الشاعرة والمربية التونسية هادية آمنة والناقد التونسي محمد المحسن (وجها لوجه)

الشاعرة التونسية هادية آمنة برز إسمها في السنوات الأخيرة كواحدة من شاعراتنا التي أثبتت حضورا مميزا من خلال تقديمها نصوصا حملت روحا مدافعة عصرية عن المرأة وهي تعيش همومها الإجتماعية والعاطفية ،وسعيها في العيش بجانب الرجل زوجة، محبة، عاشقة ،عاملة، وأحد من يحمل تطلعا نحو بناء مستقبل واعد لمجتمعها من خلال حروفها سواء أكانت من جنس الشعرأو- الرواية- التي برعت بها في تكثيفها للحدث وتقديمه كحكمة بالغة المعنى.. انبهرت باللغة، ففتحت لها العربية المجال واسعا لتبحر ببراعة في عالمين متوازيين متكاملين رغم اختلافهما الأسلوبي؛ لغةً: ‘‘التربية والتعليم’’،و‘‘الكتابة الإبداعية’’. وكان حصيلة هذا الشغف أن كتبت نصوصا بجمالية فنية وأسلوبية ذات بصمة مميزة، كنتاج لخبرة وتعمق واهتمام بالجوانب الفنية للغة ولحالات التمظهر فيها وإلماما بالقوالب والأنواع. فــالشاعرة التونسية هادية آمنة، تتعامل مع الأدب والثقافة كشغف وحاجة روحية، فنجدها تكتب في نصوصها النثرية عن عوالم الخصب،الأنوثة، الكينونة، الوجود، الاكتمال، الفراغات النفسية والمادية. وهي تسعى للبحث في هذه القضايا. أيضا هي تعمل في قطاع التربية،مدرسة اللغة العربية لغير الناطقين بها بالمدرسة الفرنسية بتونس ،وبين المجال الأدبي والتعليمي تعمل ‘‘هادية’ على دمج هذين التخصصين في مجال عملها في قالب واحد مكمل لبعضه.. الشاعرة هادية آمنة.. شاعرة ذات لونِ مميز، جمعت بين حروف كلماتها قطوفاً من الرومانسية و الرقة و الحلم و الدفء..،استطاعت عبر قصائدها الموغلة في الجرأة والرومانسية التعبير عن المرأة و مشاعرها و أحلامها و أفكارها بمقدرة فريدة..

ما هو رأيك بالنقد الآن، وهل واكب مسيرة الشعر التي نشهد فوراناً لها منذ سنوات قليلة..؟

ما يثير الحزن حقا هذا التراجع والنكوص الذي يعرفه النقد الأدبي في جامعاتنا وأوساطنا الأدبية،فالمشهد اليوم يبدو فقيرا لغياب مدارس نقدية عربية حقيقية،في المقابل يمكننا الاستشهاد بالتجريدية الأوروبية والسريالية والبنيوية والتفكيكية وغير ذلك،أما التراث العربي القديم فإنه مليء بالشواهد التي ما زلنا نستنزف قواعدها،لقد أصبحت المناهج القديمة مستهلكة تكرر نفسها دون أن نجد نقدا حقيقيا للنصوص الشعرية مما شجع-كما أسلفت-على انتشار الرداءة والإسفاف والشعر الهابط ،ومن ثم كان على النقاد (وأنت واحد منهم-قالتها بإبتسامة عذبة) أن يقوموا بأدوارهم وأن يصطفوا جنبا إلى جنب مع الأدباء والشعراء لأن الشعوب المغلوبة في وطننا العربي تعول عليهم في قراءة الواقع ونقد مساراته،وهنا يبدو دور الجامعات المتخصصة في دمج الأدب المعاصر بالعمل الأكاديمي وتفعيل دور النوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية المعنية لأن التغيير لا يحدث إلا بشكل جماعي.

 أنا مع القائلين بأن قصيدة النثر” امتدادٌ طبيعيٌّ لتطور الشعر، خاصةً بعد شعر السبعينيات، الذي انحرف به أصحابه عن الشعر العمودي، وأنهم أوجدوا حلقةً جديدةً من تطور الشعر العربي، فهل هناك شبه مؤامرة على عدم الاعتراف بقصيدة النثر كحلقة شرعية من حلقات تطور الشعر العربي..؟!

هذا غير صحيح قصيدة النثر الجيدة فرضت نفسها حتى لو لم تنل ذلك الاعتراف،لكن المبالغة في تقليد الصراعات والابتعاد عن لغة الشعر وموسيقاه الداخلية أو الخارجية هي التي نفرت الناس منها فالشعر وتده الأساسي الموسيقى واللغة الشديدة التوتر والحساسية والتكثيف فلما انمحت ملامح الشعر أصبح النتاج لغة سردية لا فرق بينه وبين القصة القصيرة أو الخاطرة أو لغة المقال وأحيانا لغة الصحافة العادية، لذا كان من البديهي أن يذهب الناس وينصرفوا عن الشعر ويتقلص جمهوره،إن المبالغة في الخروج على كل الثوابت،وإلغاء الحدود بين كل الأجناس حتى الشعر الذي له خصوصيته الدقيقة،هو ما جعل معظم كتاب قصيدة النثر في وضع حرج،فالادعاء لا يقدم فنا خالدا،مما صرف الناس عن الاعتراف بما يكتبونه. لكن لا شك أنه توجد قصيدة نثر جميلة بل وعلى درجة عالية من الشاعرية.

نلاحظ في العديد من قصائدك تجسيد للفكرة عبر تكرار صورها، وما يحفز ذلك هو انقسامها الى مشجرات عنقودية،واعتمادها على نظام الفقرة .. هل هذه دعوة للقارئ إلى أن ينزاح هو الآخر عن اللغة الشعرية المألوفة بطريق بناء حوار جاد مع لغة القصيدة الحداثية وعليه أيضاً أن يضع معارفه القديمة إزاء النص الجديد موضع تعديل،ليحدث التفاعل ويحدث القبول الجمالي للخطاب..؟

نعم تجسدت الفكرة عبر تكرار صوري متعدد خاصة تلك الفكرة التي تلحّ عليّ وتكمن في أعماق الذات وهي بالفعل دعوة للقارئ لبناء حوار جاد مع لغة القصيدة المتشظية التي تطمح لتأسيس خطاب جمالي جديد منبثق من قناعتي ورؤيتي الجمالية لتطور النص الشعري الخاص بي والذي يحمل بصمة الذات الشاعرة وخصوصيتها..

حين سألتها عن بدايتها مع الشعر وما هي أهم المؤثرات التي أثرت في تكوين اتجاهاتها الأدبية.. ؟

أجابتني بهدوئها المعتاد: “كيف كانت بدايتي مع الشعر؟ الوردة لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع العطر،و الشمس لا تعرف كيف بدأت علاقتها مع الضوء،والجسد لا يعرف كيف بدأت علاقته مع الروح ، وأنا لا أعرف كيف بدأت علاقتي مع الشعر ولا أستطيع تفسير نوعها أو تحديد ماهيتها أو إعطاء فلسفة ما لها لأن الشعر ينبع من الروح ليصوغ العالم موضوعيا.. ولعل ّأجمل القصائد هي تلك التي سبر فيها الشاعر أغوار روحه فجاءت صورة لما يعتمل في أعماقه من مشاهد التمزق والتشظي..لاشك أننا متأثرون بالعديد من الكتاب الحداثيين بشكل واعٍ أو غير واعٍ،أستطيع القول أني في المرحلة الجامعية كنت أقرأ للكاتب السوري الراحل “أدونيس″،ثم قرأت بعضا من الأدب الروسي واللاتيني،كنت أقرأ في النقد أكثر من الأدب، وغالباً في القواعد التي تقوم عليها الفنون،أما الآن ومنذ مدة ليست بقليلة لم أعد أقرأ قراءة منظمة واعية،صرت أغوص في الداخل وأستمتع،ومراتٍ كثيرة أتوجع..والوجع صورة -كما أسلفت-لتشظيات الروح..ووتأوهات الجسد..”

هل راودتك فكرة الكتابة في غير مجال الشعر..؟

-مرات عديدة كتبت القصة القصيرة، أعتقد أني أميل إلى التكثيف اللغوي أكثر من السرد، الروايات والقصص والأشكال الأدبية الأخرى تسرد حكايا الناس واقعية كانت أم خيالية،لها أسسها الأسلوبية والفنية، الشعر أو النثر يحكي العوالم الخارجية مدعوماً بالأُس الداخلي طبعا بِقدَرِ مرورك إليه.أما الآن فأنا بصدد كتابة رواية لم تكتمل بعد واستنزفتني في نخاع العظم معنونة بسمراء الجنوب..”

أي الجوانب تميلين إليها أكثر: العمل التربوي التعليمي أم الأدبي الثقافي؟

العمل التربوي اختصاصي النبيل، الأدبي الثقافي شغفي وحاجتي الروحية،كلاهما يعبران عني، ويكملاني وسأستمر بهما..أمارس في عملي التربوي اللغة العربية كنظام تواصل وأصوات وقواعد ومادة امتحانية،في العمل الأدبي أمارس اللغة ـاللغة بشكل عام ـالوعي الجمعي،ما يدور في رأسك كي تنتج اللغة أو تنطقها، العمليات التي تسبق اللغة،اختلاف اللغات،عملت دمج هذين الأمرين في مجال عملي في قالب واحد مكمل لبعضه..”

إلى أي مدى فقدت القصيدة فعاليتها في هذا الزمن المعلب ؟

ما يحزنني هو أنني ولدت في زمن يأكل المشاعر بالشوكة والسكين ويتفنن في اغتيال كل الأشياء الجميلة ،زمنٌ لا يمهلنا كي نكبر ،و لا يترك لنا نقطة من العطر آخر الحلم. ولكنني رغم ذلك أعلن أنني لن أستسلم أبدا له،ولن أترك له شرف الانتصار علي وعلى القصيدة،لن أدعه يحولني إلى علبة صفيح،ولا إلى دمية من خشب ولا إلى سيجارة كوبية،ولن اسمح له أن يأكلني ولا أن يأكل أحلامي ولا أن يجعلني بلا إحساس.ربما قد أنهزم في معركة، وربما قد أنزف حتى الموت ،ولكن كل جرح ما هو إلا مطلع قصيدة وكل نزيف ما هو إلى رغبة في الكتابة..

بسؤال مغاير أقول: هل تعتقد الشاعرة هادية آمنة أن أهمية الشعر والشعراء تلاشت عما كانت عليه في السابق اي في العصور الماضية ولماذا..؟

يبدو لي أنها تلاشت وبشكل محزن،رغم وجود أقلية تناضل في هذا المجال، أما السبب برأيي المتواضع، هو انحلال أخلاق حملة الأقلام،أعتذر،لكنها الحقيقة،ضاع المبدعون الحقيقيون وسط ثلة من سماسرة الحرف.. هبط مستوى الكلام الى أسوأ رتبة،صار شعراً تجارياً،كما أفلام التفاهة والميوعة تماماً،وحين صار الشعر بيد أناس يتاجرون به،ومن يشترون اسماً لن يخلد إلا نفاقا. لكن يظل في الأخير الشعر النابع من الذات مخترقا لسجوف الرداءة..

وفي الأخير.. اختتمت حوارها معي بالقول: ” كل ما اعرفه إنني عاشقة للقلم أجيد الرسم بالحروف، ولطالما أسعدني دفء الورق،وأطربتني خشخشته، وحبر قلمي هو المتنفس لكل ما يجول بخاطري، أما قصيدتي فهي تولد بلحظة ودون مقدمات تجاه تأثر من موقف معين..أتسلق أهداب الليل الحالك،يرهقني صخب الشوارع ،وابحث عن باب نهار مشرق لأفتحه..”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى