قراءة لقصيدة نخلة العشّاق للشّاعرالإماراتي الكبير محمّد البريكي

عبد العزيز الهمّامي | شاعر وناقد – تونس

نخلة العشّاق هي رائعة شعريّة ظلّت عالقة في الذّاكرة والوجدان ومنخرطة بشكل واسع في الذّائقة الأدبية وهي تُعـدّ  في تقديري من العلامات المضيئة في الشعر العربي الحديث انطلاقا من عمق مضمونها وعذوبة أسلوبها وجمال صورها وتقنياتها الفنّيّة وما تميّزت به من شعريّة عالية الجودة. فهذا النّص المميّز هو للشّاعر الكبير محمّد عبد الله البريكي كان ألقاه في الحفل الافتتاحي لأيّام قرطاج الشّعريّة لسنة 2019 لمّا زار تونس حاملا لها أشواقه ومحبّته وباقة شذيّة من إبداعاته الشّعريّة .

وقد لاقت قصيدته نخلة العشّاق منذ ذلك الوقت الصّدى العميق بالوسط الثّقافي التّونسي وتولّى الموسيقار عبد الرّحمان العيّادي تلحينها وتقديمها في تلك التظاهرة العربيّة كما أبدع في اَدائها وغنائها المطرب شكري الحنّاشي .

وارتأينا في هذا المقال أن نقوم بقراءة لهذه القصيدة وتقريظها واستجلاء أبعادها الفنيّة والجمالية وقد بادر صاحبها بنشرها في ديوانه الرّائع عكّاز الرّيح الصّادر ضمن سلسلة ابداعات اماراتيّة وفي اطار منشورات دائرة الثقافة بالشّارقة . 

حملت القصيدة في طيّاتها  نهرا وارفا من العشق الى قرطاج المدينة الرّمز التي تأسست سنة 814 قبل الميلاد على يد الأميرة الفينيقيّة علّيسة ولا تزال اَثارها قائمة الى اليوم بالشمال الشرقي لتونس وشاهدة على حضارتها العظيمة ومجدها القديم  لذالك شبّهها الشّاعر محمد البريكي بالنّخلة في علوّها وشموخها وعراقتها وفي صمودها أمام غوائل الزّمن وتحدياته حيث بقيت صورتها النّاصعة ملاذا للعشّاق وملهمة للشعراء والمبدعين .

ومن هذا المنطلق يأتي عنوان القصيدة في بُعده  المجازي معبّرا عن حالة الشّاعر المتيّمة بالوجد والتي جعلته ينظم رائعته هذه  بذاتٍ محلّقة ولغةٍ عاشقة  فهويـبـدأ نصّه قائلا :

لِلتّينِ ذَاكِرَةٌ فِي الطّينِ حِينَ بَدَا

كَأَنَّهُ فِي مَرَايَا الدَّمْعَتَـيْـنِ  نَدَى

يَطْيرُ مِنْ شَفَتِي عُصْفُورُ ذَاكِرَةٍ

وَاليَاسَميـنُ لِعَـيْـنَـيْهَا يَـمُـدُّ  يَـدَا

هذه الصور الشّعريّة جاءت  مسكونة بزخّات جميلة ومذهلة من البهاء انطلقت من رؤية وجوديّة شفّافة للبعث والبداية أراد الشّاعر من خلالها تشكيل مشهده الشّعري المناسب الذي يمنح للطّين ذاكرته ويُحوّل الدّمع الى ندى ويُعطي الياسمين يـدَ المجاز التي تبسط أريجها في مرافئ الذّاكرة ويكون ذلك مدخلا ذاتيّا الى جوهر النّص يعكس أسلوب الشّاعر الرّاقي في الاشتغال على الجمع بين المعاني والدّلالات واستخدام الأنا الجمعي على مستوى اللغة والأنا الفردي على مستوى الأسلوب .

ويمضي شاعرنا وحيدا في رحلته لمعانقة هذا المجد والارتماء في أحضان هذا الألق الوارف واكتشاف خباياه  والارتواء من ظلاله  وكأنّه امتشق أشرعة  من ضوء وغناء  لبلوغ قرطاج تونس هذه الواحة المنشودة التي بعثت فيه جذوة الشّوق وشغف الرّحيل.

وقد  تخيّل ذاته الحالمة في حوار داخلي مع امرأة لا يعرفها أو هي الأرض خاطبته في ترحاله وأفصحت له عمّا يجول في خاطرها  ولكنّه في كلّ الأحوال لم ير أحدا غير التي هام بها وسافر من أجلها فهي بمثابة الحضن الدّافئ الذي يجد فيه عبق المحبّة والعطف وكرم الأمومة ورحابة الصدر فهو يقول :

أَتَـيْـتَ وَحْدَكَ تَـشْـدُو قَـالَتِ امْرَأَةٌ

فَـقُـلْـتُ لاَلاَ  وَلَـكِـنْ   لاَ أَرَى  أَحَـدَا

كُلٌّ  يُوَثِّـقُ  فِي  قَـرْطَـاجَ  صُـورَتَـهُ

وَنَبْضُ بَوْحِي أَتَى  بالشَّوْقِ  مُنْفَرِدَا

قَالَتْ لِيَ الأَرْضُ أُنْثَاكَ الّتِي وَجَدَتْ

فِـيـكَ الأُمُـومَةَ تَـرْتِـيـلاً فَـكُـنْ وَلَـدَا

ويظلّ الشاعر محمّد عبد الله البريكي يُصغي  الى ما ما يتناهى الى سمْعِه وحواسه من طقوس أكيدة من واجبه اتِّباعها عند بلوغه ضفاف هذا المكان الساحر الجميل الذي تتربّع على عرشه قرطاج شامخة مضيئة بمعالمها وتراثها  كغادة ازّيّنت في  ليل فتنتها  وعليه أن يدخل بحذر حاملا معه قبس أشواقه وصبابته وأحلامه وليس في وجدانه غير باقات يانعة من أريج الشعر وبديع الكلام . 

خَفِّفْ مِنَ الوَطْئِ وَادْخُلْ حَاملاً قَبَسًا

وَطُفْ اِذَا جِئْـتَ بالأَشْوَاقِ مُـحْـتَشِـدَا

وَكُنْ عَلَى حَـذَرٍ  لَوْ جِـئْـتَ  تَخـطُـبُـهَـا

فَعَـيْـنُ قَرْطَاجَ تَسْـبِي كُـلَّ مَـنْ وَفَــدَا

وَامْلَأْ  كُـؤُوسَـكَ  مـِنْهَا كُـنْ بِهَـا  ثَمِـلاً

وَاِنْ تَجَـلَّـيْـتَ كُـنْ  بالشِّـعْــرِ  مُـتّـقِــدَا

ويستجيب شاعرنا لهذه الطّقوس التي تهمس بكامل اللّطف في أعماقه فـتـنـزل عليه بردا وسلاما وهدى وفي تلك اللّحظة تتهاطل  مشاعره المتوهّجة بأَجمل الأبيات الشّعرية التي يخصّ بها فاتـنـته قرطاج فهو يرى نفسه من مرايا الذات قد تحوّلت الى كائن خرافيّ يأتي الي هذه المدينة الأنثى على جناح غيمة ويخترق جلَّ مطارات الأرض ويعبر أطول المسافات في سبيل ملاقاتها .

قَرْطَاجُ غَيمَةُ شَوْقٍ هَـرَّبَـتْ  شَغَــفًـا

يُغَـازِلُ النَّـجْــمَ شَـوْقًـا كُـلَّمَـا صَـعَــدَا

قَرْطَاجُ جئْـتُـكِ قَـلْـبًـا قَـدْ تَـعَـلَّـقَ فِـي

رِيشِ السَّحَابِ وَأَمْضَى العُمْرَ مُبْتَعِدَا

جُـلُّ  المَطَـارَاتِ  تَـدْرِي مَـنْ أَنَا وَ أَنَا

لَسْتُ الّذِي صَادَقَ الغَـيْمَات  ثُـمَّ عَـدَا 

إلى أن يقول في هذا المنحى بشيئ من الحسرة والوجع  وبنكهة صوفية تحمل ما تحمل من البعد الانساني النّبيل 

أتَــيْــتُ  نَـافِــرَةً  رُوحِـي  وَ ذاكِـرَتي 

مِـنْ كُـلِّ طَـائِـفَــةٍ  لاَ تَحْـرسُ الأَمَــدَا

فِي الرُّوحِ مِئْـذَنَـةٌ نَـادَى بِهَـا  وَجَعِـي 

مَنْ ذَا يُـعـيـدُ لِيَ الاِنْـسَـانَ لَـوْ بَـعُــدَا

الأَرْضُ فِي حَاجَة الاِنْـسَـانِ يَحْـمِـلُهَـا

رُوحًا تَـشُقُّ طَرِيـقَ الوَصْـلِ لاَ جَـسَـدَا

ويصل البريكي في خاتمة المطاف الى نهايته السّعيدة وتحقيق أمنية الوصول إلى النّبع وبلوغ موطن معشوقته الحسناء قرطاج تونس بعد مغامرة مثقلة بالمتاعب وصراع مع الأمواج ومغالبة تحدّيات الزمن  ليبلغ أخيرا شاطئ الحلم قادما إليه من الخليج الحبيب ويتوّج الشاعر رائعته الشعرية هذه ببيتين على درجة رفيعة من الابداع والرّوعة والتميّز هما بمثابة صرخة الحبّ الجارف والمُدوّي الذي استحوذ على كيانه وضرب على أعصابه بقوّة 

قَرْطَاجُ جِـئْـتُـكِ مِنْ بَـحْـرِ الخَلِيجِ  فَـتًى

يُصَارِعُ المَـوْجَ  كَـيْ  يَـبْـنِي  لَـهُ  وَتَــدَا

قَصِـيـدَتِي  نَـخْـلَــةُ  العُــشَّـاقِ  أَزْرَعُـهَـا

فِي تُونِسَ الوَصْلِ كَيْ تَـبْـقَى لِمَنْ وَفَـدَا

وانطلاقا من هذه القراءة يمكن القول : اِنّ قصيدة نخلة العشّاق بكل ما تضمّنته من مقاييس الحداثة الشّعرية تعدّ في طليعة النّصوص الرّاقية  التي تستمدّ توليفها الفنّي وجمالها التصويري من التّاريخ وتبسط أفياءها المتراميه عليه من ذلك أنّ شاعرنا مسكون بمحبّة التّراث وبحضارة الأجداد والأوائل ومرتبط أيضا بالأمكنة فهو يلتفت الى الماضي بنخوة العربي الأصيل وشهامة الفارس المغوار.

لذلك فانّ نخلته الشّعرية اليافعة انتصبت يانعة ومتناسقة ومتجانسة في  بُـنيتها النّصّية  وفي مجازاتها وانزياحاتها ورمزيتها وتناصها وايحاءاتها  وهي قادرة على أن تدفع بالمتلقّي الى أن يقطف منها دهشته الأولى وغوايته المنتظرة.

وليس من باب المغالاة إذا اعتبرنا أنّ قصائد محمّد عبد الله البريكي الواردة سواء في مجموعته الأولى بدأْتُ مع البحر أو في ديوانه الأخير عُكّاز الرّيح هي نصوص على تـنوّع مشاربها ومقاصدها وما يشوبها أحيانا من قلق وأوجاع وعاطفة متدفّقة تنعش الذّاكرة وتنأى بالمخيّلة نحوالمطلق البعيد حيث لا سديم يحجب الرؤية ولا حواجز تعوق الحلم  فهي اضاءات في العتمة تنبع من الواقع وتنشد الحياة  وتحلّق في الأقاصي لاستبصار المشاهد الغائبة والبحث عن نضارة الأشياء . هي قصائد لن تشيخ عوالمها ولن تتعب طيورها المرفرفة ولن تغيب شموسها المشرقة.

وقد استطاع المنجز الشّعري لمحمّد البريكي أن يطوّع اللغة بحرفيّة عالية ويتجاوز المألوف المتعارف وأن يجعل الكلام موسيقى وأن يصوغ كونه الشعري باتقان ويثري به المدوّنة الشّعريّة العربية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى