تطوير الشهر العقاري ومكاتب البريد فنكوش .. فنكوش

خليل الجيزاوي | كاتب وروائي مصري

عندما تشاهدُ إعلانات التليفزيون عن تطوير مكاتب الشهر العقاري ومكاتب البريد على شاشة الفضائيات تشعرُ أنك تعيشُ في جمهورية أفلاطون، أما إذا قدر لك أن تذهبَ إلى مكتب الشهر العقاري في مصر القديمة عليك أن تلعنَ نفسك، وتلعن اليوم الذي زين لك المحامي أن تسمعَ كلامه وتعمل التوكيل العام.

والحكاية وما فيها أنني أسكنُ منطقة منيل الروضة، والروضةُ من بداية شارع الروضة وحتى مقياس النيل مرورًا بميدان المماليك منطقة خالية من جميع الخدمات الحكومية؛ لأن كل الخدمات الحكومية تتركزُ في منطقة المنيل، وهي نصف مساحة منيل الروضة، المهم توجهت اليوم تمام الساعة التاسعة صباحًا إلى عمارات العرايس في حي المنيرة بالسيدة زينب حيث يسكنُ مكتب الشهر العقاري الخاص بمصر القديمة منذ أكثر من عشرين عامًا، وأنا طالع السلم بسملتُ وحوقلتُ واستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، ومع ذلك حين مددتُ يدي لحارس بوابة مكتب الشهر العقاري، نظر ناحيتي شذرًا، وقال: روح فرع مكتب مصر القديمة، فقلتُ له مُراجعًا: طول عمره يسكنُ هذه الشقة، فردَّ غاضبًا: تم نقله في عمليات التطوير يا أستاذ!، بلعتُ ريقي مُستفسرًا: يعني نقلوه فين؟! ردَّ أحد الواقفين: في قسم مصر القديمة.

ردَّ حاجب البوابة مُصححًا: داخل مكتب بريد مصر القديمة الجديد بجوار قسم مصر القديمة، وأضاف مُؤكدًا: تطوير..

تطوير، بالساعة التاسعة والنصف كنتُ أقفُ أمام حارس بوابة مكتب البريد المُطل على كورنيش النيل بمصر القديمة، مددتُ يدي ببطاقة الرقم القومي قائلا: أريدُ رقمًا لشباك توكيل قضايا.

أجاب حارس الأمن: سيتم تسجيل اسمك، وبعدين نشوف حكاية الأرقام، وعندما سألته مُستفسرًا قال: أخذنا ثلاثين رقمًا وربنا يسهل، ووجدتُ يده تقفلُ بوابة الدخول، قلتُ له كما ترى لا أزال أعاني من كسر بالقدم اليسرى وأسيرُ على عكاز، دعني أجلسُ بالداخل والمقاعد أمامك كثيرة وفاضية، ردَّ مُؤكدًا: قدامك حتى الساعة الثانية ظهرًا حتى يأتي دورك.

وبالفعل جلستُ لأتأملَ المكان، وجدتُ مكتب البريد يحتلُ مساحة شقةً كاملة بالدور الأرضي في عمارة جديدة، وصالة كبيرة جدًا فسيحة تزيدُ عن سبعين مترًا، وأربعة عشر شباكًا بالأرقام، منهم سبعة أرقام بجوار حارس الأمن ومثبت عليهم ورقة كبيرة مكتوب عليها بالخط الثلث كلمة: الشهر العقاري.

جلستُ لأتابعَ حركةَ العملِ، واكتشفتُ أن موظفةً واحدةً تجلسُ خلف شباك رقم ثلاثة، وبجوارها موظفة تساعدها، وموظف الخزينة يجلسُ الناحية الثانية وحيدًا خلف شباك رقم 13، وثلاثة شبابيك مُخصصة لمكتب البريد، وتسعة شبابيك بدون موظفين، وكل نصف ساعة تسمعُ صوت النداء المعدني يطلبُ رقمًا جديدًا لموظفة الشهر العقاري.

في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف تكرم حارس الأمن وأعطى الأسماء المكتوبة لديه بطريقة عشوائية مجموعة من الأرقام، ممّا جعل معظم الحاضرين يغضبون ويدخلون في حوارات ساخنة ومشادات كلامية، مؤكدين أن عدم إعطاء كل من يدخلُ مكتب البريد قاصدًا شباك الشهر العقاري رقمًا جديدًا هو باب للمجاملات، ويفتح بابًا آخر للقيل والقال، خاصة أنه يعطي رقمًا لمن يطلبُ الخدمات البريدية، فلماذا لا يعطي حارس الأمن المترددين على مكتب الشهر العقاري رقمًا وتكون المعاملة بالمثل؟! والسؤال ليس بريئًا!

حتى آذان الظهر أيها السادة كان النداءُ لا يزال عند الرقم 2012 من مجموعة الأرقام المائة، وكان نصيبي رقم 2044، رغم حضوري تمام الساعة التاسعة النصف صباحًا، لكن نتيجة توزيع الأرقام بطريقة عشوائية، وبعد المجاملات التي ليست بريئة حصلت على هذا الرقم البعيد.

عندما سمعتُ آذان الظهر قلتُ أقوم لأصلي الظهر ويحلها الذي لا يغفل ولا ينام.

صليتُ الظهرَ في مسجد عابد بك الترجمان، الشهير بمسجد الشيخ رويش بشارع كورنيش النيل بمصر القديمة، على ناصية مكتب البريد، وهو مسجد أثري مسجل تحت رقم 524 آثار جنوب القاهرة، وبعد صلاة الظهر جلستُ لأشرب كوبًا من الشاي في مقهى نادي النيل بشارع كورنيش النيل أيضًا، وعدتُ الساعة الواحدة والنصف ظهرًا.

أي عدتُ بعد ساعة ونصف بين المسجد والمقهى، لأجدَ صوتَ النداء المعدني يقف عند رقم 2025، وأنا أحملُ الرقم 2044، وأثناء جلوسي شاهدتُ شاشة داخلية وسط صالة مكتب البريد تشيدُ بالتطوير وتعدُّهُ أحد أهم الإنجازات، واستفزني تكرار الإعلان وحرضني على فعل الكتابة، وها أنا أكتبُ إليكم مُعددًا محاسن التطوير، بعد خروجي من مكتب البريد الساعة الثالثة عصرًا، أي بعد خمس ساعات ونصف لعمل توكيل عام بالشهر العقاري.

والآن بات من حقي أن أطرحَ مجموعةً من الأسئلة:

أين التطوير في مكتب خدمة عامة يجلسُ فيه الكثير من كبار السن خمس وست ساعات دون وجدود دورة مياه؟!

وأين التطوير في تقديم خدمة ممتازة وشابيك مكتب البريد والشهر العقاري بدون موظفين محترفين؟!

وأين التطوير الذي يُجبرُ كبار السن على الجلوس على مقعد معدني صلب وغير مريح تمامًا أكثر من ست ساعات؟!

ولماذا لا يتم افتتاح فرعًا لمكتب البريد أو الشهر العقاري في ميدان المماليك بمنطقة الروضة تخفيفًا للزحام؟!

ولماذا لا يتم تزويد مكتب بريد مصر القديمة بخمسة موظفين أكفاء يقدمون خدمات مكتب توثيق الشهر العقاري؟!

ويا أيها السادة المطورون ارحموا الناس من الوقوف تحت وهج الشمس أمام بوابة مكتب البريد في ظل وباء كورونا؟!

ويا أيها المطورون إذا كان التطويرُ بالشكل الذي شاهدته رؤية العين في مكتب بريد مصر القديمة، فإنه تطوير فنكوش .. فنكوش، مع الاعتذار للفنان عادل إمام!، لأنني سمعتُ صرخات كبار السن، سمعتهم يصرخون في وجع وألم: تطوير إيه وزفت إيه؟ هذا تطوير القهر والتعذيب!

ويا أيها المطورون ارحموا مَنْ في الأرض .. يرحمكم مَنْ في السماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على حمدي الجيزاوي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى