فضائح اللاشعور في قصيدة (طيري يا حبيبتي) لخالد جمعة.. قراءة تفكيكية

الدكتور خضر محجز – غزة – فلسطين

مقدمة:

قصيدة النثر، حين تكون قصيدة نثر، هي ذات الشاعر في صراعها المحموم مع الكلمات، بواسطة الكلمات، فلا شيء يتم دون الكلمات. الذات تحاول أن تعرب عن نفسها بطريقة منتخبة، كما يقول ماكس جاكوب(1).

يمكن القول بأن الذات الجديدة، في تمردها على الأشكال القديمة، إنما تبحث عن شكلها الجديد. وإذا كان كل تمرد على الأشكال يقود في البداية إلى فوضى، إلا أن هذه الفوضى لا تلبث أن تحقق ذاتها، فتصبح شكلاً يقول بطريقة مختلفة. وهذا الشكل يصبح قاعدة، نظاماً، بعد أن كان فوضى. تلكم هي طبيعة الأشياء في العالم.

ولكي نقرب ذلك قليلاً، يمكن لنا أن تأمل شيئاً مشابهاً مما يحدث في السياسة ــ فقد أثبت علم النفس، منذ وقت مبكر، أن لا فصل بين أنشطة الإنسان المختلفة(2) ــ فحين خرج عبد الملك بن مروان على القوانين التي كانت تعتبر عبد الله ابن الزبير خليفة شرعياً، تم اعتباره متمرداً خارجاً فوضوياً يستحق الشجب، حتى إذا ما انتصر وحقق النتيجة المرجوة، تم اعتبار تمرده نظاماً يضع القوانين لما يكون وما لا يكون (3).

إنه ذات المبدأ المضاعف، الذي حكم هناك، يحكم هنا في قصيدة النثر: “الميل الهدام الفوضوي الذي يتناسب مع استخدام النثر، والميل المدمر الفني الذي يتناسب مع الانتظام في قصيدة”(4).

لكن ليست وحدها القصيدة من تبحث عن دلالاتها الزئبقية، بل النقد كذلك يحاول الإمساك بالدلالة، في نصوص يرى التفكيكيون استحالة القبض على دلالتها، فـ”صحيح أن النقد قراءة عميقة… تكشف، في الأثر الأدبي، عن مدرك محدد. وهي في ذلك تعمل حقاً على فك الرموز، وتساهم في التأويل. ومع ذلك فما تكشف عنه لا يمكن أن يكون مدلولاً… وإنما سلاسل رموز فقط، وتناظر علاقات… إن النقد ليس ترجمة، بل تعبير محيط ، ولا يمكن أن يدعي العثور على عمق الأثر الأدبي، نظراً لأن هذا العمق هو الذات نفسها”(5).

ولأن الذات لا تستطيع التعرف على حقيقة لاشعورها، فلا يمكن العثور على دلالة لما تقول. ولقد علمنا من فرويد، مبكراً، أن الذات لم تعد سيدة بيتها الخاص، لتعرف ما فيه، وكل ما يستطيع النقد تقديمه لقصيدة النثر ــ وربما لكل قول شعري ــ محاولة التفسير الرجراجة التي لا تستقر. ذلك لأن الدلالة ــ التي هي بنت الذات المتكلمة في القصيدة ــ لا تعرف ما تريد. من هنا فكل ما يستطيع أن يقدمه النقد هو اللعب، وقانون اللعب يقول بأن اللعبة حين لا تروق لنا، نغيرها بأخرى. وما ذاك إلا لأنه لم يعد ثمة قاعدة، لم يعد مركز، أو مرجع، أو مشار إليه (Reference)، لأن الذات القائلة، في الأصل، لا تعرف ما تريد. لقد حطمت نظرية اللاشعور كل اتساق ممكن في الوعي واللغة والنصوص الأدبية.

يقول ﭙيير ماشيري: “ليس ثمة سبب ضروري، يحتم علينا تناول العمل الأدبي، بوصفه وحدة متسقة منطقياً. وأن مثل هذا التناول، الذي يضفي صفة الكمال على العمل الفني، يمثل نوعاً من التقديس لا مبرر له”(6).

من هنا فكل ما يمكن أن يقدمه النقد اليوم ليس إلا محاولات قراءة فاشلة، كلما أوشكت أن تقرر دلالة، اكتشفت أنها لم تتقرر بعد، وهكذا إلى مالا نهاية. وهذه المحاولات النقدية يسميها النقد التفكيكي تفسيرات. من هنا سننطلق، إن شاء الله.

محاولات التفسير:

طيري يا حبيبتي..

هكذا يبدأ الشاعر، أو لنقل: هكذا يبدأ أنا الخطاب. فهل هو يقول، أم أنه يتم تقويله؟

إن القول المكرور الذي كان يوماً لامعاً: (تكتبني القصيدة) لم يتخل عن كونه صحيحاً، لمجرد كثرة تداوله على ألسنة المتحذلقين، فهو نابع فعلا من افتراض مدارس التحليل النفسي، بأن القصيدة هي الشاعر لا يعرف نفسه، ذلك الافتراض الذي يرى أن الشعر الجميل هو انثيال لاشعوري من الروح ــ أو مما لا يعلم أحد ماهيته من جينات الأزمان الغابرة ــ قادم من عالم لا نعرف كنهه، يسميه كارل يونج (مملكة الأمهات)، يقولب حياة الشاعر، ويبدعها(7).

إذن فنحن بين يدي شيء يشبه العُصاب (أو الجنون)!.. ها نحن نكتشف مرة أخرى أن الأقدمين كانوا على شيء من الحق، حين نسبوا الشعر إلى الجن: فبين الجن والجنون نسب أكثر من لغوي.

لكننا نعلم أنه لا يمكن للجنون أن يكون شعراً، إذ لا بد من توفر نسبة من الوعي الصانع، تنظم هذا الانثيال الطبيعي، فتثقفه وتجعله قابلاً لاستقبال غير المجانين إياه. من هنا يبدو لنا أن مهمة الشاعر تتلخص في تحرير هذا الانثيال (المجنون) من فجاجته ــ ولنقل صراحته ــ وزوائده، أي عقلنته وتكثيفه، لكي يتمكن المتلقي من اصطياد دلالاته بطريقة ما. هذا هو الفرق بين العصابي والشاعر، بين المجنون والعبقري، إذا كنا سنصدق ما يقوله جان بيلمان نويل”(8).

طيري يا حبيبتي:

ليس هذا عنواناً فحسب، بل هو المفتتح: تبدأ القصيدة بقول أنا الخطاب: طيري يا حبيبتي. فمن المقصود الذي تَوَجَّه إليه فعلُ الأمر هذا؟ وهل هو فعل أمر فعلاً، أم هو مجرد رجاء؟ أم لعله دعاءً لا يتوقع له قائله أن يُستجاب!

نحن لم نبدأ رحلة التفسير بعد، ولكن الدلالات، أو ــ بلغة أقل وثوقية ــ التفسيرات، تهاجمنا مطالبة بالقول، كأنها لا تدرك هشاشتها! لكن ما حيلتنا سوى أن نحاول القبض على هذه الهشاشة المخاتلة، قبل أن تتمزق أو تطير. فلقد بات واضحاً ــ منذ زمن بعيد ــ أن القصيدة مجرد معنى ممكن، دلالة هائمة، تساؤل يبحث عن إجابه. إنها بلغة أكثر وضوحاً: قول يتلصص من ثقب المكتوب ليرى ما يمكن، امرأة ضاجعها مؤلف وغد، ثم ترك سريرها قبل أن تبلغ لحظة الذروة…

1ــ الاحتمال الأول:

طيري يا حبيبتي..

الحبيبة قصيدة، والقصيدة امرأة يعتري عاشقَها خوفٌ ممضّ من هجرانٍ متوقع، يستبق وقوعَه بطلب الوقوع. إذ لا شيء أسوأ من الانتظار.

في هذه القراءة المقترحة للنص، يبدو لنا عشق أنا الخطاب معشوقته أملاً مقموعاً، في سجن لا كوّةَ فيه. تتحول المعشوقة في هذا المنبَثق اللغوي، بفعل الخوف، إلى ما يشبه كرمةً يانعة في حقل من دخان. ولأنه يراها ذاهبة إلى الموت ــ المادي أو المعنوي ـ فإنه يدعوها إلى هجرانه، إن أرادت أن تبقى كما أراد الله لها ذلك.

المرأة كرمة تنتظر فصلاً مؤجلاً أبداً، والعاشق عاجز مشفق. وإذ يتحول عجزه إلى يأس، فإنه يدعو كرمته ــ بحزن لم يجربه سواه ــ أن تهرب: (طيري يا حبيبتي)..

فهل نحن بين يدي عاشق يرى معشوقته تتلبث بالهرب، فيبادرها بفعل الأمر أن تفعل، خوفاً عليه من مغبة البقاء؟ هل نحن بين يدي رومانسي في عالم واقعي؟

دعونا نفحص هذا الاحتمال، من خلال تأمل التالي من القصيدة:

“ليكن جناحُك وردةً هذا المساء, واتركي خلفكِ جثةً تقرقرُ فيها مياه الاتجاهات، لا تحاولي الهبوطَ. الأرضُ تزفرُ بالأشواك، وتهيؤني لعالمٍ آخرَ عداي، عالمٍ له صوت وأبعاد، لا يغرق فيه من لا يشاء. طيري.. إن كانت لك قدرةٌ الطيران”.

ربما يمكننا القول بأن هذا التفسير الرومانسي غير محتمل، إذ لو كان طلبُ أنا الخطاب (طيري) أمراً، لما كانت أداةُ التنفيذ إلا جناحاً من الحديد أو الحجارة، لا جناحاً من الورد!. يبدو أنه يرجوها البقاءَ، فيما هذا الطلب الظاهر، بالطيران، مجرد مستدعىً لغويٍ سطحي حلّ بديلاً محلّ الفكرة المكبوتة، الأعمقِ غوراً هناك في اللاشعور الحزين الباكي(9).

يبدو أنه يطلب عكس ما يرجو. ولقد علمنا، من فرويد، بأن النقض: “طريقة للتوكيد على الشيء المكبوت… بمعونة رمز النقض، يحرر التفكيرُ نفسَه من قيد الكبت، ويُغني نفسَه بتلك المادة التي لا غنى عنها لعمله المناسب”(10).

دعونا نحاول العودة إلى افتراض رومانسية العندليب مع زبيدة ثروت في (يوم من عمري) فنعود نقرأ:

طيري يا حبيبتي..

طيري، فمصيرانا مختلفان، أنت للسماء الواسعة، وأنا لأشواك الأرض القاحلة؛ أنت للتحليق في عالم لانهائي حيث تنتمين، وأنا لعالمٍ مادي له أبعاد وحدود وأعداء، عالمٍ لا أستحقه، وليس لي، وكله عداي..

إلى هنا وكان من الممكن لنا أن نصدق بأنه عبد الحليم، يريد لمحبوبته ــ بنت المليونير ــ أن تغادر خوفاً عليها، أن تطير فعلاً. لكن ما يتلو ذلك من كلمة (طيري.. ) التي تتلوها نقطتان تشيان بالتمهل قبل المواصلة (إن كانت لك قدرة الطيران)، يغدر بنا، يغدر برومانسيتنا، يغدر باللغة المتداولة(langue)، ويفصح بالكلام (parole)، بفرادة الاستعمال، بالنبرة الخاصة بقائل القول(11).

وهذا الكلام، هذا الـ(parole)، على المفسر أن يحاول أن يفهمه، أن يصغي إلى همسه الصارخ، لأنه هو مرجع النص، إن كان للنص أي مرجع. وهذا الكلام لا يقال باللغة، لأنه ـ في قصيدة جيدة ــ كثيراً ما ينقض الكلام كل ظواهر اللغة. وهذا الكلام ربما يقال بالحدس، أو يفهمه الحدس. والحدس وسيلة إدراك تتعدى محاولات الضبط، كما نعلم.

يمكن لنا أن نفهم من كلام القصيدة، أن صمت العاشق يقول: هأنذا أدعوها إلى البقاء معي في هذا العالم لكي لا أغرق، في عالم (لا يغرق فيه من لا يشاء). ابقي معي أرجوك، كي لا أختار الغرق. فوجودك وحده هو الذي يمنعني من مشيئة الغرق.

إنه يتسول وهو يأمر ظاهرياً. هذه واحدة من احتمالات النص.

2ــ الاحتمال الثاني:

طيري يا حبيبتي..

“ليكن جناحك وردة هذا المساء, واتركي خلفكِ جثةً تقرقرُ فيها مياه الاتجاهات، لا تحاولي الهبوطَ، الأرضُ تزفرُ بالأشواك، وتهيؤني لعالمٍ آخرَ عداي، عالمٍ له صوت وأبعاد، لا يغرق فيه من لا يشاء، طيري.. إن كانت لك قدرة الطيران”.

إذا صدقنا اللغة، فسنصدق أن هذه تضحية رومانسية، في زمن لا يرى مكاناً للرومانسية. وقد سبق أن تبين لنا أن ذلك التفسير غير واقعي.

تقول اللغة: (طيري يا حبيبتي). فكيف تطير الحبيبة؟ لقد تحولنا عن تفسيرنا السابق، إلى احتمال آخر، احتمال أن تكون هذه بالذات هي منطقة العمى، التي يلهج بها التفكيكيون، المنطقة التي تمتح من سوء قراءة لماض لا يموت.

طيري يا حبيبتي..

لنتصور طفلاً يطلق طيارته الورقية نحو الأعالي، لنتصور أن الأنا الأعمى للشاعر يستعيد ــ دون وعي ــ لحظاتٍ سابقةً لأيامٍ كان يمتلكُ فيها طائرته اللعبة، فيطلقها كما يشاء، ويجبرها على الهبوط حين يشعر بالملل. إنها طائرته، وهو يمتلكها. إن المريض ــ وكل الشعراء مرضى ــ لا يقبل بأن تنطلق طائرته من ذاتها، أن تمتلك إرادتها، فهو لم يصنعها إلا لتكون لعبته. فلم لا يرى محبوبته طائرة؟ ألا يمتلك هذه كما كان يمتلك تلك؟.. طيري يا حبيبتي، فأنا متيقن من عودتك إليّ.

نحن هنا ننطلق من مقدمة تنفي تفسيرنا الأول، مقدمة طفولية. ومنذ متى كانت طفولتنا تغادرنا؟ أليست الأمُّ باقية في أعماقنا، نتوق إلى ما لا يكون منها أبداً؟ لنتصور أن الأمَّ عرضت على طفلها البالغ الرضاعة!. سنقول بأنه سيعلن اشمئزازه! وربما يصرخ!. فلم لم يكتف بمجرد الرفض؟ لم حدث هذا التحول المفاجئ عنده، كأنه يخشى أن يراه أحد متلبساً بالقبول؟ إنه كان دوما يتمناه، في نومه وحلمه، وماضيه الذي لا يزال حياً ويتخفى وراء التقاليد. نحن نعرف أنها المحبوبة الأولى والأخيرة في الغالب!. إنه التثبيت (fixation) يعلن عن نفسه أيها السادة(12). فلقد وافقنا من قبل على أن الشعر يخرج من مملكة الأمهات، أي من اللاشعور الذي هو عملية مستمرة من صدّ الوعي، ومنعه السيطرة، ليظل التعلق الليبيدي طافياً على سطح القصيدة.

نحن هنا في مواجهة حالة من حالات رفض الفطام، الطفل لم يكبر بعد أيتها الأمّ، فلا تلوّحي بثديك أمام ناظريه..

طيري يا حبيبتي، حتى لا أُضبط متلبساً بجريمة اشتهاء الأمّ!.

الحبية أمٌّ، وكل حبيبة أمّ. هذا يفسر بقوة لم كان تَعلُّقُ الرجل بثدي المعشوقة لا يتراجع. وهل يُتوقع من طفل أن يطلب من أمه أن تغادر، ثم يكون صادقاً في طلبه؟.. بالتأكيد لا، فهو يطالبها بالمغادرة دلالاً. ولو غادرت، لانهار عالمه فوق رأسه!.

إنه الصراع الأزلي للشاعر مع الكلمات، وبواسطة الكلمات، حيث يبرهن الأدب على قدرة الكلمات على إثارة جدل غير متوقع ولا ينتهي، قدرة الكلمات على أن تتحول إلى أفعال، هي بداية الكتابة الشعرية، هي ــ بلغة هيجل ــ الموجود بالقوة، أما القصيدة فهي الموجودة بالفعل، أو الصورة المقترحة لتشكيل سائل اللاشعور، تصليبه، إقامته أمام العين لكي يُرى، فعلُ الوعي في اللاوعي. تلكم هي مهمة القصيدة، إن أرادت أن تكون قصيدة. وإذا كان اللاشعور نابعاً من اختلاجات الروح، فإن القصيدة الجيدة هي جسم هذه الاختلاجات، أو جسم الروح خارجاً من بئره المعدنية إلى وضح النهار، خارجاً من اللاشعور إلى الشعور، كما يحب هيجل أن يقول(13).

(طيري يا حبيبتي) فإذا طرتِ سيكون ألمٌ وسيكون موتٌ، وسيكون غرقٌ: (ليكن جناحك وردة هذا المساء) أغرقيني في بحر اللذة، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون.

إنه وعيد الطفل للأم، الوعيد الذي لا يتحقق أبداً. وعيدٌ يهتف: سأغرق، ولا أظنك تريدين لي أن أغرق. إنني أرجوك: طيري (واتركي خلفكِ جثةً تقرقرُ فيها مياه الاتجاهات) فأنا أعلم أني لا أهون عليك، خصوصاً حين تخشين من رؤيتي جثة، بعد إذ كنت ملء حضنك الدافئ.. فلا تطيري..

(طيري.. إن كانت لك قدرة الطيران).

وهكذا يبدو لنا أن فعل الأمر (طيري) ظاهره التوسل، وحقيقته الوعيد.

طيري أيتها الكلمات التي لم تعد تغني عن الحب الضائع شيئاً. 

وهكذا تبدو القصيدة نوعاً من محاولة لتحليل تاريخ اليأس..

3ــ الاحتمال الثالث:

طيري يا حبيبتي..

لأن أساس نظرية اللاشعور قائم على تصور غريزة مكبوتة، لا تستطيع التعبير عن رغبتها بوضوح، أو تعبر عنها بطريقة مختلفة ــ هروباً من الرقابة ــ فإن ذلك يعني أن التعبير عن هذه الغريزة سيظل دوماً متردداً، لاوثوقياً، يقول الشيء ثم يتراجع عنه، أو يقول الشيء ونقيضه في آن؛ مما يعني تأخر الحضور الكامل للدلالة، أو تأجيل حضورها. هذا هو الأساس العلمي لنظرية ديريدا في التأجيل والاختلاف (difference): التي تشير إلى فعلين: عدم المشابهة مع الأصل، وتأجيل حدوث الدلالة(14).

لقد رأينا كيف تحقق ذلك في المحاولتين السابقتين. لقد سعينا إلى القبض على دلالة للنص، لكن يبدو فعلاً أن الدلاة تأجل حضورها في المرتين، بدليل أننا ما زلنا نحاول الثالثة:

“ليكن جناحك وردة هذا المساء, واتركي خلفكِ جثةً تقرقرُ فيها مياه الاتجاهات، لا تحاولي الهبوطَ، الأرضُ تزفرُ بالأشواك، وتهيؤني لعالمٍ آخرَ عداي، عالمٍ له صوت وأبعاد، لا يغرق فيه من لا يشاء، طيري.. إن كانت لك قدرة الطيران”.

يقول سقراط: “إن الكتابة غير إنسانية، تدعي أنها تؤسس خارج العقل ما لا يمكن في الواقع أن يكون إلا داخله”(15).

فالإدراك الشعري إدراك غامض بالتأكيد، لأنه قادم من العالم الداخلي لأنا الخطاب، إنه إدراك يمكن القول بأنه روحي. واللغة مجرد محاولة حسيرة لإعادة تمثيل هذا الإدراك الروحي الغامض، لإعادة إحضاره من الغياب بواسطة الكلمات، وهذا هو معنى قولهم: الكلمات علامات.

لدينا هنا لغة تعبر بطريقة مختلفة، لغة تبرهن على قدرة الكلمات على إثارة جدل غير متوقع، ولا ينتهي. فهي من ناحية تحلم من خلال الكتابة باستعادة بناء كلّي قام في العقل، ولا يمكن أن يتم انتقاله خارجه، بصورة تامة. فالشعر هو ــ أكثر من كل كلام يومي ــ تمثيل ناقص، ولا يمكن له أن يتم. وكل ما نحلم به أن نحاول استكناه ما يمكن أن يحتمل الدلالة ــ واحتمال الدلالة هذا تفسير ــ التي كلما ظننا أننا قبضنا عليها، تفلتت من بين أيدينا كالزئبق.

وحين نتأمل في قول أنا الخطاب: (طيري يا حبيبتي واتركي خلفك جثة) ثم نقرنه بقوله (طيري.. إن كانت لك قدرة على الطيران) سيبدو لنا التعبير اللغوي، في العبارتين، متلاحماً، بطريقة يصعب تفكيك علاقاتها الثلاث:

1ــ فهو يطلب منها أن تطير (طيري).

2ــ ومع ذلك فهو لا يروق له ــ فيما يبدو ــ أن يراها تطير، يشير إلى هذا تَحَنُّنُهُ الشجيُّ بأنه سيتحول بعدها إلى كائن غير متحقق (جثة تقرر فيها مياه الاتجاهات).

3ــ وهو ــ من ناحية ثالثة ــ يؤكد لها أن الطيران متعذر في الغالب (طيري.. إن كانت لك قدرة على الطيران).

والنتيجة المنطقية لكل هذا التلاحم اللغوي، أن أنا الخطاب هنا ينطق بخلاف ما يرغب. ولقد صاغ جاك ديريدا مقولة النقض الفرويدية السابقة، بقوله: “إن التلاحم من خلال التناقض يعبر عن قوة الرغبة(16).

إن قائل المقول يرغب في ألّا تطير المقول لها، بل هو واثق من قدرته، بهذه الوسائل وبغيرها، على إقناعها بعدم الطيران، لتبقى إلى جواره ــ أو تحته كما هو التعبير التراثي السعيد: (تحتي زوجتان) ــ إنه يوهمها بأنه حرة في الطيران، لكنه مؤمن بأن المرأة مجرد طفل أو سفيه(17)، كان قد دربه مبكراً على الخضوع، فصار مؤمناً بفضيلة الخضوع.

إنها عبارة لم يقلها أنا الخطاب في الحقيقة، بل قالها المجتمع الكاتب الحقيقي، ولقنّها للذكر، فرأى أنها مفيدة، فتلقّنها وتعامل وفقها، فـ”ليس ثمة إخضاع كامل كالإخضاع الذي يحفظ مظهر الحرية؛ لأن المرء بتلك الطريقة يأسر الإرادة نفسها”، كما يقول جان جاك روسو لمعلم أطفاله(18).

إنه رجل، ذكر، يعتليها جسدياً ونفسياً، ويمتلك إرادة (الرجل) الذي يغرق بإرادته الحرة، وهي لا إرادة لها لتختار ما يختار الأحرار: (لا يغرق فيه من لا يشاء) فهو يغرق بمشيئته، وعليها أن تنحاز إلى خياره، إن كانت لديها رغبة في تأكيد حبها له. أي تهديد هذا!

ودعونا نتذكر ما هو واضح في حياتنا اليومية، حين يصف الرجل لامرأته عالما يسيطر فيه الخوف، فلا ريب أنها ستخاف. وأول شيء تفعله المرأة حين تخاف، أن تلتصق برجلها. إنها الرغبة لدى الرجل في الاستحواذ. وكلما خاف الرجل من المرأة أن تطير، سيطرت عليه نوايا الاستحواذ:

(طيري.. إن كانت لك قدرة على الطيران).. طيري من هذا العالم الذي يزفر بالأشواك.

ولزيادة التوضيح، دعونا نتصور ما سيحدث، حين يصطحب رجل امرأته إلى حديقة الحيوان، ويقفان أمام نمر هائج! لقد أخذها إلى هناك ليستحوذ عليها في حضرة النمر، ليأخذها إليه هاربة من خطر رأته قريباً!. هنا تتأجج شهوة الجنس. وشهوة الجنس هي أقوى تعبير عن الرغبة في الاستحواذ. يستغل الرجل المرأة بخداع غرائزها فيحل غريزة الجنس محل غريزة الخوف، فيما يسميه علم النفس بالعزو الانفعالي (emotional attribution): فـ”منذ زمن يعود إلى أيام الإمبراطورية الرومانية، نصح الشعراء والفلاسفة، ذوو الاستبصارات العميقة، الرجالَ بأن يأخذوا محبوباتهم إلى المسرح المدرج (الكولسيوم)، كي يجعلوهن أشدّ طواعية لهم. ويبدو أن هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد التقطوا ــ بشكل حدسي ــ الفكرة المتعلقة بأن المشهد الخاص بالمسيحي، الذي يُلقى به إلى الأسود؛ لا يجعل المرأةَ تتعلق جسمياً وعاطفياً برفيقها فقط، لكنه يتضمن أيضاً اضطراباً انفعالياً مستثاراً، بفعل مشاهدة هذا الرعب. وهو اضطراب عرضة لأن يُساء تحديد هويته، ومن ثم يختلط مع العاطفة الجنسية”(19)

وبذا يلوح فعل الأمر (طيري) بالتهديد! ويغدو المطلوب من كل هذا الأداء اللغوي أن يقول: (طيري يا حبيبتي): التصقي بي، يا حبيبتي، لأحميك من الخوف الذي تعودتُ عليه، ولا يصلح له عداي، لا تصلح له النساء، فـ(لا جدوى من الرجوعِ إلى البدايةِ… وإذا سئمتِ شاعراً لا يحبُّ الأرقام، لكِ أن تُطيّري جناحيكِ تاركةً جغرافيا الجنون وهي تعبئ الأصواتَ بالصمت).

(لك أن تطيري).. يا سلام. ألم نقل إنه المناح المانع!

إنه يمنحها الإذن بالمغادرة. ولا يمنح الإذن إلا سيد مستحوذ. يبدو ان الأنثى تهم بالطيران، أو يبدو أنه شعر بأنها تفكر فيه. والذكر ــ على عكس لغته الظاهرة ــ يحاول استبقاءها، بتذكيرها بالجميل من الذي كان: (كانت لنا خرافةُ النجمِ وسكونُ الرملِ المطلق، كان لنا ما لأجلنا من كتبٍ وشوارع). ويبدو أنه يشعر، بطريقة ما، أن محاولته لاستمرار الاستحواذ، توشك على الانكشاف، فيبدأ مثل أي مستحوذ سابق، بكيل الاتهامات للحرية، الاتهامات للمرأة بأنها لا تعرف ما تريد:

(لكنك افتراض للصوت الذي من دخان، خاضعٌ لاتجاه الريح).

فأي سلبية هذه في شخصية المرأة، يتصورها عاشق يدافع عن مكتسباته التاريخية!

إنها الذكورة اليائسة الموشكة على الهزيمة، تستخدم أدواتها القديمة.

وتبقى هناك احتمالات أخرى….

الإحالات:

  • من ديوان: نصوص لا علاقة لها بالأمر. موقع الشاعر خالد جمعة. 11/1/2015. http://www.khaledjuma.net/

1ـــ انظر: سوزان برنار. قصيدة النثر. ترجمة زهير مجيد مغامس. ط2. الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة. 1996. ص14 ــ 15

2ــ جان بيلمان نويل. التحليل النفسي والأدب. ترجمة حسن المودن. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 1997. ص14

3ــ انظر: ابن قدامة. المغني. م8. مكتبة الرياض الحديثة. دون تاريخ. ص107 ــ 108

4ــ سوزان برنار. قصيدة النثر. مصدر سابق. ص17

5ــ رولان ﭙارت. النقد والحقيقة. ترجمة إبراهيم الخطيب. ط1. الشركة المغربية للناشرين المتحدين. الرباط. 1985. ص78

6ــ كريستوفر بتلر. من كتاب: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا. ترجمة نهاد صليحة. مادة في كتاب بنفس العنوان لمجموعة من المؤلفين. القاهرة. الألف كتاب الثاني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000. ص99

7ــ انظر: كارل. ج. يونج. علم النفس التحليلي. ترجمة نهاد خياطة. مكتبة الأسرة. مهرجان القراءة للجميع. القاهرة. 2003. ص278

8ــ يقول: الأدب هو مجموع الكتابات المرتبة بوضوح، تحت تأثير التخييل. انظر: جان بيلمان نويل. التحليل النفسي والأدب. ترجمة حسن المودن. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 1997. ص123

9ــ انظر: سيجموند فرويد. تفسير الأحلام. ترجمة مصطفى صفوان. ط5. القاهرة. دار المعارف. دون تاريخ. ص524

10ــ إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. اتحاد الكتاب العرب. 2000. ص134

11ــ انظر: يوزف ﭙيتر شتيرن. حول الأدب والأيديولوجيا. ترجمة باهر الجواهري. فصول. ع3: إبريل/مايو/يونيو1985. ص12

12ــ انظر: سيجموند فرويد. الطوطم والتابو: بعض المطابقات في نفسية المتوحشين والعصابيين. ترجمة بو علي ياسين. ط1. دار الحوار. اللاذيقية. 1983. ص111

13ــ انظر: هيجل. محاضرات في تاريخ الفلسفة. ترجمة خليل أحمد خليل. ط1. بيروت. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 1986. ص68

14ــ انظر: س. رافيندران. دريدا ونظرية التفكيك1. ترجمة خالدة حامد. مجلة أفق الثقافية. 15/9/2009

http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=425

15ــ انظر: والتر. ج. أونج. الشفاهية والكتابية. ترجمة حسن البنا عز الدين. الكويت. عالم المعرفة. 1994. ص158 

16ــ جاك ديريدا. البنية والعامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية. ترجمها عن الانجليزية جابر عصفور. راجعتها على النص الفرنسي هدى وصفي. فصول. عدد14. شتاء1993. ص234

17ــ انظر أقوالهم في تفسير ابن كثير للآية الخامسة من سورة النساء. ط2. ج2. دار المعرفة. بيروت. 1987. ص462

18ــ ب ــ ف. سكينر. تكنولوجيا السلوك الإنساني. ترجمة عبد القادر يوسف. الكويت. عالم المعرفة. 1980. ص37

19ــ جلين ويلسون. سيكولوجية فنون الأداء. ترجمة شاكر عبد الحميد. الكويت. عالم المعرفة. 2000. ص117

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى