خِيطَانْ.. قصة قصيرة

موزة المعمرية | كاتبة عمانية

 ملخص القصة

تحكي القصة الاجتماعية القصيرة حكاية “شيمة” الفتاة الصغيرة ذات العشر سنوات مع والدتها اللتين تعيشان في حياة بسيطة المعيشة, فالوالدة تعمل خياطة حتى تستطيع من أن تصرف على ابنتها الوحيدة.

لكن القدر يفاجئ الأم بإصابتها بمرض السرطان الخبيث, لا تجد الأم سبيل من التملص من مرضها, فلذلك ستقرر من أن تعلم ابنتها كيفية خياطة الملابس, ولكن الفتاة تكره عمل والدتها ولا تحب من أن تتعلمه مطلقاً.

بعد أن تعلم الفتاة الصغيرة حقيقية مرض والدتها الخبيث تقرر الابنة من أن تتعلم كيفية الخياطة وكذلك تفعل, تموت الأم بعد أن تعلم ابنتها مهنة تستطيع من أن تعتمد عليها في حياتها.

يبقى الجار “حيدر” ملازماً للفتاة دوماً ويهتم بها فلطالما كانت والدتها تعتني به, ولكنه يموت فيما بعد ليترك قلب شيمة فارغا حزيناً وحيداً مرة أخرى.

تُنهي شيمة دراستها المدرسية وتقصد الجامعة بعدها لاستكمال دراستها الجامعية, تتعرض لعدة مضايقات من بعض فتيات السكن وفتيات الجامعة, ولكنها لا تُعيرهن انتباها بل تُصر على إكمال طريقها الذي بدأته, تلتقي شيمة في الجامعة بشخص سيُغير لها حياتها وسيُدخل الفرح لقلبها, إنه “يوسف”.

يتعلق قلب شيمة بيوسف كما هو وبعد تخرج شيمة من الجامعة يتقدم يوسف لخطبتها لتحيا شيمة حياة زوجية سعيدة معه.

تصبح شيمة مصممة أزياء معروفة, في النهاية تعلم الفتاة بأن الخط الذي رسمته لها والدتها قبل وفاتها كان هو الخط السليم, وهي لم تفعل شيئاً سوى أنها اتبعته لتبهر الجميع به.

شخصيات القصة

مريم: والدة شيمة ذات السابعة والثلاثون عاماً, امرأة طيبة القلب وحنونة.

شيمة الصغيرة: فتاة جميلة ذات عشر سنوات, حنطية لون البشرة, سوداء لون الشعر المموج والمتوسط الطول.

العم حيدر: جار مريم, رجل كبير في السن, نحيف الجسد, قصير القامة.

شيمة الكبيرة: فتاة جميلة, حنطية لون البشرة, سوداء لون الشعر المموج المتوسط الطول, سوداء لون العينين, متناسقة الجسد والوزن والطول.

يوسف: شاب وسيم, أبيض لون البشرة, هادي الطباع والحديث, متناسق الجسد والطول, دائما ما يرتدي النظارات الطبية على عينيه.

 القصة:

“دائما ما توجهنا العثرات في حياتنا, ولكن ما إن نتحلَّى بالقوة والصبر ونؤمن بالله ووجوده معنا, حتى نستطيع من أن نتجاوز كل عثراتنا التي تمر علينا”.

طفلة صغيرة نائمة على سريرها المتواضع البسيط بسلام في غرفة بسيطة لا تحوي سوى سريرها وسرير والدتها الذي يكون بجانب سريرها وخزانة ملابس بسيطة ومرآة متصلة بثلاثة أدراج, حتى باب الغرفة المفتوح الآن هو باب مهتريء, المنزل بأسره منزل بسيط ينم عن فقر أصحابه, صوت ماكينة خياطة عالٍ صادر من قاعة الجلوس المتواضعة جدا حيث تكون الأم جالسة هناك تخيط بواسطة ماكينة الخياطة ثوب ما.

تنهض الطفلة الصغيرة ذات العشر سنوات من نومها بتأفف تام فقد أزعجها صوت الماكينة, تخرج من الغرفة لتمشي في الممر حتى تصل لقاعة الجلوس حيث تكون والدتها, تقف على عتبة الباب

شيمة : كل يوم صوت هذه الماكينة!

تقترب لتجلس بجوار والدتها بينما والدتها تُكمل عملها

الأم : وماذا علي أن أفعل؟ هو عملي وهو مصدر رزقنا يا ابنتي, هيا الآن اذهبي لتغتسلي ثم اذهبي للمطبخ وتناولي فطوركِ

شيمة : حسنا

شيمة عند وقوفها تُسقط علبة الخيوط الملونة التي تكون بجوار الماكينة على الطاولة والتي تكون في علبة كاكاو قد زال لون العلبة وتغير شكلها

الأم : قد أوقعتِ الخيطان يا ابنتي!

شيمة : وماذا في ذلك؟ إنها مجرد خيطان لا أرى منها أي نفع

تُلملم الأم الخيوط وتُعيدها للعلبة لتقول لابنتها : منها كل النفع, وربما ذات يوم ستعلمين هذا بنفسك

شيمة فتاة مختلفة عن باقي الفتيات, هي عنيدة جدا وذات كبرياء كبير.

في وقت الظهيرة كانت شيمة مشغولة بترتيب كتبها في حقيبتها فشدتها رائحة طعام الغداء الزكية الذي تصنعه والدتها, خرجت من الغرفة والابتسامة تعلو محياها واتجهت للمطبخ لتقف هناك على عتبة الباب

شيمة : الأكلة التي أحب!

الوالدة بابتسامة مع بعض الضحك الخفيف : أجل, هي أكلتكِ المفضلة يا عزيزتي

استدارت شيمة لتقصد غرفتها مرة أخرى فنادتها والدتها لتستدير لها

الأم : شيمة

شيمة : نعم؟

الأم : لا تنسي بعد صلاة الظهر ستذهبين بطبق الغداء للعم حيدر, هل هذا واضح؟

استدارت شيمة في تململ وتأفف تام وهي تنفخ من فمها هواء وهي تقول : أف!

وكل يوم وبعد أداء صلاة الظهر تُصر والدتها من أن ترسلها لمنزل الجار فتذهب شيمة مُرغمه, تقترب بالصحن من منزل الجار الضرير حيدر وتدفعه بيدها فهو لا يُقفل باب منزله أبدا لأنه دوما ما يعلم بقدوم شيمة بطعام الغداء والعشاء أما الفطور فتحضره أم شيمة له دوما وتقوم بتنظيف منزله وغسل ملابسه.

تضع شيمة طبق الغداء بجوار العم حيدر

شيمة : عم حيدر, أمي أرسلت لك طبق الغداء هذا

العم حيدر : رائحته زكية جدا, لا تنسي يا ابنتي بأن تحملي معكِ طبق الفطور

تظل شيمة من أن تنظر للعم حيدر بتململ وتأفف تام ثم تحمل الطبق الفارغ وتخرج به من المنزل, وطوال طريق عودتها لمنزلها تتمتم بكلمات وجمل

شيمة : كم أكره من أذهب إليه كل يوم, وكم أكره من طلباته علي, طلباته التي لا تنتهي!

عادت شيمة للمنزل ووضعت الطبق الفارغ بغضبها على الأرض وجلست حول والدتها على الأرض لتتناول طعام الغداء

الأم : فيمَ الغضب؟

شيمة : لا شيء

وهي كذلك تكره عمل والدتها كخياطة تخيط الملابس لنساء وفتيات الحارة التي يعيشون فيها, حتى أنها تشاجرت هي وبعض الفتيات ذات يوم في المدرسة حول هذا الموضوع لأنهن كن يُعايرنها بأن والدتها هي التي تصنع لهن بدلات المدرسة بسبب احتياجها للمال, فغضبت شيمة وأخذت بالشجار معهن ولم تفصل بينهن سوى المعلمات.

وعادت شيمة من المدرسة وهي تبكي وقصدت غرفتها لترمي بالحقيبة على الأرضية ثم ترتمي هي على السرير, هرعت الوالدة إليها في هلع

الأم : ما بكِ يا صغيرتي؟ لم تبكين؟

شيمة بغير الالتفات لوالدتها : أنتِ السبب

الأم : أنا! لماذا يا صغيرتي؟ ما الأمر؟

تلتفت شيمة لوالدتها : الفتيات في المدرسة كلهن يعايرنني لكون أمي خياطة تخيط لهن بدلاتهن

الأم : وماذا في ذلك يا حبيبتي؟ أنا لا أخجل من كوني خياطة

شيمة : ولكني أخجل

تعود شيمة لتبكي بينما تخرج الأم من الغرفة في انكسار تام ممزوج بالحزن.

جلست الأم في قاعة الجلوس البسيطة وأسندت ظهرها على المخدة, اقتربت شيمة لتقف على عتبة قاعة الجلوس

شيمة : هل غضبتِ مني؟

تنظر الأم ابنتها بحزن ثم تُطأطئ الرأس في الأرض وهي تومئ برأسها بالنفي لشيمة, اقتربت شيمة من والدتها لترتمي في حضنها

شيمة : لا تغضبي مني, لم أقصد من أن أحزنكِ, ولكن الفتيات في المدرسة قاسيات جدا

الأم تمسح بيدها الحنونة على شعر ابنتها ثم تقول لها : ومالنا ومالهن, دعينا وحياتنا ولا تُعيرينهن بالا يا ابنتي, والآن هيا اذهبي لمنزل العم حيدر حتى توصلي له طعام الغداء

شيمة : هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أُطيقه مطلقا!

يضحكن مع بعضهن البعض

وذات يومٍ من الأيام قصدت أم شيمة المستشفى لإجراء بعض الفحوصات فلطالما كانت تشعر بألم في رأسها ولكنها كانت تُهمل في نفسها ولا تذهب للمستشفى, جلست مع الطبيبة في مكتبها

الطبيبة : منذ متى وأنتِ تشعرين بهذه الآلام يا أم شيمة؟

أم شيمة : منذ سنة كاملة وأنا أشعر بهذا الألم يراودني ثم يختفي

الطبيبة : سنة كاملة ومهملة في نفسكِ! هل جننتِ؟

أم شيمة : لماذا ما هنالك؟ مم أشكوا؟

الطبيبة : أنتِ مريضة بسرطان في المخ, وهو خبيث, وقد تأخرتِ كثيرا ويجب علينا من أن نبدأ بالعلاج على الفور

أُصيبت أم شيمة بالصدمة من سماعها لما قالته لها الطبيبة, أخذت تفكر بابنتها وما سيحل بها إن فارقتها هي عن هذه الدنيا وبقيت وحيدة, ضاقت عليها دنياها في تلك اللحظة ولم تكن تعلم أين تذهب فقصدت العم حيدر.

جلست هناك في منزله المتواضع وأخذت بالحديث معه حول الموضوع

العم حيدر : لا حول ولا قوة إلا با الله العلي العظيم!

أم شيمة : مذ عرفت بالخبر وأنا مصدومة مذهولة لا أعرف ما أفعل أو بم أفكر؟ كل ما أفكر به الآن هو ابنتي شيمة وحسب, كيف ستعيش؟ وهل ستبقى وحيدة في هذا العالم؟ ومن سيهتم بها؟

العم حيدر : يا ابنتي, الذي يخلق الخلق لا ينساه, دعي شأنكِ وشأنها كله لله رب العالمين

لم تستطع أم شيمة من التوقف عن التفكير بابنتها وما سيحدث معها بعدما تفارقها هي, ففكرت بأن تُعلم ابنتها مهنة الخياطة حتى تستطيع من أن تسترزق منها رزقها, فالفتاة وحيدة دونما عائلة أو أعمام أو أخوال أو خالات أو عمات, استدعت الوالدة ابنتها ذات يوم لقاعة الجلوس

شيمة تقترب من والدتها تقف أمامها : ما هنالك يا أماه؟

الأم : تعالي, سأعلمكِ اليوم كيفية الخياطة على الماكينة

شيمة : ماذا؟! أنا أخيط؟! هل تمازحينني يا أماه! أنا حتى خيطانكِ هذه لا أعرف كيف أتعامل معها!

الأم : ولكن عليكِ من أن تتعلمي الخياطة يا عزيزتي حتى تعتمدي على نفسك عند … حتى تعتمدي على نفسك

شيمة : ولماذا علي من أن أتعلم الخياطة؟ أنا سأدرس وسأكمل تعليمي الجامعي ثم سأكون موظفة شأني شأن أي فتاة ناجحة في هذا البلد, لماذا علي من أن أتعلم كيفية الخياطة! سأذهب لأراجع دروسي

الأم : ولكن ..

لم تستطع الأم من إقناع ابنتها العنيدة من أن تتعلم كيفية الخياطة, وكان شغل الأم الشاغل هو من أن تستطيع من أن تُدبر لابنتها باب رزق حتى تطمئن عليها بعد موتها.

طوال الليل باتت أم شيمة لم تنم, بقيت مستلقية على السرير تنظر ابنتها وهي تفكر بها وحسب

الأم في نفسها : كيف أستطيع من أن أقنعكِ يا صغيرتي؟ بل كيف سأستطيع من أن أترككِ لوحدكِ في هذه الحياة؟ أمرٌ صعبٌ جدا, يا الله أرجوك ساعدني وارحمني برحمتك وارحم طفلتي معي

وذات يومٍ من الأيام وعند عودة شيمة من المدرسة استمعت لحديث والدتها مع العم حيدر وهما جالسان في قاعة الجلوس

أم شيمة : هي لا تريد من أن تتعلم الخياطة, وأنا لا أستطيع من أخبرها بالحقيقة, لا أستطيع من أن أقول لها بأني مريضة بالسرطان الخبيث ولم يبقَ من عمري سوى أيام معدودة فقط, ما عساي أن أفعل؟

تستند شيمة على الحائط مذهولة مصدومة من سماعها لقول والدتها

حيدر : لازالت طفلة يا ابنتي

أم شيمة : ولأنها طفلة يجب عليها من أن تتعلم كيف تعيش دوني, يجب عليها من أن تتعلم الخياطة حتى تستطيع من أن تكسب قوت يومها وتعتمد على نفسها

خرجت شيمة من المنزل وهي تبكي وأخذت بالجري في طرقات الحارة حتى تعبت واستندت بظهرها على أحد الجدران, رفعت بصرها للسماء وأخذت بالنظر وهي تبكي ثم صرخت عاليا, هي كانت بحاجة لمتنفس في ذاك الوقت ولم تجد لها سوى البكاء متنفس.

وفي الليل كانت الأم نائمة بينما شيمة كانت لاتزال صاحية وهي مضطجعة على سريرها, هي كانت تفكر بمرض وحال والدتها, نهضت من اضطجاعها ثم نظرت لوالدتها النائمة, نزلت بعدها من على السرير وخرجت من الغرفة, مشت في الممر وقصدت قاعة الجلوس, أشعلت الضوء واقتربت من ماكينة الخياطة, حاولت العمل

عليها فلم تعرف ثم عادت لتحاول مرة أخرى وكذلك فشلت وفجأة؛ سمعت صوت والدتها تقول لها وهي تقف على عتبة قاعة الجلوس

أم شيمة : هل تودين من أن أعلمكِ؟

بكت شيمة ثم هرعت لوالدتها لترتمي في حضنها

شيمة : لا تتركيني يا أمي أرجوكِ

جثت الأم أمامها وأخذت بالنظر لها ثم قالت : هل ..

شيمة : أجل, لقد سمعتُ حديثكِ مع العم حيدر

احتضنتها والدتها بشدة : آهٍ يا طفلتي الصغيرة!

شيمة : أمي, سأتعلم كيفية الخياطة, سأنفذ رغبتكِ, سأفعل كل ما تريدين ولكن لا تتركيني

نظرتها والدتها وهي تبتسم : اسمعيني جيدا يا ابنتي, عليكِ من أن تكوني قوية وتناضلي حتى تصلي لمبتغاكِ, كوني قوية ولا تُهزمي بسهولة, ولا تستمعي لحديث الحساد والشامتين مطلقا, وكوني دوما مع الله, حتى يكون هو معكِ

ويوما بعد يوم تعلمت شيمة بالفعل كيف تستخدم الماكينة وكيف تخيط عليها الملابس, وكان كل يومٍ يمر يزداد حال الأم سوءا أكثر فأكثر, فالعلاج لا يُساعد على شيء, هو يقتلها ببطيء وحسب, لقد سقط شعر رأسها وشاخت على عمرها حتى بدت تبدو وكأنها عجوز.

مرت سنة كاملة أخرى قد تعلمت فيها شيمة بالإضافة لخياطة الملابس كيفية الطهي وأصبحت تجيده كوالدتها, اطمأنت أم شيمة عليها فهي مجتهدة في دراستها وباتت تجيد الخياطة والطهي وأعمال المنزل الأخرى, ربما كبرت شيمة قبل أوانها بسبب مرض والدتها التي باتت هي من تعتني بها.

أصبحت أم شيمة مستلقية في المستشفى تُحتضر, هي تقضي آخر أيامها هناك, شيمة كانت تلازمها دوما وتعتني بها, نظرت الأم لابنتها التي تقف بجوار السرير ثم قالت لها

الأم : اسمعيني جيدا يا حبيبتي الصغيرة, لا تنسي عمكِ حيدر من الطعام, وحاولي قدر استطاعتكِ من أن تعتني به, إنه مسكين ضرير ولا أحد له سوانا

شيمة : لا بأس يا أمي, سأفعل

الأم : عندما أغادر هذه الحياة لا تنكمشي على حزنك, بل كوني قوية, وأكملي حياتكِ بما يرضي الله ويرضيني, حاولي من أن تصلي لأهدافكِ وأحلامك, ولا تنسي من أن تفعلي الخير للغير, فهو باب سيفتح لكِ مائة باب من الرزق الوفير, فليحمكِ الله يا جميلتي

صعدت شيمة على السرير لتستلقي بجوار والدتها التي احتضنتها بحنان, بقيت هناك ونامت في حضن والدتها, مر الليل عليهن في سلام وأمان تامان, ولم تستيقظ شيمة إلا بعد أن أحست ببرودة يد وحضن والدتها, أخذت بالنظر لوالدتها بتمعن ثم وضعت يدها اليمنى على أنف والدتها فأخذت بالبكاء لأنها علمت حينها بأن والدتها

 قد غادرت الحياة دونما عودة, عادت شيمة لتحتضن والدتها وهي تبكي بمرارة دونما الصراخ شأنها شأن الأطفال الباقون اللذين يكونون في عمرها.

دُفنت الأم تاركة شيمة في وحدتها وحزنها, ولكن أهل الحارة لم يتركوا الفتاة الصغيرة لوحدها وكذلك العم حيدر, فقد أخذ العم حيدر على عاتقه أمر الاعتناء بالصغيرة فلطالما اعتنت به والدتها خير اعتناء, كان يهتم بطعام الفتاة وتنظيف المنزل وغسل الملابس والأواني وكل شيء.

وذات يوم استيقظت شيمة من نومها وخرجت من غرفتها ثم لفناء المنزل وإذ بها ترى العم حيدر يكنس فناء المنزل المتواضع بالمكنسة التقليدية, بكت شيمة في تلك اللحظة فهي لطالما كانت تكره من أن تأخذ طبق الطعام له عندما كانت ترسلها والدتها له, هرعت شيمة للعم حيدر لترتمي في حضنه وهي تبكي بينما هو أخذ بضمها لصدره بحنان

العم حيدر : لا بأس يا عزيزتي, هوني عليكِ

أخذ العم حيدر بمجالسة شيمة حتى هدأت ثم أباحت له هي بالحقيقة

شيمة : كنتُ أكره من أن أذهب بطبق الطعام الذي كانت ترسله أمي معي لك, وأنت الآن أنظر ماذا تنفعل لي

ضحك العم حيدر قليلا ثم قال لشيمة حتى يزول عنها تأنيب الضمير الذي تشعر به

العم حيدر : عندما كنتُ في سنك كانت أمي تطلب مني ذات الشيء الذي كانت والدتكِ المرحومة تطلبه منكِ, وكنت لا أطيق ذلك أبدا

شيمة : حقا!

العم حيدر : أجل

ارتمت شيمة في حضن العم حيدر وهي مسرورة بينما هو كان مسرورا أكثر منها, فالعم حيدر لم يُرزق بالأبناء من زوجته السابقة رحمها الله, وعندما توفيت لم يفكر بالزواج مطلقا وبقي وحيدا في هذه الدنيا, ولكنه الآن بات سعيدا بشيمة التي لطالما كان يعتبرها كابنةٍ له.

شيمة استطاعت من أن تكتشف حقيقة العم حيدر شيئا فشيئا وكانت كلما تكتشف فيه شيء كانت تحبه أكثر, فهو دائم المحافظة على الصلاة في أوقاتها ودائم صلاة النوافل ودائم التسبيح وذكر الله, هذا بالإضافة لرضاه بما قسمة الله له في الدنيا.

العم حيدر وكل يوم كان يقص حكاية على مسامع شيمة حتى تنام, وهي أعجبها ذلك كثيرا فصارت في الأيام والأسابيع التي تليها هي من تطلب منه من أن يقص الحكاية على مسامعها حتى وإن نسي هو, كانت تستغرب شيمة من مخزونه الفكري؛ فكيف لضرير لا يرى ولا يُبصر ولم يقرأ من أن يكون له هذا المخزون الفكري المثير!

ولكنها كانت تحب قصصه كثيرا, فهي دائما ما تتحدث عن أميرات وأمراء وصراعهم مع الشر ثم انتصارهم عليه, شيمة لم تكن تتعب كثيرا في أعباء المنزل بمساعدة العم حيدر وبعض الجيران أحيانا من اللذين لم يتركوها مطلقا.

وهي أيضا باتت مدبرة منزل جيدة, فهي طوال أيام الدراسة لا تستقبل أي طلبات للخياطة لأنها تظل تُكرس نفسها وعقلها للدراسة وحسب, ولكنها تخيط في الأجازة الصيفية حيث لا يكون لديها أي دراسة, والمال الذي تقبضه من الخياطة تدخره وتصرف من مصروف الضمان الاجتماعي, العم حيدر أيضا يضع في يدها مصروفه الضماني الاجتماعي وهي تقوم بالموازين والصرف والادخار, لم تعد شيمة صغيرة, فقد كبرت وكبر عقلها وتصرفاتها معها.

وذات ليلةٍ من الليالي رأت شيمة رؤية ما أزعجتها كثيرا وجعلتها تفكر بها ليلا نهارا

(الرؤية)

كانت شيمة نائمة على السرير فاقتربت والدتها منها وهي ترتدي الرداء الأبيض, جلست بجوارها على السرير ومسحت على شعرها ثم قالت لها

الأم : شيمة, شيمة

نهضت شيمة من نومها وهي ترى والدتها بسعادة فقالت الأم لها

الأم : لقد آن الأوان, وهو يجب من أن يأتي معي

شيمة : من؟ من هو الذي يجب من أن يأتي معكِ؟

نهضت الأم من جلستها وخرجت من الغرفة بينما شيمة كانت تتبعها وهي تقول :

شيمة : من هو الذي يجب من أن يتبعكِ يا أمي؟ من؟

اقتربت الأم من العم حيدر الواقف في فناء المنزل وهمست في أذنه بهمس ابتسم على إثره ثم أخذت بيده اليمنى وخرجا من المنزل بأسره تاركا شيمة لوحدها في المنزل واقفة هناك وهي تصرخ وتقول :

شيمة : من هو الذي يجب عليكِ من أن تأخذيه معكِ؟!

نهضت شيمة من نومها فزعة من رؤيتها لهذه الرؤية, أخذت بالنظر في الغرفة يمينا يسارا ثم نزلت من على السرير لتخرج من الغرفة, مشت في الممر وهي تتحسس بيدها اليمنى للجدار, قصدت قاعة الجلوس ووقفت هناك تنظر للعم حيدر الذي كان يصلي قيام الليل في تلك اللحظة, عادت شيمة أدراجها لغرفتها واستلقت على سريرها مرة أخرى ولكنها لم تنم, فقد أخذت بالتفكير في الرؤية التي رأتها وباتت مزعجة بالنسبة لها.

أطل الصباح بثوبه الجميل لتستيقظ شيمة من نومها, خرجت من غرفتها فابتسمت فرائحة طعام الفطور صادرة وبقوة من المطبخ, قصدت المطبخ لترى العم حيدر واقفا هناك يصنع الفطور

شيمة : لماذا دائما ما تُصر على عمل الفطور بنفسك؟

العم حيدر ضحك قليلا ثم قال لها : أنا رجل كبير في السن وإذا انتظرتكِ حتى تقومي من نومك ثم تصنعي الفطور سأكون قد متُ من الجوع

شيمة بانزعاج : لا تذكر الموت

اقتربت منه وطوقته بكلتا يديها : فهو أمر يُخيفني

طوقها العم حيدر بحنان ثم قال : ولكن لم يبقَ الكثير يا ابنتي

جملته هذه التي تفوه بها جعلت شيمة تنظره بذهول ممزوج بالخيفة, تُرى هل سيتركها العم حيدر أيضا  لتبقى وحيدة تماما في هذا العالم؟! دار هذا السؤال في ذهن شيمة في تلك اللحظة. 

بقيت شيمة أسبوع كامل وهي في خوف من أن يموت العم حيدر في أي لحظة, ولكن هذا الشعور سرعان ما زال مع مرور الأيام ونسيت شيمة أمر الرؤية التي رأتها مسبقا.

وذات يومٍ من الأيام وهي عائدة من المدرسة رأت العم حيدر منكبا على وجهه على سجادة الصلاة, ظنته شيمة بأنه نائم بعد أن أدى صلاة الظهر, اقتربت منه لتقول :

شيمة : ماذا هل نمت على سجادة الصلاة؟

لم ينطق بكلمة أو يأتي بأية حركة, اقتربت شيمة منه أكثر وجثت حوله في خوف وريبة, حركته فلم يتحرك, نظرته فرأت عينيه مفتوحتين, أخذت بالبكاء وهي تستلقي بجواره, الآن باتت شيمة وحيدة أكثر من ذي قبل.

ودُفن العم حيدر بعد أن قام الجيران بأمور الغسل والدفن والصلاة عليه, وبات منزل شيمة خاويا تماما من أية روح أخرى تشاركها الحياة فيه, جلست حول النافذة تنظر السماء أخذة بالتفكير في رؤيتها التي رأتها ثم شعرت بارتياح تام فقد تذكرت بأن العم حيدر ابتسم عندما همست والدتها في أذنه

شيمة : فليرحمكما الله ويسكنكما فسيح جناته

ومرت السنوات تباعا على عمر شيمة كانت قد أنهت تعليمها المدرسي وحان الوقت لتبدأ تعليمها الجامعي, الجيران لم ينسوا شيمة وكانوا قد جمعوا لها مبلغا من المال حتى تستطيع من أن تقضي جميع مشترياتها الجامعية كأي فتاة, رفضت قبول المال في البداية ولكن ومع إصرار الجيران وافقت, وهي أيضا كانت قد جمعت بعض المال من كل مدخراتها السابقة طوال كل تلك السنوات, وهو مبلغ لا بأس به يساعدها على تحمل نفقات الجامعة, رتبت المنزل بشكل جيد بعد أن نظفته وغطت ماكينة الخياطة بغطاء حتى تبقى نظيفة بعيدة عن الغبار.

حملت حقيبتها ثم توقف في فناء المنزل وأخذت بالنظر للمنزل بابتسامة ثم خرجت لتصعد باص الجامعة, هي تقصد سكن الطالبات الجامعي حتى تتمكن من الذهاب للجامعة كل يوم.

في السكن الجامعي رأت شيمة مختلف ألوان الفتيات في طباعهم وتصرفاتهم, ولكنها لم تكن تهتم إلا بالتي تراها فتاة جيدة الأخلاق مثلها, كذلك الأمر في الجامعة فهي لم تكن تختلط إلا بالفتيات اللاتي تراهن مجتهدات في دراستهن ولا يشغل

 بالهن سواها, باتت شيمة فتاة يحبها الأساتذة في الجامعة بسبب أخلاقها وذكائها واحترامها لهم, فهناك الكثير ممن لا يحترمون المدرسين بخلافها هي.

تصادمت شيمة في الجامعة ببعض الفتيات الحسودات ولكنها لم تكن تُعرهن أي انتباه, حتى أنها كانت تستمع لسخرياتهن ولكنها لا تُعقب.

وذات يومٍ من الأيام دبرت إحداهن أمرا لشيمة حتى تنزلق أمام الجميع فيضحك جميع طلبة الجامعة عليها, وقبل أن تأتي سكبت تلك الفتاة الحسود عصيرا في الممر الذي ستأتي شيمة وتمشي عليه, وبالفعل انزلقت شيمة وأخذ الجميع بالضحك عليها, وقفت وهي تنظر الفتاة  بعينين غاضبتين ثم اقترب هو ليهمس في أذنها قائلا :

الشاب : لا تُعيريها انتباها

كان يقف خلفها فاستدارت لتنظره, جثي هو ليلتقط لها كتبها وأقلامها من على الأرض بينما هي كانت تنظره, هي لم ترى وجهه بعد, نهض ليُعطها أغراضها, وأخذت تنظره بذهول ثم ابتسمت لابتسامته هو

شيمة : شكرا

كان هو ذات الطالب الذي لطالما كان يشد انتباهها دوما بهدوئه التام وجلوسه وحيدا في كل زوايا الجامعة هذا بالإضافة لخجله وأخلاقه والذين لم تراهما بسواه, وكان دوما ما يقرأ في كتاب لم تكن شيمة تعرف ما هو نوعه وكانت تود من أن تعرف, شكرت شيمة ربها وحمدته لأنه وضعها في دربه, وأخيرا ابتسم لها وأخيرا سمعت صوته!

هما في ذات الجامعة ولكنهما ليسا في ذات التخصص, هو طالب هندسة بينما هي طالبة تصميم, وكانت شيمة تتمنى من لو أنها كانت بذات صفه تدرس معه.

وذات يومٍ من الأيام اجتمع جميع الطلبة في الجامعة على صوت تلك الفتاة العالي وهي تصرخ في وجه شيمة

الفتاة : أنتِ كنتِ ولازلتِ وستبقين ابنة خياطة! ولن يتغير هذا مطلقا!

رفعت شيمة يدها في لحظة غضب تريد صفع الفتاة فاستوقفتها يده هو, نظرته شيمة فقال لها بصوته الهادئ:

الشاب : لا تفعلي, لا تغضبي, تعالي

أخذ كتبها من على الطاولة في استراحة حديقة الجامعة وتحرك بها ماشيا بينما شيمة كانت تتبع خطواته هو حتى توقف عند استراحة ما, جلس على المقعد ووضع كتبها جانبا وأخذ بالنظر لها مع ابتسامه

الشاب : اجلسي

جلست شيمة بجواره دونما تردد

الشاب : إياكِ والغضب, فهو يدمر الإنسان ولا يترك له عقلا

شيمة : ولكنها دوما ما تستفزني وكنت أتجاهلها ولم أعد أستطيع فعل ذلك, يجب أن أضع لها حدا

الشاب : ومن قال لكِ بأنكِ لم تفعلي؟ حقدها وغيضها منكِ دليلان واضحان على ذاك الحد الذي وضعته لها

شيمة : ولكني لم أفعل لها شيئا حتى تكرهني كل هذا الكره!

الشاب : ذكائكِ, طيبة قلبك, وحدتكِ الأخلاقية دونما اجتماعاتها أللأخلاقية, جمالكِ, كل هذه الأشياء, لذلك هي تكرهكِ وستظل تُضايقكِ دوما, ولكن عليكِ من أن لا تعيريها انتباها أبدا, إنهم طفيليات بشرية لا أكثر ولا أقل, وعلينا بتحاشيهم

شيمة : ما اسمك؟

الشاب : يوسف

ابتسمت شيمة ثم قال له : وأنا شيمة

يوسف : أعلم, أعرف اسمك

شيمة : تعرف اسمي!

يوسف : ربما أعرف عنكِ أشياء كثيرة, نحن البشر عندما ننجذب لأحدٍ ما ويكون نادر الوجود نحب من أن نعرف عنه كل شيء

بقيا ينظران لبعضهما البعض ثم قالت : هل واجهت مثل هذه المشاكل التي أواجهها الآن عند دخولك الجامعة؟

يوسف : الكثير, ألا ترين بأني لا أخالط أحدا أو أتحدث مع أحد؟ كلهم بالنسبة لي تافهو الفكر والمنطق حتى وإن كانوا يدرسون في الجامعة, فالجامعة لا تصنع الفكر مطلقا إذا لم يصنعه صاحبه لنفسه

بقيا يتجاذبان أطراف الحديث مطولا وكانت شيمة مستمتعة بالتحدث معه, كانت عقليته تشدها كثيرا بالإضافة لوسامته وطباعة الجميلة الفريدة والتي تخلو في أي شاب آخر, هو يكبرها بسنتين فهو قد دخل تخصص الهندسة بينما هي في أولى سنواتها الجامعية وحسب.

ومرت الأيام والأسابيع والأشهر كان قد تعرف الاثنان على بعضهما البعض ولم يتوقف أي واحد منهما عن التفكير بالآخر.

ومرت السنوات وها هو اليوم الذي انتظرته شيمة قد أتى, هو يوم تخرجها من الجامعة, كم كانت تود شيمة من أن تكون والدتها معها في هذه اللحظة, ولكن كان هناك شخص ما ينظرها من بعيد وهي لم تكن منتبهة له.

وبعد انتهاء حفل التخرج وانتهاء الحفل الذي يصحب حفل التخرج, اقترب منها ليهمس في أذنها بعد أن تلاشى الجمع وغادر معظمهم

شيمة بسرور النظر له : يوسف! لم أنتبه لوجودك هنا؟!

يوسف : أما أنا فلم أنسى بأن هذا اليوم يكون يوم تخرجك, ويوم ميلادكِ أيضا

قدم لها الورود بالإضافة لهدية ما

شيمة : شكرا لك

يوسف : بل أنا من عليه شكرك

شيمة : علامَ؟

يوسف : على أشياء كثيرة

تمنت شيمة في لحظتها هذه من أن يكون يوسف من نصيبها زوجا, ولم تكن تعلم بأن قدرها قد خبأ لها أجمل سنوات حياتها المقبلة.

تقدم يوسف بالفعل لخطبة شيمة ووافقت وتم الزواج على خير ما يرام, عاشت شيمة حياة سعيدة في كنف يوسف وكانت جميع الفتيات يحسدنها عليه.

أما عن شيمة فقد فتحت لها دار لتصميم الأزياء وباتت مصممة أزياء معروفة, وها هو يوم آخر من أيام عروض أزيائها قد أتى, الجميع مجتمع في قاعة العرض ينظر لتصميماتها المميزة, وفي آخر العرض تظهر هي لتُحي الجمهور بسعادة تامة, تتذكر شيمة في هذه الأثناء حديث والدتها لها

“اسمعيني جيدا يا ابنتي, عليكِ من أن تكوني قوية وتناضلي حتى تصلي لمبتغاكِ, كوني قوية ولا تُهزمي بسهولة, ولا تستمعي لحديث الحساد والشامتين مطلقا, وكوني دوما مع الله, حتى يكون هو معكِ”

شيمة في نفسها تقول : كم تمنيت من أن تكوني معي الآن يا أمي لتشهدي مدى نجاح وقوة ابنتك, لقد نجحتُ بحياتي يا أمي, نجحت, وأنا الآن أقوى من ذي قبل بكثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى