإحباط أبنائنا ودفعهم للانتحار فقط، بل إن الغايةَ هي دفعهم لكُرْهِ الوطن نفسه، ومِن ثَمَّ الهروبُ منه!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى