الرواية… بين الحياة والأمل

عماد خالد رحمة | ناقد

كانت العبارة النواحية التي تنعي الرواية في الغرب الأوروبي، عائقاً محبطاً ينتصب أمام طموح العديد من الروائيين الناشئين، فقد كانوا يرغبون بكل ما يمتلكونه من جرأة وشجاعة أدبيتين، أن يشقوا طريقهم الإبداعي قصد الانتماء المستحق لهذا الجنس الأدبي الراسخ. ولتبرير هذا الموت المزعوم، كان الخطاب ذا منحى علموي مفاده أن وظيفة الرواية قد تقلصت، بل تراجعت لحساب وسائط الاتصال العامة التي أصبحت تقدم المعلومة التاريخية والنفسية والسياسية والاقتصادية بطريقة أسرع وأكثر فعالية. ذلك أن الأراضي القديمة التي كانت الرواية تحتلها عن جدارة واستحقاق، غدت اليوم ملحقة بالكون التواصلي السريع، الشيء الذي جعل أمر تخيل العالم متعذراً على الروائي، وغير مواكب لأفقه التخيلي الذي صار يضيق أكثر فأكثر، مما انعكس وما زال ينعكس سلباً على حماسته وحب استطلاعه. إضافة إلى ذلك، شيوع العزوف شبه التام عن القراءة، وانطفاء جذوة المتابعة الأدبية الواسعة، وانحسار جمهور القراء أمام المد الكاسح للتلفاز، حيث تم تعويض النقص الروائي المكتوب بمشاهد من المسلسلات ذات الحبكة المشوقة. هذا ما دعا كثيرين إلى اعتبار استعمال المعلومة الإخبارية (كاغتصاب سلطوي).

أكد عديد من الروائيين الغربيين أن هذا الاغتصاب قد يفرض نفسه عبر اللذة المحتدمة والمتولدة عن التنوع الإخباري الذي لا حدود له، أي عبر الترفيه الذي لا نهاية له باعتباره مكافأة عما أسماه «جان بودريان» بالانفجار الخارجي للمعلومة الإخبارية، المواكب للانفجار الداخلي للمعنى. فتكاثر المعلومات الإخبارية يدفعنا إلى الاعتقاد بأننا وإلى حد أقصى مشبعون إخبارياً غاية الإشباع من دون أن يُطلب منا بذل أي جهد. ولأن المعلومة الإخبارية هي التي تأتينا من تلقاء نفسها، فإنه لم تعد لدينا أي حاجة إلى البحث عنها، أو حتى ابتداعها على المستوى التخييلي مثل الكتابة الروائية. من هنا يأتي الإلحاح في الحاجة إلى توفير الوقت والرغبة لتمكين الكتابة الروائية من سبر المسكوت عنه التي أغفلتها، أو تغافلت عنها، الوسائط والمعلومات. كما يحتاج الروائيون إلى الوقت قصد تحويل المعلومة الإخبارية إلى تجربة، والتجربة إلى معرفة، من أجل إصلاح الخراب الذي تسبب فيه الطموح، والاستعمال اليومي للسلطة. هذا ما يحتاجون إليه من أجل التخيل.

هناك أسئلة عديدة تطرح نفسها حول مقدرة الرواية في إمكانية قدرتها الذاتية على قول وصياغة ما استعصى عن القول بطرق أخرى، وهذا ما دعا إلى النزوع التبسيطي في الرواية، الذي كان سبباً جوهرياً في ضعف مناعتها. نرى أن الإجابة تتحدد في ثلاث اختبارات دوغمائية حالت دون الإمكانية نفسها لتطوير التعبير الروائي:

1 ـ اعتماد الواقعية ضد أي منزلق تخييلي، بل ضد آلية التخييل نفسها.

2 ـ اعتماد النزعة الوطنية القطرية، ضد كل توجه عالمي كوسموبوليتاني.

3 ـ الالتزام المضاد لأي توجه شكلاني. المناوئ لأي إرادة تلتمس الفن من أجل ذاته لا غير، والصاد لكل الأشكال الأخرى التي يغيب عنها ما كانت تسميه الرقابة الأدبية بـ (المسؤولية والالتزام الأدبيين).

هذه البدائل الخادعة، يقول الروائي والناقد الأمريكي اللاتيني كارلوس فوينتس: «تم تجميعها بذرائعية ويسر، بل وحتى عن طريق المساومة السياسية», وباعتقادي كانت تمثل جزءاً من النزوع المانوي الذي ظل يكتنف الفترة المنصرمة، وعلى الرغم من أنها اليوم قد تلاشت واضمحلت، فإن أمر استحضارها من جديد لذي وزن وقيمة، ليس فقط من أجل التماس الوقاية الأدبية منها، لكن وقبل كل شيء أيضاً من أجل لفت الأنظار إليها، وترديد عناصرها كتعزيمة لطرد الأرواح الشريرة عن كل ما يقف حاجزاً في وجه الأدب الذي لم يكن ما هو عليه اليوم، لولا أنه تحدى ذلك.

لذا ما سيفعل الروائي أمام تاريخ مثقل ومحمل باضطرابات وتوترات بين هوياته الإنسانية والسياسية والثقافية؟ قد يوجد من يكتب الرواية بدافع الانتصار لهويته الثقافية، لجماعته التي ينتمي إليها، فيعمد ـ لأجل ذلك ـ إلى كتابة تاريخ اصطفائي نقي بريء لهويته الثقافية الممزوجة بالمعلومة الإخبارية التي أدخلت عليها قسراً. هذا ما يحرّض آخرين على كتابة تاريخ هوياتهم بالطريقة ذاتها، مما يعني أننا ننقل التوترات من مجرى التاريخ والمعلومة الإخبارية إلى مجرى السرد والكتابة. فيما المطلوب من الرواية أن تكون نصاً نقدياً، لا تمجيدياً، ولا إخبارياً. والنقد هنا ليس بالمعنى التدميري أو التشكيكي، وإنما بالمعنى الذي يجعل من الرواية محاولة تحرير الوعي من ارتهانه للمقولات النهائية والمغلقة، ومن أجل فهم مفتوح (لا مغلق) ومتسامح (لا متناحر) للمعنى والواقع والمجتمع والتاريخ والهوية. ولا يمكن للرواية أن تقوم بهذه الوظيفة إلا إذا استلهمت من «اليوتوبيا» وظيفتها التحررية، بمعنى أن تخيل اللامكان معناه إبقاء حقل الممكن مفتوحاً. وحقل الممكن المفتوح هذا هو الذي يسمح بـ«اختلاق الحاضر» عبر إعادة تحبيك التاريخ والهوية. فإذا كان التاريخ صراعياً وتناحرياً إلى الحد الذي نعرفه، فإن ارتهان الحاضر له يعني إعادة إنتاج الصراع والتناحر، في حين أن المطلوب هو كسر هذه الاستمرارية، وتعطيل عملية إعادة الإنتاج هذه لخلق «عالم ممكن» أو مساحة تمسح بـ «اختلاق حاضر» يمكن أن يعاش.

لم تعد البلاغة (الروائية) بعد الثورات اللسانية المعاصرة تتلخص في جملة من العلائق الجامدة المنفصلة عن الخطابات الأدبية والعلمية والفلسفية، ولا أقيسة يحكمها منطق متحجر يكرر نفس التقاسيم والشروح لتسهيل عملية الاستيعاب. ولا مجرد أسلوب للزخرفة والتزيين وتكريس لثقافة الذاكرة ومستملحات السمر والمسكوكات المحنطة. وهي ليست مفصولة عن النظام الفكري الذي نشأت فيه وترعرت، بل أصبحت إجراء عملياً يحتل مكانة جوهرية في العملية الإبداعية الروائية، وممارسة إقناعية حجاجية عملية تغذيها قيم ومعتقدات ورموز، وطقوس ثاوية في الوجدان الجماعي للغة الروائية، بل وفاعلية نفسية وفكرية وإيديولوجية تجد جذورها في الثقافة والمجتمع والإنسان. وهي إذ تتحدد بوصفها فناً للإقناع أو الإمتاع، أو أداة للفهم والإدراك، فإنها تندرج داخل سياق اجتماعي وثقافي ونفسي يشكل نسيجاً من العادات والسلوكيات والممارسات اللغوية لا الإخبارية، مما يجعلنا ندرك أن لا بلاغة قبل حضارية أو بعد حضارية أو ضد حضارية، ذلك لأن عالماً جامداً يتعالى على حركة التاريخ والمجتمع، بل إنه على العكس لا يدرك إلا بوصفه عالم للحياة والحركة والتغيير المتواصل والعلاقات الاجتماعية. تلك العلاقات التي لا يمكن التفكير فيها أو بها إلا داخل التاريخ. فهل تنحى الرواية هذا الاتجاه أي اتجاه الحياة؟ أم إلى أين المآل؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى