قراءة في مشروع البديل الثقافي للمفكّر  العراقي جمال جاسم أمين

 د.أمل سلمان حسان | العراق

في ظل الركود الثقافي الواضح، وأزمة التصدعات المريرة التي شهدتها الثقافة العراقية  وبروز ظاهرة المثقف المتواطىء ، يضع جمال جاسم أمين ، مشروعه الفكري المعرفي على صعيد المعالجات الاجتماعية ، وهو مشروع على ما نعتقد  متكامل يتمتع بدرجة عالية من الشّيوع الثّقافي والإعلامي لا بوصفه مدونة نخبة  بل بوصفه مدونة نقد حي، لواقع نعيشه يوميا فيطرح جملة من  التساؤلات تمهد الطريق أمام مشروعه هذا  يقول :

الامَ سنبقى نجدّف في بحيرة من الصمغ ؟

في بلاد تنام على الزيت 

ولا زيت في مصابيحها 

في بلاد يقضم أطفالها تفاحة طفولتهم بعمر أدْرَد

في بلاد نذرت أصابعها للزناد لا للقلم 

في كل هذا وذاك ، أين يجلس المبدع أو المثقف .؟

ثمة محنة حقيقية يريد أن يقفز عليها البعض بتفاؤل زائف ،ثمة انسداد في كل شيء .

ما معنى ان نموت بلا مبرر؟

ما معنى أن يزحف (اللامعنى ) على جنائن (المعنى ) ؟

محاولا  إيجاد الحلول لتساؤلاته تلك عبر طرحه لمشروعه هذا  الذي أسس له منذ عام ٢٠٠٥  عندما كتب دراسة سمّاها ب ( مفهوم البديل الثقافي وتفكيك فكرة المؤسسة ) المنشورة في صحيفة الأديب العراقية في ١٣/ ٧/ ٢٠٠٥ ، تقوم  فكرة البديل الثقافي ،  على سياسة هدم المؤسسات المؤدلجة  وتقويضها، واستبدال ثقافاتها البالية التي ورثنا طروحاتها بسبب   الأدلجة ، التي دابت في بلادنا العربية عموما وفي العراق تحديدا ، على سياسة ستر العيوب وإخفاء المتناقضات فهي لا تقول للناس : إنكم تعساء ولا تهمس للمصاب  بالسرطان : إنك ستموت  تفعل ذلك ؛لأنها تفكر بالأعتياش مؤقتا على البقايا السليمة من جسده التالف ، فنخبوية الثقافة  وتواطؤها  من جهة ، وطغيان الخرافة والأسطرة  من جهة أخرى ، مقابل تراجع دور العقل والعلم ونقد الذات  ، تقودنا بالضرورة إلى إعادة فحص وتأمل الفاعل الاجتماعي كما تدعو إلى مراجعة دور الأكاديميات التي شكّلت معادلة ساخرة : فكلما ازداد عددها في البلد ضعف دورها أو غاب بالمرة ،  ومن هنا يحاول  جمال أمين في مشروعه هذا ،استبدال التالف من خطابنا الثقافي بخطاب بديل اكثر جدوى ونفعا ، الأمر الذي يضعه أمام تحديات ثقافية ومعرفية مصيرية وجريئة وذات مماحكات غاية في الخطورة بسبب من سعيها لإعادة إنتاح الأسئلة الكونية ،ومن ثم فتح باب الجدل الكثيف والصاخب بين الثقافة البالية والفكر التنويري ، وقد عزز جمال جاسم مشروعه هذا بسلسلة إصدارات فكرية ، ابتداء من كتابه ، مقهى سقراط ،مراحل تدمير المعنى  الصادر عام ٢٠١٣ و الأزمة المفتوحة ، مفهّمة الدُّولة وكشف الأنساق ،  ٢٠١٥وأساطير الاستبداد الصادر عام ٢٠١٦  وانتهاء بكتابه محنة الأقدام الكاذبة ، دراسة سوسيوثقافية ،٢٠٢٠  فضلا عن طروحاته المبثوثة في عدد من مجموعاته الشعرية وكتبه النقدية .ما يميز سلسلة هذه الكتب ، الغاية الواحدة والمسعى النبيل ، فهي لا تغرق بالتنظير الطويل والاسهاب المكرور في سرد حكايات التظلم والنّواح والعويل على ما اجترحته الجريمة السياسية في العراق وأثارها الكارثية على المجتمع بقطاعاته المختلفة ،  إنّما تخوض  منذ صفحاتها الأوّل في أتون المحنة ، وتعرجاتها الصعبة ،متوخية التطبيقات الحيّة لا التنظير وحده ، زيادة على تسمية الأشياء بمسمياتها فلا تزويق ولا تضليل ،بلغة مائزة تجمع بين الفكر وتعقيداته والشعر وجمالياته ، فشكلت في محصلتها النهائية جدلا واسعا في السوسيولوجيا العراقية سياسيا واجتماعيا ودينيا واقتصاديا ، ويمكن إيجاز أهم طروحات أمين المبثوثة في كتبه هذه التي جاءت تعزيزا لمشروعه البديل الثقافي على النحو الآتي: 

أولا /  إن تنوع المكونات في العراق ليس هو المشكلة أو الثقب الذي يمرّ من خلاله فايروس الخلاف ، بل ينبغي النظر لمراجعة تأريخ أزمة هذه المكونات والأنساق المغذية للتكاره ،فلبعضها أزمة هوية وقلق وجود ، إحساس بالقهر والاستلاب ما يرافق كل هذا من صعود طاقة سلبية معيقة للحوار والتعايش .

ثانيا / تفكيك القناعات التي تبدو كأنها بديهة في حياتنا بينما هي ملغومة بفايروس الاستبداد من دون أن نعلم ، ولكي لا يظل الناس معتقدين أن الغرض من وجودهم هو (جر عربة الامبراطور) ، وهناك ما هو أخطر من الاستبداد المعلن ، وهو الاستبداد غير المعلن ، ويعني القناعات الناعمة التي نتداولها  على أنها أخلاقيات بينما هي أجنة استبداد شغّالة بطريقة ما .

ثالثا /  تفعيل دور العلم في القضاء على الخرافة والأسطرة ، إذ نجحت الأخيرة في إيهام الجماعات وتزويدهم بعقائد لا منطقية تدفعهم إلى التشاحن والاحتراب وإلى الدرجة التي يعجز العلم والمنطق فيما بعد عن تفكيك هذه العقائد التي لا سند لها سوى الأسطرة ،والتعصب و الذي نعاني منه اليوم ما هو إلا واحد مز إفرازات هذا اليقين الزائف .

رابعا /  النهوض بالإنسان من خلال تبنيه مصطىح (الأنسنة) ولمّ شتات الإنسان العراقي تحديدا  الذي فرقته العقائد والقبليات ووزعته إلى سلالات عرقية ودينية يصعب التصالح فيما بينها على أرض الواقع ؛ لأنها شحت بحمولات تناقض محسوب لأجل التكاره والإحتراب ، فالإنسان هو مقياس الأشياء ، والانطلاق به إلى أفاق رحبة تفتح قدراته وإبداعاته وعقله .

خامسا / خسرنا الكثير ولا مجال لخسارات أخرى ، في ظل خرافة دينية تضلل وأيدلوجيا سياسية تحشّد وبداوة قبلية تدفع الإنسان للعيش خارج طبيعته الإنسانية وقد تستعصي الحلول والمعالجات بفعل معوقات الواقع ، لكن التشخيص مهما يكن نوعه يبق خطوة أولى على طريق تفكيك الأزمات ورسم ملامح الحلول حتى المأزوم منها .

سادسا / يناقش جمال أمين في مشروعه هذا عددا من القضايا التي شكلت عائقا أمام مشروعه واضعا لها الحلول المناسبة ومنها على سبيل المثال لا الحصر ، الثقافة التبريرية وظاهرة تخوين المثقف ومثقف الأزمة ، والمثقف النطاط  ، وأزمة ثقافة الاحتجاج والمثقف المتواطىء ،والثقافة العراقية وشيوع منطق الصدفة ،والاكاديميات العاطلة التي تنتج قلة الثقافة وكثرة الشهادات ،وظاهرة تمدد الأدب الشعبي والمديح السائد ،وندرة إنتاج المعنى ووفرة الاستهلاك ،وسلطة الخرافة ..الخ من الموضوعات الحيّة التي تمس الواقع المعيش 

وأخيرا أقول:

إن البديل الثقافي بأسئلته الشائكة وطروحاته المائزة ، التي صاغها مفكّرها جمال جاسم أمين ،  مشروع فكري وثقافي يستحق الذكر والانتباه والوقوف عليه، فثمّة حاجة حقيقية إلى قراءته والتفحص في مضامينه لا بوصفه مدونة من المدونات الفكرية المركونة على  الرفوف بل بوصفه حلولا ومعالجات  لمظاهر اجتماعية مقيتة أسهمت في تأخير عجلة التقدم الفكري والثقافي في العراق تحديدا وفي المنطقة العربية بشكل عام .

مصادر الدراسة :

_ مقهى سقراط ، مراحل تدمير المعنى ، جمال جاسم أمين ، دار سطور للنشر ،بغداد ،٢٠١٣.

_ محنة الأقدام الكاذبة ، دراسة سوسيوثقافية ، جمال جاسم أمين ، دار نصوص للنشر والتوزيع ، بغداد ، ٢٠٢٠ .

__ الأزمة المفتوحة ، مفهمة الدولة وكشف الأنساق ، جمال جاسم أمين ، رابطة ومجلة البديل الثقافي ، بغداد ، ٢٠١٧ .

__أساطير الإستبداد ، جمال جاسم أمين ، دار سطور للطباعة والنشر ،بغداد ، ٢٠١٦ .

__ وعي التأسيس ، مكاشفات نقدية ، جمال جاسم أمين ، سلسلة إصدارات ثقافية ، الأخوين للطباعة ، ميسان ،٢٠٠٩ .

__بحيرة الصمغ ،جمال جاسم أمين ، مجموعة شعرية ، منظمة الصحفيين والمثقفين ، ميسان ، ٢٠١١.

_ للكلام خطورة اللهب ، جمال جاسم أمين ،مجموعة شعرية ، إصدارات دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ٢٠١٥.

__ إصغاء قبل فوات المشهد ، جمال جاسم أمين ، تطبيقات  نقدية ، إصدارات نادي الشعر ، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، ٢٠١٠.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى