المشكلة … لا مشكلة

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه| أستاذ تعليم اللغة الإنجليزية – جامعة جنوب الوادي

يسألني كثير من الطلاب والباحثين حول ما هي أحدث الأساليب التدريسية لنستخدمها في أبحاث الماجيستير، وما هي الاستراتيجيات الجديدة التي يمكن أن تكون موضوعا جيدا للبحث، وما الجديد في مجال التخصص الذي طُبق خارج بلادنا العربية ويمكننا تجريبه عندنا فيكون موضوعا مميزا للدراسة. وكل هذه الأسئلة – سواء من باحثي الماجيستير والدكتوراة أو من الزملاء الساعين لبحوث ما بعد الدكتوراة – تعكس رؤية معكوسة وفهما سقيما لطبيعة البحث التربوي في بلادنا العربية، وسبب هذه الرؤية المغلوطة أن مشكلة الدراسة -وهي الأساس في بنيتها وتطورها- لا تنبع من الواقع ولا تترتب عليه في هذه الرؤية.

بل يصرح البعض: مشكلتي أني لا أجد مشكلة؛ فكل الموضوعات قد بُحثت، وكل الأفكار قد اُستخدمت، وكلما فكرت في فكرة أجدها خُطفت، فمن أين تأتون بالأفكار، “حِنّ” علينا بمشكلة “الله يخليك”!

وهنا أقول إن هناك عدة نقاط وعدة خطوات لاختيار موضوع البحث لابد من الوعي بها، واستحضارها في كل خطوة من خطوات بناء مخطط الدراسة. 

  1. في الدراسات التجريبية التربوية هناك -دائما- متغيران: مستقل وتابع، المستقل يمثل الأداة أو الأسلوب التدريسي أو الاستراتيجية المستخدمة (أي التدخل في الواقع)، والتابع يمثل ما يترتب على هذا التدخل (تنمية المهارات، تشكل الاتجاهات، تغير الرؤى والمعتقدات… إلخ) والملاحظ أن الكثيرين يهتمون بالمتغير المستقل باعتبار
    أنه الذي يعطي للبحث وجاهة، فيقول أحدهم “استخدمت في بحثي الذكاءات المتعددة، أو استراتيجيات ما وراء المعرفة، أو الدعامات التعليمية، أو صممت برنامجا حاسبويا، أو طورت برنامجا لإدارة التعلم” ونادرا ما يذكرون لم كان هذا الاستخدام، وما الذي ترتب عليه، وما المتغير التابع الذي تأثر به. والحقيقة أنه في أي دراسة تجريبية تربوية، المتغير التابع أكثر أهمية من المتغير المستقل؛ فالتابع هو مشكلة الدراسة الذي نبعت منه، ولولا وجود المشكلة ما كان استخدام الحل المقترح (المتغير المستقل)، والتابع هو الذي يمثل كذلك النتيجة المترتبة على التدخل. لذا فالاهتمام بالمتغير التابع ينبغي أن يسبق ويزيد على المتغير المستقل. 
  2. لا ينبغي لباحث في المناهج وطرائق التدريس الاقدام على اختيار موضوع للبحث قبل أن يكون قد مارس عملية التدريس بالفعل لفترة من الزمن (عامين على الأقل)، وتشمل الممارسة القيام بالتدريس في المدارس النظامة إن كان الخريج قد عُين بالحكومة، أو بالمدارس الخاصة إن كان التعيين الحكومي لم يشمله، أو في مراكز الغات أو معاهد التدريب أو المراكز التعليمية الخاصة أو حتى الدروس الخصوصية المنزلية. أما من لم يمارس مهنة -أو مهارات- التدريس الميداني فليس له أن يُقدم على بحث تجريبي لا يستطيع تنفيذه على أرض الواقع، ويمكنه في هذه الحالة الاتجاه للأبحاث الوصفية – وهي في غاية الأهمية وإن لم تكن مستحسنة لدى الأقسام في مصر – وتشمل الأبحاث التاريخية والمقارنة والارتباطية والمسحية التي تتضمن استطلاع الأراء والاتجاهات والرؤى والتصورات، وكذلك الأبحاث التي تعتمد على تحليل الوثائق والنصوص، بمعنى آخر أي بحث لا يشمل التلاميذ في شكل اثنوجرافي سواء تجريبي أو نوعي. 
  3. إذا اتفقنا أن الباحث قد مارس التدريس هذه الفترة من الزمن، فينبغي أن تكون البداية بالاحساس بالمشكلة؛ أي أن تواجه المعلم مشكلة – أو عدد من المشكلات- أثناء التدريس اليومي، من مثل ضعف مهارات الطلاب في مهارة معينة أو تكرار وقوع أخطاء في ممارسة معينة أو صعوبة فهم جزء معين من المقرر، أو غير ذلك مما يلاحظه جميع المعلمين يوميا.  
  4. لا يكفي أن تكون المشكلة فردية أو تظهر لدى عدد قليل من التلاميذ لتكون مشكلة بحثية جيدة تُصمم في بحث تجريبي يمكن تعميم نتائجه، لكن لابد أن تكون المشكلة عامة وشائعة حتى نستطيع تعميم نتائج البحث التي -نتصور- أن تدخلنا سيحل هذه المشكلة. لذا ينبغي على المعلم بعد أن يلاحظ المشكلة أن يستبعد المشكلات الفردية والقليلة الشيوع – التي تصلح موضوعا لدراسات رائعة تتبع أسلوب دراسة الحالة أو المنهج النوعي لكن لا تصلح للمنهج التجريبي – وأن يركز على المشكلات العامة والتي يعاني منها كثير من الطلاب. 
  5. ثم يبدأ المعلم في تقصي جوانب المشكلة، بأن يسأل نفسه: ما المظاهر المختلفة لهذه المشكلة؟ فإن كان لدى الطلاب ضعف في مهارة معينة، متى يظهر هذا الضعف؟، وكيف يظهر؟، وهل ظهوره يكون بشكل واحد لدى الجميع؟  ويمكن للمعلم -في هذه المرحلة- تحليل أخطاء الطلاب للوقوف على طبيعة الأخطاء ومظاهرها أو تحليل كتابات الطلاب أو تحليل الاختبارات السابقة لهم. 
  6. إذا ظهرت للمعلم جوانب المشكلة – الضعف أو العنت في جانب معين- وبانت له مظاهرها، ولديه جداول ووثائق تثبت وجود المشكلة بأدلة وشواهد، عليه أن ينتقل إلى المرحلة التالية، وهي أن يسأل نفسه: هل أنا الوحيد الذي لاحظ هذه المشكلة؟ والإجابة يجب أن تكون: “لا”، وإلا لن تكون المشكلة عامة ممثلة لمجتمع الدراسة – ونقصد بالمجتمع هنا  population  جميع أفراد الظاهرة في نطاق معين- وإذن ينبغي أن يوسع المعلم مجال تقصيه للمشكلة، فيستطلع أراء زملائه من المعلمين الذي يدرسّون نفس المقرر لمجموعات مماثلة من الطلاب، ويسجل ملاحظاتهم التي ربما تزيد على ملاحظاته أو تذكره بجوانب لم ينتبه إليها. ويسجل المعلم على إثر ذلك عدد المعلمين الذين ناقشهم وخبراتهم وملاحظاتهم، وهذا يزيد من وضوح المشكلة لديه. وربما يرى من الأصلح أن يقوم بدراسة استطلاعية  pilot study للتأكد من وجود المشكلة بأن يصمم اختبارا مبنيا على الجانب الذي يظن أن به ضعفا discrete point test  وتكون نتيجة هذا الاختبار هي الحاسمة في التأكد من وجود المشكلة بالإضافة إلى الملاحظات الشخصية وملاحظات الزملاء المعلمين وتحليل الوثائق ونتائج الاختبارات وتحليل الأخطاء في كتابات الطلاب أو انتاجهم الشفاهي المسجل. 
  7. ثم ينتقل المعلم لمستوى جديد من مستويات التأكد من وجود المشكلة، وذلك بأن يبحث في الدرسات السابقة عمن تناول مثل هذه المشكلة من قبل، وينبغي أن تكون هذه الدراسات حديثة – لم يمر عليها أكثر من 10 سنوات- حتى تكون المشكلة مرتبطة بجيل الطلاب الحالي أو المقرر المستخدم، كما ينبغي أن تكون الدراسات  في عين مجال التخصص لا دراسات عامة، وأن تكون دراسات محلية أي تم تطبيقها في نفس الدولة أو دول الجوار المشابهة الظروف والأحوال، حتى تكون المشكلات المثارة قريبة من المشكلة الملاحظة. وبهذا يتكون لدى المعلم الباحث وعيٌ كبيرٌ بالمشكلة وجوانبها: ملاحظات- تحليلات- مقابلات- اختبارات- دراسات سابقة.
  8. ثم ينتقل المعلم الباحث إلى سؤال جديد: ما سبب هذه المشكلة – في تصوري؟ وهذا السؤال يختلف عن السابق الذي كان يسأل عن مظاهر المشكلة وإمكانية وجودها أصلا. وهنا يبحث المعلم عن الأسباب التي أدت لهذه المشكلة؛ هل هو المقرر وبنيته أم المعلم وطريقة تدريسه أم الظروف الاجتماعية والاقتصادية أم الظروف الطارئة القاهرة مثل ما ترتب على جائفة كورونا، أم العوامل البيئية في المدرسة وإدراتها، أم السبب هو طبيعة صعوبة هذا الجانب في المادة العلمية نفسها. وينغي على تفسير المعلم لوجود المشكلة أن يكون عقلانيا وقائما على الملاحظات السابقة. ثم ينبغي عليه أن يقوم ببعض الجهد للتأكد من هذا التفسير، فإن كان السبب – في تصوره – هو بنية المقرر الجديد، فعليه أن يقارن بين الأداء العام للطلاب الذين درسوا مقررا غيره في أعوام سابقة، وإن كان السبب هو طريقة التدريس المفروضة على المعلم، فليقم بتجربة سريعة لطريقة غيرها ويرى النتائج، وإن كان السبب ما ترتب على الجائفة والتعلم الألكتروني، فليقارن نتائج نفس الطلاب قبل الجائفة وفي اختبارت التعليم المباشر وبعدها، وهكذا. إن تحديد السبب الأقرب للمشكلة يترتب عليه حسن اختيار المتغير المستقل (التدخل)الذي يسعى من خلاله لحل المشكلة. وينبغي ملاحظة أنه ربما لا يكون هناك سبب واحد للمشكلة، بل عدة أسباب متضافرة، وهذا طبيعي في الظواهر البشرية عموما، ولكن هناك -في الغالب-  سبب ظاهر واضح تدور حوله عدد من الأسباب الأخرى، هو الذي ينبغي أن يتناوله الباحث. 
  9. بعد سؤال: ما مظاهر المشكلة؟ وسؤال: ما سبب المشكلة؟ يأتي سؤال: ما الذي يمكنني فعله لحل هذه المشكلة؟ وهنا يركز الباحث جهده في استطلاع الدراسات السابقة التي تناولت نفس المشكلة مع نفس المجتمع في نفس المهارات المستهدفة، ويرى أساليب التدخل المختلفة التي استخدمها السابقون عليه، ويتفحص جوانب الاختلاف بين ما لاحظه في طلابه وما يذكره الباحثون السابقون. ثم يقوم بالقراءة في الكتب المتخصصة لتناول المهارات المستهدفة فقط، وإن كان سبب المشكلة في طبيعة المادة العلمية يقرأ في مراجع تيسير وتذليل هذه الجانب من المادة، وإن كان السبب طريقة التدريس يركز القراءة في الاستراتيجيات الحديثة، وإن كان السبب بنية المقرر وأنشطته يركز القراءة في مراجع بناء المناهج وتطويرها. حتى يهتدي إلى حل يغلب الظن لديه أن سيكون ناجعا في حل المشكلة، ولا نقول إن لديه يقين بفعالية الحل المختار، لأنه لو كان لديه اليقين بذلك، فلا داعي للتجريب، ولا داعي للدراسة كاملة؛ إذ يمكنه تطبيق الحل مباشرة والاستمتاع بالنتائج وحل المشكلة. لكن الهدف من البحث هو الاستقصاء أي إجراء تجربة للتأكد من فعالية الحل المقترح. 
  10. هكذا تكون وضحت لدى الباحث المشكلة وجوانبها وأسبابها والحل المقترح لها. عندئذ يصيغ المشكلة  statement of the problem  في شكل جمل تقريرية تبين المشكلة وجوانبها وكيف تعرف عليها وأحس بها والحل المقترح لها، فيكتب شيئا مثل : 

بناء على خبرة الباحث في تدريسه لطلاب الصف… بالمرحلة …، لاحظ أن لديهم ضعفا في جوانب….. و…. و…..، وتأكد هذا لدى الباحث من خلال استطلاع أراء ومقابلة عدد…. من المعلمين الذي أكدوا هذه المشكلة، وكذلك دراسات (فلان وفلان وفلان) [تذكر سنوات النشر]، ونظن أن سبب هذه المشكلة هو …… وذلك بناء على مقارنة نتائج تحصيل التلاميذ بين …… و…… وبناء عليه، فإننا نظن أن استخدام أسلوب …… قد يجدي في تخفيف حدة هذه المشكلة وعلاجها حيث ثبتت فعاليته في علاج مشكلات مشابهة (تذكر الدراسات المؤيدة). 

  1. إن وضوح المشكلة بهذا الشكل يترتب عليه وضوح أسئلة الدراسة وفروضها وإجراءاتها، وخطوات السير فيها، والجوانب النظرية المطلوبة لتوثيقها، وليس على الباحث أن يهتم إن كان الموضوع قد بُحث سابقا أم لا، فإن ما قام به من عمليات استكشاف للمشكلة وجوانبها عمل فريد نظن ظنا يزاحمه اليقين أنه لن يكون مكررا في دراسات أخرى حتى لو استخدمت نفس المتغير المستقل واستهدفت نفس المتغير التابع، وينبغي أن يظهر هذا التمايز في عنوان الرسالة وبنيتها وإجراءاتها وأسئلتها وفروضها، فليس كل عنوان تشابهت متغيراته يكون استنساخا لجهد السابقين، وإنما الإبداع العلمي – والمفروض أن كل رسالة هي إبداع علمي- عمل مميز وفريد في تناوله وحتى مناقشة نتائجه. 
  2. أخيرا، ماذكرت هنا ينصب بشكل أساسي على البحوث التربوية في مجال المناهج وطرائق التدريس التي تتبع المنهج التجريبي [المفضل في مصر]، وربما لا يناسب غيره من التخصصات التربوية والإنسانية، لكن لن يعدم الباحث في التخصصات الأخرى أن يستفيد بإجراءات وخطوات تحديد مشكلة الدراسة. لاحظ أن المقصود بالمشكلة -في البحوث الاجتماعية- أي موضوع الدراسة  The thesis argument. والله الموفق.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك رداً على مريم شهدى فهيم إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى