كن إنساناً

رحاب يوسف | قاصة وكاتبة تربوية فلسطينية

نحن لا نَنظرُ إلى أعين البؤساء، وحين نَمرُّ بهم نُسرعُ الخُطا، بل نُشيحُ بوجوهنا عنهم، وكأنهم لعنةٌ وجحيم، فهل نحن نهرب منهم؟ أم نهرب من العطاء لهم؟ أم أن القلوبَ قَست في ظل طغيان المال؟ أم أننا فقدنا الرحمة والإنسانية؟
قد تخسرُ شيئاً ثميناً، أو قد تفقد عزيزاً، وقد تفوتُك أحلامك، كل هذا ممكن أن تُدرِكَه، لكن إياك أن تخسرَ نفسَكَ وإنسانيتك، ولتكن جزءاً لا يتجزأ منك ومن حياتك، فسلوك البشر يعكس ما يعتنقونه من مبادئ تربّوا وشبّوا عليها؛ لذلك قيل: “سر مع التيار فيما يختصّ بالمظاهر، أما ما يختصّ بالمبادئ فلتقف مكانك مثل الصخرة”.
الإنسانيةُ إحساسٌ عالٍ، وشعورٌ راقٍ تعطيه لمن يحتاجه، وهي لا تتطلب صنعَ المعجزات، ولا أن تكون خارقاً للعادة، يكفيك أن تكون شهماً كريماً في مشاعرك مع أهل بيتك، مع جيرانك، مع الحيوانات، مع الطبيعة، انثرها أينما حللتَ ووطئِتْ قدماك.
إن الإحساس بالآخر والخوف على مشاعره وكرامته أشدُّ أنواع الكرم، وليس من الشهامة والرجولة في شيء أنْ تُشهِرَ لسانك كالسيف في وجه أخيك الانسان، مُطلِقاً كلماتٍ لاذعةً وسامّةً من أجل نقدٍ سخيف، أو هتكِ كرامة، أو تفريغ حقدٍ دفين، مبني على الغيرة والعنصرية والفوقية.
كل الديانات دعتْ إلى الإنسانية والتسامح، والعدل، والأمانة، والمحبة، والرحمة، والإخلاص، وكلها تتقاطع مع القوانين الأرضية الإنسانية السامية وتعززها، كلاهما يعزّز الآخر، فلا دين بدون إنسانية، ولا إنسانية بدون دين.
إنّ الإنسانية تنقلك من حالة المشاحنة النفسية والكره إلى السلام الداخلي، وأن تحترم الإنسان دون أن تنظر إلى عِرقه، ولغته، ودينه، وجنسه، ولون بشرته، فهو أغلى ما في الوجود؛ لأنه بنيان الله عز وجل على الأرض، لا تستقيم الحياة إلا بالارتقاء به والحفاظ عليه.
إننا نجد نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة تعلن مصرحةً بإرساء القيمة الإنسانية للإنسان، فيشتمل خطابها على الألفاظ الدالة على مُسمّى الإنسان فرداً أو نوعاً (يا أيها الإنسان)، (يا أيها الناس)، (يا بني آدم)، إما في ابتداء الخطاب أو في أثنائه – حسب ما تقتضيه الحاجة – ووفق مقتضيات البلاغة والحكمة، حيث أن الناسَ جميعاً يتساوون في أصل خلقتهم، وقد خلقهم الله سبحانه أسوياء من أصلٍ واحد، قال الله تعالى في سورة النساء: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)”،‏ فنجد في الآية الكريمة السابقة أن الله عز وجل يذكّرنا بالعبودية له – سبحانه وتعالى – وبالأصل الجامع للناس آدم وحواء، فهم أخوة لبعضهم البعض، وهذا يقتضي الشعور بالمساواة والعدل بينهم.
إنّ عالم كرة القدم يمتلئ بمشاهد الروح الرياضية التي تلعب دور البطولة فيها، والذي استطاعت تجسيد أروع القيم الإنسانية من صدق، واحترام، وتواضع، وشهامة، عبر مواقف خالدة، أظهرت الوجه الأخلاقي لكرة القدم النبيل في أبهى صورها، ففي الملاعب الإنجليزية، تُصنف حادثة “ملعب جوديسون بارك”عام 2000م، على رأس هرم أجمل مواقف الروح الرياضية، ففي الدقائق الأخيرة من مباراة فريقي ويستهام وإيفرتون في الدوري الإنجليزي، تَعرّض حارس مرمى “إيفرتون”لإصابةٍ قاسيةٍ في ركبته خلال إحدى هجمات ويستهام، واستلقى على الأرض متألماً بينما لا تزال الهجمةُ مستمرة، فما كان من نجم ويستهام الإيطالي باولو دي كانيو إلا أن أمسك الكرة بيده بدلاً من تسديدها في الشباك الخالية، مشيراً إلى حارس مرمى الخصم الملقى على الأرض.
وفي موقف آخر يظل راسخاً في ذاكرة العالم بين عدّائين (كيني وإسباني)، كان العدّاء الكيني يتصدر السباق طوال الماراثون، والإسباني خلفه، لكن قبل نهاية الماراثون بعشر أمتار توقف العدّاء الكيني معتقداً أن السباق انتهى، وكانت فرصة للعدّاء الإسباني للفوز رسميا بالماراثون، ولكنه توجه إلى العدّاء الكيني ، وأشار له بأنه لم يصل بعد إلى نقطة النهاية، كان بإمكان الإسباني عدم تفويت الفرصة، لكنها الإنسانية!
ومن المواقف الإنسانية في حياة “غاندي”أنه دافع عن العمال الهنود والمستضعفين من الجاليات الأخرى، واتخذ من الفقر خياراً له، وتدرب على الإسعافات الأولية ليكون قادراً على إسعاف البسطاء، وهيّأ منـزله لاجتماعات رفاقه من أبناء المهنة الساسة، حتى أنه كان ينفق من مدخرات أسرته على الأغراض الإنسانية العامة، وقاده ذلك إلى التخلي عن موكليه الأغنياء، ورفضه إدخال أطفاله المدارس الأوربية استناداً لكونه محامياً يترافع أمام المحاكم العليا.
“تولوستوي”- عملاق الأدب الروسي – وزّع رَيع كتبه بالملايين على الفقراء، فطردته زوجتُه من البيت، وعاش على سكة حديد.
وما أجمل أن يجتمع روح القانون مع الإنسانية، فيتعامل مسؤول العمل مع العاملين بروح القانون لا نصّه.
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى