عبد الوهاب المسيري والرعاع

د. خضر محجز – غزة – فلسطين

يختلف الفلاسفة حول مصدر الوعي: أهو نتاج المصلحة أم نتاج المبادئ. ولا يكون هذا الاختلاف عند التطبيق إلا ناتجَ الرغبة: الرغبة التي يمكنها أن تشكل وعياً قَبْلِيَّاً، إن صدرت عن شخص محايد، يرى إلى الأشياء من خلال ما تقدمه من فوائد على صعيد الذات.
والرغبة شيء فطري مركوز في البشر، يقرر لك الأولويات: فإما ميل باتجاه الجمال الكلي، وإما ميل باتجاه الجمال الذاتي. وكثيراً ما يكون الجمال الذاتي قبحاُ من وجهة نظر الحقيقة.
كيف نعرض قراءة المشهد الوطني على هذه المقدمة الكلية؟
لا بد من فحص ذلك على صعيد الواقع، لنفهم. فالبشر لا يستطيعون معرفة شيء من خلال العدم، بل لا بد من معرفة أولى يقيسون عليها ما سواها من المعارف.
دعونا نسأل عن الوطن، أهو قيمة القيم، أم هو المكان الذي يوفر الشعور بالأمن للذات؟
فإن نظرنا إلى الوطن باعتباره قيمة القيم، كانت تلك هي المعرفة القَبْلِيَّةُ التي نرى من خلالها إلى ما يَجِدُّ من معارف.
تعجبني مقولة المرحوم عبد الوهاب المسيري، وربما تعجب الطامحين إلى الراحة أكثر. فلم اختلفنا في قراءة عبارته؟ لاختلاف كُلٍّ منا في ما تؤول إليه.
حسناُ إذن فدعونا نُعِد قراء العبارة، التي أغرم بها فيسبوكيون يرغبون في وطن مستريح، إن لم يتوفر فلا حاجة لهم به.
قال:
“عندما يُدركُ الناسُ أن الدولةَ تُدارُ لحساب نخبة، وليس لحساب أُمّة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن، وينصرف ليبحث عن مصلحته الخاصة”.
انتهى كلام العلّامة المسيري. فكيف نفسره؟
دعونا نتأمل في حياته ـ رحمه الله ـ أكان المسيري معجباً بأداء النخبة الحاكمة في مصر، أم كان على النقيض منها؟
من المؤكد أنه كان على النقيض من أداء النخبة الحاكمة، ولكنه لم يهرب من وطنه، ولم يلعنه، بل ناضل في الوطن ليكون الوطن أفضل، لا ليكون المسيري أفضل.
لا حاجة للتدليل على هذه الحقيقة، فقد رأيناه يخوض معركة التغيير في مصر من خلال كتاباته وخروجه في التظاهرات المعارضة للنخبة الحاكمة، ومن ثم تأسيسه لحركة كفاية.
لا يهم من بعدُ إن ضلَّت بعده المسيرة، أم واصلت المسير على نهجه، فالمهم أنه ناضل من داخل الوطن، ولم يره لا يستحق النضال، بل ظل قادراً على أن يناضل من أجله على النقيض من مصلحته الشخصية.
لقد أكثر الصغار من الاحتجاج بقوله دون عمله. مع علمهم أن عمله يكشف قصده، الذي يختلف مع مقاصدهم غير الطيبة حتماً.
الآن حين تتخلى عن الوطن، وتحتجّ بمقولة المسيري، قد غاب عنك أنك تعارضه، حين تحتج بعبارته على خلاف ما فسرتها حياته في آخر عمره.
إن المسيري يقول بأن “المواطن العادي الصغير الذي هو من الرعاع”، لا ينظر إلى الوطن إلا من خلال مصالحه. فإن رأى النخبةَ في الوطن ضد مصالحه، هجر الوطن.
وقد صدق المسيري، فالرعاعُ وحدهم يهربون من الكفاح، ويحمّلون النخبة في الوطن سبب ذلك. كأن الوطن هو النخبة الحاكمة، وذلك ما لم يفعله المسيري.
ما من أحد يحتج بمقولة المسيري إلا وفسرتها رغبته في القعود، وربما رغبته في الخيانة.
ثمة خونةٌ، هنا، يرغبون في أن يحتجوا لخيانتهم بمقولات الصداقين، على طريقة القرآنيين حين يهاجمون الإسلام، ثم يطالبونك بالتوقف عن الدفاع عنه، لأنه ـ حسب أكاذيبهم ـ لا يحتاج إلى من يدافع عنه. كأنه محتاج فقط إلى من يهاجمونه.
فما الحقيقة؟
الحقيقة أن الوطن هو مستقبل أبنائكم، فانظروا إن كان مستقبل أبنائكم يستحق منكم أن تخونوه بسبب نخبة خانته؟
هذا المنشور يأتي مني في سياق التدليل على أنه ليس على المفكر أن يُداهنَ الرعاع، بل ربما عليه أن يجلدهم بالسوط حين يضلون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى