دو..ري..مي..  قصة قصيرة

لامعة العقربي | صفاقس – تونس

1/ دو 

كل شيء بدأ بأغنية. خرجت بقامتها الممشوقة من المعهد الخاص الذي تدرّس فيه بضع ساعات أسبوعيا لكسر جدار الملل الذي لازمها طوال الأشهر الماضية وهي في غرفة ذات سقف منخفض ونافذة لا تطل على شيء يستحق.

جارٌ عريضٌ طويلٌ في الثلاثين من عمره تقريباً، يجلس كل مساء في ساحة منزله المقابلة للنافذة مباشرة مستمعًا لكل أغنية غريبة ممكنة. تطل من وراء الزجاج لتلمحه بجثته الضخمة يلاعب طفلا صغيرا راح ينزلق من بين يديه يمنة ويسرة ثم وضعه على الأرض فراح يحبو حتى وصل كومة أوراق ملقاة عبثا، ربما أوراق جريدة غير مهمة فالتقطها الطفل ومزق بأصابعه الصغيرة طرفا منها كما هي عادة معظم الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم السنة والنصف.

وضعها مباشرة في فمه الذي يشبه لصغره حبة الفستق فلم ينتبه الشاب الذي راح يقلب هاتفه تارة ويرفع بصره للنافذة مترقبا خيال الفتاة تارة أخرى. أعاد الطفل الصغير الكرّة مرة ومرتين وثلاثا حتى صدرت منه شهقة تقشعر لها الأبدان. ألقى هاتفه بطريقة لا واعية والتقط الطفل وراح يخرج ما تراكم في فمه من أخبار قاسية فلم يجد الأمر نفعًا إذ احمرت عينا الرضيع واغرورقت بالدموع. ضربه الشاب ضربة خفيفة على مؤخرة ظهره الصغير بدون فائدة، أخذه في حضنه وراح يربت عليه في قلق، ثم ما لبث أن صاح بصوت مرتفع سمعه كل من في الحي. لحظتها فزعت أمه وهي تصيح وتولول خوفا على طفلها الذي جاء بعد عشر سنوات عجاف.

أخذته وضمته إلى صدرها ومسحت على رأسه مرات ثم قبّلت وجهه الصغير قبلا في كل مكان. راح الطفل يتنفس بصعوبة شديدة. أخرجت الأم ثديها الناعم من بين فتحة الفستان الزهري الذي كانت ترتديه ودست حلمته في فم صغيرها وهي تربت على ظهره مرددة: 

– لا تخف يا أمي، اسم الله عليك، اسم الله على ولدي..

ترفع نظرها فتلمح أخو زوجها المندهش والمفزوع خوفا على الطفل الذي كاد يموت خنقا جراء إهماله . فتح فمه كعصفور عطش وهو يتأمل تفاصيل عنقها الطويل وصدرها القمري المكور، فعادت المرأة خطوة إلى الوراء ثم ركضت إلى غرفتها.

– كم هذا محرج لقد نسيت أن أرتدي – لفزعي- جبة وخمارًا.

يأتي صوت من بعيد: 

– زوجة أخي هل يوسف بخير؟ 

– بخير..بخير مجرد اختناق بسيط والحمد لله.

– هل تستحقين مساعدة؟ 

– فيم؟

– هل أدخل لألعب معه قليلا، ربما تتحسن حاله؟

– لا عليك إنه صغير ولا يعرف اللعب ولا يترك لحاله مع كومة أوراق أو أي شيء حادا أو خطير، ألا تعرف ذلك ؟ 

– أعتذر أرجوك لا تخبري أخي وإلا سيمنعني من اللعب معه مرة أخرى.

– حسنا.

فكر في جارته الفتاة وراح يتخيل صوتها قادما من داخل الغرفة مناديا عليه، فطرق مرة الباب ودخل على زوجة أخيه، فبادرته بسؤالٍ فيه من الاستغراب والحيرة الكثير: 

– ما بك؟ ألا ترى أنني أرضع يوسف، هذا عيب.

– ما هو العيب؟ أريد أن أطمئن عليه لقد حدث كل هذا بسبب إهمالي.

يقترب منها وهي جالسة على حافة السرير حاملة طفلها بين ذراعيها. التقطت قطعة من القماش تشبه الخمار ووضعتها على شعرها وأسدلت طرفها على صدرها فغطت نصف وجه الرضيع. جلس القرفصاء أمامها ورفع قليلا من القماشة حتى تراءت له عينا يوسف وهو يغط في نوم عميق مستسلمًا لحضن أمه محركا شفتيه الصغيرتين بين الفينة والأخرى مدركا بخياله وجود شيء ما في فمه.

راح الشاب يرفع من القماش حتى تراءى له لحم أبيض يفيض بالحياة، استلت من يده يد يوسف ووقفت متجهة صوب باب الغرفة منادية على الخالة مريم -والدة  زوجها- فلم تسمع إلا صوت الصمت في كامل أرجاء البيت. التفتت كمحاولة منها لتغير الموضوع: 

– أين، أين أمك؟ هل ذهبت عند جارتنا؟ 

– لا أعلم، ربما ذهبت للسوق المجاور لتبتاع بعض الخضر والغلال مع أنني لا أعلم لماذا نستحق الغلال وفي المنزل هذا التفاح الشهي.

– ماذا قلت؟ لم أسمعك؟ 

– لا شيء يا زوجة أخي، لا شيء.. 

2/ ري

بعد أسبوع انتهت إجازة عمار وعاد للعسكرية حاملا حقيبته المثقلة بعلب الأكل الجاهز والبسكويت الذي صنعته زوجته والحب والكثير من رائحة يوسف. غادر بعد أن قبّل زوجته وولده وأمه وربت على كتف أخيه موصيا إياه: 

– هذه العائلة أمانة عندك، انتبه ليوسف في غيابي.

– بكل تأكيد يا أخي اطمئن وانتبه أنت لنفسك أيها البطل.

كان الوقت صيفا فتحت. الكنة الشبابيك على مصراعيها لاستقبال أي نسمة هواء ممكنة والحقيقة أنها استقبلت الحشرات والبق بدل الهواء، فراحت تثبت ستائر رقيقة شفافة تعبر منها النسمة والنظرات وتحجب ما غيرها  واستلقت بعد أن انتهت من مشاغل البيت من تنظيف وطبخ وجلسة مع عجوزها المسنة متنهدة بينها وبين نفسها قائلة: 

– أخيراا سينعم المرء برقدة هادئة في هذا اليوم الطويل، يوسف نائم أه الحمد لله.

تضع ما فوقها من ثياب وتغطي جزءًا منها بلحاف مررت نصفه لصغيرها المستسلم لنوم عميق رغم حرارة الطقس. تفتح نغمًا هادئًا من هاتفها ثم تضعه بجانب وسادتها وتستسلم هي الأخرى لسلطة النوم بعد يوم مرهق كالعادة.

يمر من أمام غرفتها بخطواته الخفيفة كشبح حتى يصل لطرف الشباك الذي تعبث النسمات الرقيقة بستارته البيضاء التي لا تستر ولا تمنع من شيء. يعود للخلف خطوة. يتسمر على طرفه كحشرة عملاقة يراقب من خلال شق جانبي وجه زوجة أخيه مستلقية لا تثريب عليها بكل ما فيها من أنوثة وبركة. تتسع حدقتا عينه محاولا التقاط أكثر ما يمكن من تلك التفاصيل الصغيرة الحابسة للأنفاس.

يتحرك يوسف فتشعر الأم به. لا إراديا تحمله وتضعه على صدرها بهدوء متقن فيعود لسكونه الأول. 

شعرها المنساب على الوسادة كنهر بعيد تحت ضوء القمر وكتفيها النحيفتين بطريقة متقنة ، صناعة ربانية ، وهذه الأرجل الطويلة الممتلئة البيضاء كقطعة جبن، من العيب أن يترك هكذا وطن ويذهب دفاعا عن وطن لا تفاصيل تذكر فيه.

يسحب سيجارة من جيبه يدسها بين شفتيه الغليظتين ويشعل بهدوء الولاعة. يأخذ نفسا طويلا يحتفظ به لبرهة ويخرجه بعد ذلك في شكل تنهيدة وعيناه متسمرتان على أم يوسف مراقبا كل تفصيل منها متخيلا إياها بين ذراعيه.

شعرت به هناك.. فقد تسللت رائحة السجائر لداخل الغرفة بطريقة مبالغ فيها . استيقظت لكنها لم تفتح عينيها ولا تحركت. بقيت على هدوئها تشعر بأعين تأكل لحمها بنظرات حادة لكنها لم تتحرك لسبب لا تعلمه. هي هكذا دائما . ظلت في مكانها حتى شعرت بأنفاس تقترب منها لتحط على عنقها بكل ما فيها من رغبة وشهوة واضحة تجلّت في الطريقة التي يتواتر من خلالها الشهيق والزفير.

مي(3)

– ماذا تفعل هنا؟ ابتعد هل جننت..

– لا أحد هنا أمي نائمة وأخي في العسكرية.

– وإن يكن هذا عيب اخجل من نفسك.

– مما أخجل؟ أنت جميلة جداً وأنا دائما أختنق كلما لمحتك.

– هذا عيب والله عيب اخرج قبل أن أصرخ وأفزع عليك العامة والطامة.

– هيا، اصرخي أنت متوحشة بكل هذا الصمت فما بالك لو صرخت.

– أنت مريض.

– أجل مريض اعطني دواء.

تهم أم يوسف بالنهوض حاملة اللحاف معها فيسحبها بخفة إلى ذراعيه واضعا يده على فمها ناظرا لعينيها وهو يهمس: 

– لن يعلم أحد بذلك أعدك، أنا حقا مريض بك.

تصرخ من تحت كفه ولكن صوتها لا يكاد يتعدى باب الغرفة.

– سيستيقظ يوسف هيا لا تعاندي أعرف بأنني أعجبك ولكنك خائفة، أليس كذلك خائفة ؟؟

– مم لست خائفة ولكن هذا عيب .

يشير بإصبعه إلى قلبه هامسا: 

– وهذا عيب أيضاً لقد اشتهاك هذا القلب.

في صباح اليوم الموالي وقبيل أن يستيقظ الحي خرج من غرفتها والابتسامة على شفتيه بينما بقيت أم يوسف ترتب ما تبعثر في الغرفة، ثم ارتدت ثيابها واستأنفت مشاغل يومها كالعادة…

جلس في ساحة البيت ورفع نظره فلمح طيفها وقد فتحت النافذة لتهوية الغرفة قبيل أن تذهب للمعهد وتستأنف عملها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى