قراءة نقدية لنص الشاعرة جوليا علي

باسم عبد الكريم العراقي | العراق 

أولا النص :

“مَنْ ؟؟”
إلامَ تُضرِمُ الصّمتَ في حَلْقِ الهشيمِ
وتعلنُ انتهاءَ صلاحيّةِ الصّوتِ المزّمّلِ بذُعري؟!
أوَتدري..
أوَتدري؛ أيّها الطّاعنُ في اللّظى،
لِمَ اختبأ السّؤالُ خلف خاصرةِ الماء؛
وخِلسَةً- على حين قشعريرةٍ –
بايعَ الجوابَ السّعيرُ؟
أوَتدري كيف أجهشَتِ ال “آخُ”
حين حزّتِ المناجلُ أعناقَ السّنابل؟
أَما فَضّ بكّارةَ صمَمِكَ زعيقُ البيادر !؟
وما قضّ مثواكَ الدّبيبُ حين استباحَ النّملُ الحَبَّ ممهوراً بالدّم !؟
وقتَ أُفولِ الدُّنى
من أقصى أصقاع الجمرِ وحُمْرِ الشّمائل
انتعلتُ اللّهيبَ
أخطو صحوةً حافيةَ الشّهقةِ
.. قد آنَ أوانُ اللّاوصولِ
وأمْسُ الخوفِ يقايضُ العَرْضَ في رحْمِ الدِّراب الهاربة من مواقَعَةِ اليوم؛ كيلا تتوالدَ الفصولُ..
تُسدَلُ ستائرٌ حالكةُ الغَدِ
ولمّا تنتهِ المسرحيّة…

ثانيا: الدراسة:
نحن أمام نص (قناع) كما ستكشفه دراستي لاحقا، لكن بتقنية قلما طرقها الشعراء الماهرون بأدواتهم التعبيرية، فمن المتعارف عليه أن النص هو ما يكون قناعاً لذات كاتبه كي يجري على لسانه مايتحاشى الكاتب التطرق إليه علانية، أما مع هذا النص فصوت الشاعرة هو القناع لآخر (سأشير إليه بالآخر الأول) تستّر خلفه، ليؤدي (أي هذا الصوت المقنع) دور ذلك الممثل/ الراوي، في أول عرض للفنون المسرحية في اليونان القديمة.
سأبدأ بعتبة النص العنوانية/ من ؟؟ المشفرة، فمن هو هذا ال (من)؟ الذي يمثل مفتاح النص؟ أهو (الآخر الأول) أعلاه، أم هو (آخر ثانٍ)، تقنع منه الأول اتقاءً لغضبه وقهره، أم (آخر ثالث)، وهو من سيحرر الأول من قناعه ويفضح قاهره؟
لنفكك بنيته النحوية في سياق جملته الإعرابية :
من: استفهامية عن عاقل، يحدد سياق الجملة الإعرابية دلالته، وموقعه يكون في بداية الجملة دائماً كونه من ألفاظ الصدارة الكلامية، مهما كان محله الإعرابي( مبتدأ أو مما يقدم جوازاً أو وجوباً/ خبر، فاعل، مفعول به) باقي الجملة محذوف مما يتيح لنا تقديره/ مبتدأً، أي مسند إليه.
المقاربة الدلالية:

صدارته الكلام بهذه القوة التي عززها حذف باقي جملته، يعني أن لدلالته كبير الأهمية في صيرورة الحدث/ المعنى النصي، وسنبحث في حشايا النص لاحقا، عما يمكننا من مقاربة هذه الدلالة.
سيكون الاشتغال التحليلي بدايةً على إيجاد مقاربات معنوية للآخر الثاني لسببين :
– أنه الطرف المقصود بالخطاب الاستفهامي الذي يمثل محور الحدث النصي رغم غيابه.
– أنه متضام تنافرياً مع الآخر الأول، و معرفة دلالته تمكننا من معرفة الأول كونه ضديده.

لنحلل الصيغ الاستفامية أعلاه :
– (إلامَ تُضرِمُ الصّمتَ في حَلْقِ الهشيمِ ) : لانسقيّة (تضرم / الصمت) في ظاهر السياق المقطعي، يضمرضديده، فالضرام يكون للنار ولا تعالقا دلاليا بينه وبين (الصمت) في السياق اللغوي، لكن كلا من إشارتي جملة (تضرم الصمت) متعالقة مع ماتشاركها حقلها الدلالي في جملة (حلق الهشيم) وكما يلي: الضرام/ الهشيم، الصمت/ حلق
هناك إذن إزاحة دلالية في(حلق الهشيم)، و (تضرم الصمت) :
( الحلق ) بالإحالة المقامية/ خارج النص هو: آلة (الكلام/ الصمت) في كائن بشري، فتكون الإشارة/ الهشيم ذات دلالة مزاحة عن الفقراء الجياع، فهؤلاء يبلغ بهم افتقادهم لأبسط أسباب العيش درجة أنهم يفقدون نضارة أبدانهم، يمسون كالنبات اليابس أي أن حلق الهشيم = حلق الجياع.
والجملة(تضرم الصمت): سبق التطرق للضرام، والإشارة الصمت كما ذكرت متعالقة مع الحلق فهو في السياق المقطعي: صمت الجياع، وصمتهم على الجوع يزيد من رغبتهم بالصراخ طلبا لسد حاجتهم، واحتجاجاً ضد من حرمهم خبزهم، لكن(الآخر الثاني) يجبرهم على الصمت/ المسكوت عنه يمنعهم الاحتجاج ضده، لأنه هو سبب جوعهم، فيكون بفرضه هذا الصمت عليهم كمن يشعل النار/ يضرمها، في حلق أبدانهم الجائعة / الهشيم.

المقاربة لدلالة الآخر الثاني:

سلطوي يقمع من يعترض على ظلمه
(وتعلنُ انتهاءَ صلاحيّةِ الصّوتِ المزّمّلِ بذُعري؟): في هذا المقطع يقر (الآخر الأول) بخوفه/ ذعري، من هذا السلطوي بقرينة (الصوت)، فانتهاء صلاحية الصوت = الصمت الطويل المطبق، كان بأمر من الآخر السلطوي، لأنه يحرص على إطالة صمت المعترضين على جوره، وإن كان الصوت متلفعاً (بذعري)/ مؤجل حتى حلول الأمان.
ـ أوَتدري..
أوَتدري؛ أيّها الطّاعنُ في اللّظى،
لِمَ اختبأ السّؤالُ خلف خاصرةِ الماء؛
وخِلسَةً- على حين قشعريرةٍ –
بايعَ الجوابَ السّعيرُ؟
تكرار الاستفهام بقصد التأكيد لايقابل برد من المستفهم منه، لإدمانه الغياب، كما أنه باعتباره قاهراً متجبراً، لا ولن يعنيه أن (يدري) ما تسببه أفعاله القمعية من آثار ونتائج شنيعة الضرر والألم على حياة ومصائر ضحاياه، مما يخرجه(أي الاستفهام) من كونه حقيقياً، إلى المجازي المتضمن معنى النفي فتكون دلالته: لاتدري.
فهو قديم عهد/ طاعن، بإشعال أعتى الحرائق/ اللظى، وبالإحالة على/ دلالة ضرام أعلاه، تكون هذه الحرائق حسية التأثير على الآخرين: حرائق الأحلام، الأمان، …أو أي حاجة إنسانية ينشدها المروَّعون المستضعفون، وتوالي فعله (أعني الآخر الثاني السلطوي) القاهر الجائر بحقهم، أدى إلى تواريه خلف أسوار حصونه المنيعة اتقاء غضبهم وانتقامهم منه، فهو غائب بجسده حاضر بعيونه وأعوانه وأوامره، وسياق المقطع يوحي أن(السؤال) هو ما راح أولئك المقهورين يطرحونه فيما بينهم، عمن يرفع عنهم ذلك القهر/ الظلم؟، مع توالي عنائهم وشقائهم … واضطروا لإخفائه/ اختبأ، حيث لايطرق سمع عيون الآخر الثاني.
– (خاصرة): وسط الشيء، ولما كان الماء بلا منطقة وسط لجريانه المستمر، ناهيك عن شفافيته كسائل، لذا فإنه دلالة مزاحة عن (شريان الحياة)، فكان مخبأ ذلك السؤال المحرم هو في وسط شريان سائليه (الرابط الدلالي بينهما (الشريان)/شريان الدم = شريان الحياة). ودون إثارة انتباه الرقيب (وخِلسَةً)، وقد انتابتهم ارتعاشة(قشعريرة) باعثها مزيج
من خوف وحنين (من مسببات القشعريرة غير المرضية/ إحالة خارجية)، ضج غضبهم الدفين/ السعير بالإحالة على (ضرام) أعلاه، يعاهد الجواب علَى الوَفاءِ له (معنى بايع/ سياق لغوي)، فتكون مقاربة دلالة الجواب باستدعاء مركباته السياقية:
خلسة + خوف وحنين + عهد وفاء + سعيرغضب = الثورة
ـ أوَتدري كيف أجهشَتِ ال “آخُ”
حين حزّتِ المناجلُ أعناقَ السّنابل؟
أَما فَضّ بكّارةَ صمَمِكَ زعيقُ البيادر !؟
وما قضّ مثواكَ الدّبيبُ حين استباحَ النّملُ الحَبَّ ممهوراً بالدّم !؟ :

التفكيك الدلالي:
– آخ : صوت المتوجع / بنيته الزمانية الدالة على الحاضر تعني أن التوجع مستمر الآن ومفتوح على المستقبل ، ولنفصّل أكثر ما تضمره هذه الإشارة الاسم ـ فعلية:
– التوجع هنا يكون مصحوباً بإطلاق صوتاً مسموعاً (قد يرقى لدرجة الصراخ) إما بقصد استدرار عطف المسبب للوجع لعله يكف عن فعل إلحاق الألم بالمتوجع، وهذا القصد يتعارض مع ( بكّارةَ صمَمِكَ )، فالقاهر الجائر في صمم عن تضرعات مقهوريه، وإما بقصد إثارة انتباه ونخوة (الآخرين)، وهم هنا من (بايعوا الثورة على الوفاء لها / الثوار المؤجلوا الفعل) لحملهم على القيام (بفعل ما) حيال مسبب الألم (لمنعه) من الاستمرار بفعله الموجع الذي تتضمنه المقاطع:
– (حين حزّتِ المناجلُ أعناقَ السّنابل):
مقاربة المعنى: حز + اعناق = فعل إرهابي (إحالة خارجية / النحر الداعشي)
بذا تكون المناجل: حربة الذبّاح الملثم ، و السنابل( بشتى رمزياتها؛ الأدبية : الخير، السلام، دوام الحياة وغيرها، الاجتماعية: أكثرها شهرة الشبع/ ضد الجوع، والدينية: سورة يوسف) تختزل معاني الحياة وقدسيتها
– (زعيقُ البيادر / الدّبيبُ حين استباحَ النّملُ الحَبَّ ممهوراً بالدّم):
الإشارة النمل بالإحالة الخارجية كائنات جحورية (تعيش في جحور) تحت الأرض، أو بين الصخور بهذا هي تماثل جحورية أماكن إقامة أولئك الإرهابيين ، إضافة الى تماثلهما (الحشودي) الملبّين بلا وعي أو اعتراض لكل ما يُؤتمرون به، فيستبيحون حتى المقدس في عرف الآخرين (الحَبَّ ممهوراً بالدّم/ بذور الحياة المفتداة بالأرواح).والمقطع يشي بمن أمر بالذبح (أَما فَضّ بكّارةَ صمَمِكَ/ وما قضّ مثواكَ )
ولا يطلق مثل هذا الصوت (آخ) غير من يقع عليه ذلك الفعل المؤلم بشكل مباشر أو على المحسوبين عليه بالانتماء أو الولاء وماشابه، حيث يكتفي من يشاهد عناصره (الموجِع + المتوجِّع + صوت التوجُّع) بالتأوِّه (الصوت هنا مهموس لايكاد يُسمع) أو يكتفي برسم ملامح التعاطف، أو الامتعاض على محياه، وباستدعاء بواعث تلك ( الآخ )/ حزّتِ المناجلُ أعناقَ السّنابل،
زعيقُ البيادر، استباحَ النّملُ الحَبَّ) ، نجد أنّ السنابل، البيادر و الحَب، هي مما تنجبه الأرض(الإنجاب = بذرة لقاح + رحم + تلقيح + جنين + ثمرة) فهي مولودة من رحم الارض، فالتوجع هنا يشابه توجع الأم عما يلحق أبنائها من ألم وأذى ، وبذار هذه البذور لابد له من فاعلين (باذرين)، يقيمون في هذه الأرض/ البذار ومايصاحبه قبلاً من حراثة، ولاحقا من متابعة ومداراة بالسقي وسائر الخدمات الاخرى، تتطلب الإقامة في المكان)، ومن يتسم بهذه السمات هم أولئك المقهورون المار ذكرهم سابقاً، فقوة ارتباطهم بالأرض وصنعهم الحياة، هما من مسببات قمع الاخر الثاني إياهم لتضاد معنييهما كما يلي:
هو/ يقوّض الحياة ـــــ مقابل ــــــ هم / يصنعون الحياة،
ولكون ذلك القامع يمتلك قوة إلحاق الأذى والألم الموجِع بالآخرين دون خوف من رادع أو عقاب فهو إذاً يحكم هذه الأرض.

المقاربة المعنوية:
أرض + ساكنيها (مقيمين فيها) مقهورين + حاكم قاهر = وطن مستباح
بذا تكون الإشارة (آخ) بدلالاتها الظاهرة والتحتانية هي بؤرة النص الدلالية لهذه المسوغات:
– أنها فككت شيفرة العتبة العنوانية، فحددت دلالة الآخر الأول/ الوطن، و الآخر الثالث/ الثوار
– أنها اكدت قِناعية صوت الشاعرة كما ذكرنا في مستهل الدراسة، والسر الكامن وراء هذا التّقنع.
– أنها أرمت أركان المعنى الكلي للنص :
وطن ـــــ حاكم جائر (قاهر) ـــــــ شعب مقهور.
رغم أنها (أجهشت)/ أجهش سياقياً لغوياً يتعدى بحرف جر الباء : همَّ بـ ، شرع بـ ، وقطع (الآخ) عن التعدية إلى/ ما همت به من (ردة فعل) إزاء المسببات المفجعة الباعثة على التوجع بها (أي التوجع بتلك الآخ)، بقصد الإيحاء (بتأجيل) قرار البدء بالثورة كما أسلفت، وهو تأجيل بسبب عدم اكتمال أسباب نجاح الفعل الثوري:
فضمير العالم في غفوة في الوقت الراهن (وقتَ أُفولِ الدُّنى)، ولمّا تزل الصحوة الجمعية/ الثورة، فعل جمعي (حافيةَ الشّهقةِ) يحف بها اللّايقين من تحقيق غايتها الخلاصية (.. قد آنَ أوانُ اللّاوصولِ)، فشبح اغتصاب الأحلام الخضراء مازال يراودها
(وأمْسُ الخوفِ يقايضُ العَرْضَ في رحْمِ الدِّراب الهاربة من مواقَعَةِ اليوم؛ كيلا تتوالدَ الفصولُ..)
وتلون بالقتام فجرها الآتي (تُسدَلُ ستائرٌ حالكةُ الغَدِ)، لكن مازال هناك فصل أخير، لم يعرض بعد في مسرحية (الأواخر الثلاثة): ( ولمّا تنتهِ المسرحيّة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى