من حكمة العطاء في الإسلام (صدقة السر والعلن)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

ولا تقف روح الشريعة فقط عند حفظ هذا القوام الاجتماعي الذي يشتد بالاكتمال والتلاحم، لما يؤصل من قيم  العطاء وخلقه، وينقي أتباعه من مثيرات الضغائن و مورثات الأحقاد.. ورغم العمق التاريخي لهذا التشريع، وتقدمه الزمني على بعض فلسفات العصر بأكثر من ألف عام، إلا أنه يعلو عليها في أكثر من  فضيلة في هذا الموضوع علو الثريا على الثرى..

فلا تكتف الشريعة بقوام الشكل الاجتماعي وحده، بل تتعدى إلى ما هو أدق منه، حتى تحفظ كذلك القوام النفسي لهذه اليد التي امتدت يوما لتأخذ سرا أو علنا، حين اضطرتها الحاجة، فلا تلاحقها سبة (السفلى)، أو ذل الحاجة في حياتها، حتى إذا تبدل الحال، وحال الزمان وبلغت هذه النفس مبلغ العليا يوما ما.. فهي في قوة روحية ومنعة نفسية.. لم تضعها سيرتها الأولى من عيون المجتمع السليم الصحيح، ولها القوة على إتيان ما تألفه من سابق الجود.

ومن هنا جعل الإسلام للصدقة أكثر من مظهر في (السر والعلن)، حسب مقتضيات الظرف الاجتماعي وما تلائمه الحال، وما يناسب معادن النفوس المستقبلة لهذا العطاء، فمن النفوس من لا تصلحه إلا صدقة السر حياء واستعفافا، ومنها من لا تضيره صدقة العلن، فهو من القوة النفسية ما يجعل احتماله هذا الأمر  يسيرا، حت حين..  لعل يسعفه تداول الأيام يوما، وتبدل الزمان ، أن يكون غدا مع العطائين، ولسان حاله يتأسى بقوله:

الناس للناس ما دام الحياء بهم      //      والعسر واليسر ساعات وتارات..

 وهنا يجمل القرآن هذا المعنى في قوله “إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)” (البقرة).

أما صدقة العلن فهي التي تصلح مع الزكاة ، وهي كما ذكرها القرآن، بمثابة حق لصنوف المستحقين “وفي أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم” (المعارج).. وما دام قد سٌمّي (حقا)، فليس على المستحق مشاحة أن يمد يده ليأخذ ما قدره الشارع له، وخصه به ،،  وهل هناك حق بعد الذي شرع الله جل جلاله، وسمّى بنفسه أصحابه!!

أما ما زاد على ذلك، وما فرضه المرء على نفسه تطوعا، فهو مخير أن يظهره أو يخفيه.. فإن أظهر بغرض إشاعة الخير، وتحفيز المجتمع،  والحض على الصدقة، فذلك نعم الخير، مجزول الأجر، وأما الإخفاء فذلك أعظم عند الله للأجر، ومكفرة للسيئات، وأحفظ لنفس الآخذ، والله من وراء خبايا النفوس خبير بمن أعطى (رياء)، ومن أعطى (إخلاصا وإخباتا) ..

وقد عظم صلى الله عليه وسلم درجة هذا النوع من العطاء (الظاهر والخفي)، إذ جعل صاحبه في ظل صدقته يوم اشتداد الحر وانقطاع أسباب إلا من صالح الأعمال، وسلامة القلب، فقال: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» (مسند أحمد وغيره).. ، أما صاحب الصدقة الخفية فهو في ظل عرش الله ـ وشتان ما بين الظلين ـ وهي التي وردت في حديث  السبعة الذي يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله “وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ” . (البخاري ومسلم وغيرهما).

كذلك في قصة صاحب الصدقة الخفية، وقد قبلها الله منه لصلاح سره وسريرته، من حديث أبي هريرة ” قَالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ “.

وقد عظم العرب هذا هذا النوع من عطاء السر، وكان محمودا لديهم، ثم لما جاء الإسلام زاده حمدا وحثا عليه.. ومن ذلك حين استدركت الخنساء على حسان رضي الله عنه في قوله:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى   //      وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فقالت: قلت الجفنات ولو قلت (القصاع) لكان أفضل، وقلت يلمعن، ولو قلت (يبرقن) لكان أفضل، وقلت في الضحى، ولو قلت في (الدجى) لكان أفضل .. هكذا علمت أن عطاء الدجى أفضل وأكرم من عطاء الضحى الذي يظهر للناس..

وأنشد المتنبي في ذلك معنى جميلا يمدح كريما في عطاء الليل، فقال:

وكم لظلام الليل عندك من أياد      //    تدل على أن المانوية تكذب

وروي أن الزهري رحمه الله قال: رأيت على بن الحسين في ليلة باردة وهو يحمل على ظهره دقيقا، فقلت له: يابن رسول الله: ما هذا؟ فأجابه عليه السلام: أريد سفرا أعد له زادا أحمله إلى موضع حريز،” فقال هذا غلامي يحمله عنك، فامتنع رضي الله عنه، فتضرع الزهري إليه أن يحمله هو بنفسه عنه ، فقال “ولكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري ويحسن ورودي على ما أرد عليه .. أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى