يوميات من كورنيش الاسكندرية (٨)

محمود عبد المقصود نائب رئيس تحرير جريدة الأهرام

 

كافيتريا كلية الآداب!!

من خلال تنافر وتلاحم .. وتقارب وانشطار.. كيميائى تكونت منذ الساعات الأولى لحياتنا الجامعية الشلل والمجموعات.. وبطبيعة الحال وكنت عضوا فى واحدة منها ..  تلاقت قلوبنا.. وتوحدت أذواقنا.. وتقاربت مستوياتنا .. وتشابهت أخلاقنا .. وكانت أبرز ملامح  شلتى هذه هى الصراحة  والبساطة.. وميزتنا  معطياتنا هذه  بالقفشات والضحكات وخفة الدم  الذى لفتت أنظار الجميع !! وكان حبنا لبعض سببا كافىا لحبنا  للكلية وزاد من حبنا هذا ما لمسناه من ود ومحبة من طلبة الكليات المجاورة لكليتنا حتى كنا نتعجب من حرصهم على التعارف علينا والتواجد بيننا.. وكنا نفسر تصرفهم هذا بنبل  ورقى أخلاقهم  حتى اكتشفنا يوما السبب الحقيقى لهذا الود وهو وجود كافيتريا بكليتنا هى الأشهر على مستوى الجامعة  وإن هؤلاء  الطلبه كانوا يتخذوننا حجة يبرر لهم تواجدهم بكليتنا وخصوصا الكافيتريا التى كان تشد لها الرحال من كل حدب وصوب !!

وكان ذلك أول درس تعلمناه فى الحياه الجامعية ..إن الحياه تتغير ومساحة الميكافيلية فى العلاقات تتمدد وتتسع ولغة المصلحة وتقديم الأنا كان الثمرة الطبيعية لانفتاح عقد السبيعينيات اقتصاديا والذى أربك حياتنا الاجتماعية !!

المهم .. أنه عندما اتسعت مداركنا ونما لعلمنا ماخفى عنا عقدنا العزم أن نذهب لنستكشف الكافيتريا.. تفعيلا لمقوله (جحا أولى بلحم ثوره) ودخلنها معا مندهشين  مشتتين فرحين بما أتنا الله من حوريات الحرم الجامعى!

نعم ..كانت الدهشة تعلو وجوههنا والصمت كان دليلا قوىا على عجزنا عن الكلام والمزاح؛ فمنظومة القيم التى تربينا عليها جعلتنا نشعر بغربة وانبهار واستهجان وووو…

وبينما المشهد كذلك كنت أنا أراقب فى أقصى المكان تربيزة تجلس عليها فتاة أوتيت من كل جميل  وزادها الله قبولا وجاذبية  وبجوارها يجلس شاب طويل القامة متناسق العضلات  يبدو على ملابسه  وجلسته الثراء والكبرياء.. فكان  يجلس على طرف الكرسى واضعا رجلا على الأخرى ويداه تلفان خلف رقبته.. ولسان حاله يقول مين فى الدنيا دي قدى !!

بينما تجلس الفتاه  متقزمة تتحدث إليه حينا وتبكى حينا آخر ..وبين حديثها ودموعها لحظات صمت تحتويه فيها بعيونها وتحاول أن تمسك بيده إلا أنه يأبى أن يفكها عن رقبته كبرا وتمردا عليها .. إلا أن محاولات استجدائها له رغم بروده !!  ملأتنى رغبة فى كشف سر علاقتهما خاصة بعد أن فشل خيالى في صياغة سيناريو العلاقة .. ولكن فى تلك اللحظات  قررت الشلة مغادرة المكان .. فمثل هذه الأماكن لا تتناسب مع خلفيتنا الثقافية وقيمنا الاجتماعية التى نشئنا عليها .. فمثل هذه الأماكن تلفظنا كما نحن نلفظها .. ومثلنا لا يجد فيها نفسه مهما اندهش ببريقها الزائف.

واتجهت لمنزلى وصورة الفتاه لم تفارق خيالى .. ومرت الأيام والأسابيع حتى رأيتها يوما بصحبة صديقه لها يتجهان لمدرج بأحد أقسام الكلية وعلمت  بعد عسعسة عميقة أنها طالبه فى السنة الثانية  وأنها تمارس لعبه الكرة الطائرة بالكلية وأنها مجنونة بمدربها الكابتن المشهور فى اللعبة .. وأن علاقتهما كادت أن تسفر عن خطبة رسمية الا انه تخلى عنها بطريقة قاسية سبب لها مثير من الحرج لدى اسرتها ..المهم اننى وجدتنى مشغول فى جمع كل تفاصيل عنها وتاثرت كثيرا بها ولها حتى وجدتنى ذات ليلة أعيش مشاعرها وأحاسيسها فأسرعت أكتب بلسانها قصتها التى مازلت أحتفظ بأوراقها التى حررتها  وكتبت عنها:

استيقظت يومها مبكرا لأرتب منزلنا المتواضع وشاركتنى شقيقتى الصغرى وراحت تمزح معى فرحا  لفوزى بحبيب عمري والذى كثيرا ماحدثتها عنه وكثيرا أيضا ما استحوذنى منها أثناء حديثها معى ……..

نثرنا فى منزلنا الورود وأشعلنا الشموع ومع حلول الظلام تجمع أقاربنا فى الحجرة الخلفية بمنزلنا يتبادلون الذكريات وبينما انتهيت من ارتداء حلتى رمقتنى خالتى وسمعتها وهى تهمس فى أذن أمى عاتبه عليها تخاذلها بإقناعى بابنها ابن الحسب والنسب…… وقلت لها فى نفسى معلش يا خالة القلب ومايريد.. ونظرت للساعة المعلقة على الحائط فأخذتنى عقاربها لمجهول.. فاتجهت لشرفة منزلنا أرقبه مع القادمين وعندما طال انتظارى|.. جائتنى أمى مرة تلو الأخرى تسألنى عنه .. حتى عجزت عن الكلام .. فساد الصمت أركان منزلنا وبدأ التوجس يطيح بابتسامات الحاضرين  ..ولما استيأست أمى خلصت بى نجيا …. وتركتنى غاضبه مقهورة.. و اصطنعت زيفا اتصاله معتذرا لمرض والدته.. وقتها ذبلت ورودنا وهلكت شموعنا واصطف الحاضرون على باب شقتنا يصافحون أبى فى مشهد جنائزى حزين وكأنهم يقدمون له العزاء ورمقنى أبى بنظرة عميقه فيها شفقة بحالى لم تخلُ أيضا من عتاب ولوم .. بينما وجدتنى ملهوفة عليه وتمنيت لو تذهب الدنيا ويأتينى وراح قلبى العربيد كعادته معه يمنطق له أصعب غياب فى حياتى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى