بين لذة الجسد ولذة الروح

رضا راشد | الأزهر الشريف

كان أحد إخواني من طلاب العلم قد كتب منشورا يرى فيه أن لذة طلب العلم تفوق لذة معاشرة النساء ، فكتبت تعليقا عليه خلاصته: أن اﻷمر نسبي لا على إطلاقه ..ولكن ظل هذا الخاطر معي منذ أمس يصاحبنى في حلي وترحالي؛ مولدا أفكارا مبعثرة ومتهدلة غير مشذبة ؛ فأردت أن أقيد شواردها على عجل مخافة تفلتها ..على أمل أن تجد هذه اﻷفكار -يوما ما- سلكا من الحكمة ينتظمها في عقد واحد، وسيفا باترا من صفاء الفكرة يشذبها وينفي عنها تهدلها…

فأقول :

إن في كل إنسان قوتين : قوةَ الجسد وقوةَ الروح ، ولكل منهما متطلباتٌ وغذاءٌ تتغذى عليه وتنمو به ..ولكنهما متعاكستان في مطالبهما ومتعهما، فمطالب أحدهما عكس مطالب اﻵخر، وقوة أحدهما لا تأتى إلا على ضعف اﻵخر ، ولكل منهما أيضا مساحة يتحرك فيها تختلف من فرد ﻵخر .
(°) فمن الناس -وكثيرٌ ما هم- من يعيش حياته كلها ساعيا في تلبية مطالب الجسد وغرائزه وملذاته: من طعام، وشراب، وجنس، وحب سلطان …إلخ قد تجرد من إنسانيته فغدا كاﻷنعام بل هو أضل ..مثل هؤلاء تتسع مساحة الجسد لديهم وتطغى على مساحة الروح التى لا تجد أمامها إلا أن تنزوى في ركن قصي من المرء جائعةً ظامئةً هزيلةً نحيفةً تكاد تلفظ أنفاسها اﻷخيرة، وتكون من الجسد في سجن ضيق خانق ، لكنها لا تسكت، بل تحاول بين الفينة واﻷخرى التمرد على هذا الوضع، وربما رامت الحرية بالتخلص من هذا السجن بالانتحار والموت الذي يسمح لها بالانطلاق في آفاق الكون (وهذا ما يفسر إقدام الشباب اﻷوربي على الانتحار مع إشباع كافة ملذاته).. ومثل هذا النوع تجده في الديوث مثلا …هذا الذي يرضى بالفاحشة على أهله ولا يتألم منه (ألما نفسيا روحيا).. حتى يسوغ لنفسه انتهاك أعراض اﻵخرين ، فهو لا يعبأ بألم الروح في سبيل تلبية غريزة الجسد؛ ﻷنه لم يعد للروح مكان منه .
(°) ومن الناس- وقليلٌ ما هم -من يسعى حثيثا في تلبية مطالب روحه ومتعها (التى هي متع نفسية معنوية) ،فتتمدد مساحة الروح حينئذ طاغيةً على نصيب الجسد من المرء؛ فلا يجد الجسد أمامه حينئذ إلا أن يرضى باﻷمر الواقع، فتتراجع شهواته، وتقل مطالبه، ويخفت صوته فلا تسمع له إلا همسا .بل يصبح خادما للروح في إشباع متعها، حتى ولو كان في ذلك المشقة عليه ومعاناته .

وللروح فى متعتها مذاهب تختلف باختلاف عقيدتها وأحوالها وعاداتها وما نُشِّئتْ عليه ، فقد تجد متعة امرئ في ركوب صهوات الجياد ممتطيا سيفه محاربا عدوه لا يبالى بما يصيبه ، وآخر في مطاردة الظباء في الصحراء والغابات مستهينا بشدة الحر أوشدة البرد والمطر والظلمة واﻷخطار التى تترصده ، وثالث متعته في أداء التمرينات الرياضية العنيفة؛ تقوية لجسده =ورابع في قيامه الليل قانتا بين يدي ربه مؤتنسا بخلوته به سبحانه حتى تتورم قدماه دون أن يشعر بألم أو يحس بتعب وخامس قد تجافت جنوبه عن المضاجع عاكفا على مكتبه منكبا على أسفار العلم قد طلق الراحة وفارق النوم واﻷنس بالخلان وبانت منه شهوته ،غير مبال بهذا كله ،وسادس قد أُخِذَ في الصحراء عاري الجسد ليُشوَى على سفود صخورها أو يوضع على النيران تحرقه حيا أو يعذب ولده أمامه حتى يرتد عن اﻹيمان إلى الكفر ، وهو ثابت كالجبل لا يتزلزل بل لا يتزحزح .
وتأخذنا الحيرة بل يعترينا الدهش من ثبات هؤلاء وقوة تحملهم.. ولا تفسير لذلك إلا أنهم قد عاينوا من هذه اﻷفعال الشاقة لذة روحية غلبت وطغت على ألم الجسد ومعاناته فما عاد أصحابها يبالون بهذا .وفي هذا السياق جاء قول الزمخشري :
سهري لتنقيح العلوم ألذ لى
من وصل غانية وطيب عناق
كما جاء قول أخى :إنه لا يجد لذة تعدل لذة طلب العلم.
إذن:
فليس يُغَلِّبُ متعَ الروح المعنوية على متع الجسد إلا صنفٌ معين من الناس قد ذاقوا حلاوتها وخبروا لذتها .
والشكر موصول ﻷخى هذا الذي كتب ما كتب، على ما أثار من خواطر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى