العلاج بالتقبّل واليقظة العقلية

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور

مقال الكسندر إل.تشابمان (Alexander L. Chapman, 2006)

  • ملخص المقال:

يعد كل من العلاج الجدلي ـ السلوكي والعلاج بالقبول والالتزام صيغتين من صيغ العلاجات السلوكية يدمجان في بنيتيهما كل من “ممارسات اليقظة العقلية”، و “التدخلات القائمة على التقبل” في متن ومسار ومراحل العملية العلاجية.

ورغم وجود تشابهات وقواسم مشتركة بين كل من “العلاج الجدلي ـ السلوكي”، و “العلاج بالقبول والالتزام” بوصفهما معًا صيغًا نوعية في إطار ما يعرف بالموجة الثالثة من موجات تطور العلاجات المعرفية ـ السلوكية وفيما تضمنهما لكل من “اليقظة العقلية”، و “التقبل”، يوجد بينهما فوارق مركزية فيما يتعلق بالأسس النظرية والإجراءات التطبيقية في استخدام “التقبل”، و “اليقظة العقلية” في العلاج النفسي.

وعلى ذلك يناقش المقال الحال أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين العلاج الجدلي ـ السلوكي، والعلاج بالقبول والالتزام بصورة تفصيلية.

  • الكلمات المفتاحية:
  • العلاج الجدلي السلوكيDialectical Behavior Therapy (DBT)، العلاج بالقبول والالتزامAcceptance and Commitment Therapy (ACT)، اليقظة العقليةMindfulness.

أولاً- مقدمة:

شهد مجال العلاج السلوكي خلال العقدين الماضيين تحولاً نوعيًا في تركيزه ترافق مع زيادة الاهتمام بتضمين التدخلات القائمة على التقبل واليقظة العقلية في متنه وممارساته، فضلاً عن التركيز على الطرائق التي يدير ويضبط وينظم بها العملاء انفعالاتهم ومشاعرهم فيما يعرف ب “تنظيم الانفعال emotion regulation(Gross, 1998).

فقد لوحظ كما أورد ستفين هايز Hayes (2004) أن “العلاج السلوكي” في نسخته التقليدية ركز بصورة عامة على تطبيق نتائج العلم السلوكي “نظريات التعلم السلوكية” في تطوير التدخلات لعلاج المشكلات الكلينيكية.

ونتج عن هذه المسارات والاجتهادات التطبيقية عديد من الممارسات العلاجية القائمة على الدليل بما فيها “العلاج بالتعريض في استخدامه في علاج اضطرابات القلق exposure therapy for anxiety disorders“، والتدخلات القائمة على التغيير بضبط التعزيز، تعديل السلوك، والتدريب على المهارات، وغير ذلك من الاستراتيجيات العلاجية (Goldfried& Davison, 1976).

وتلي ذلك تحولاً نوعيًا في تركيز الباحثين والمعالجين باتجاه التأكيد على دور “العمليات المعرفية cognitive processes“، و “معالجة المعلومات information processing ” في المتاعب والمشكلات والصعوبات النفسية.

وأدى هذا التزاوج بين “الفنيات السلوكية والفنيات المعرفية” إلى نتائج قوية وفعالة في وتخليق مجموعة من العلاجات النفسية التي تقع ضمن فئة “العلاج المعرفي ـ السلوكي cognitive-behavioral therapy (CBT)” والتي تسيطر حاليًا على قائمة من العلاجات النفسية القائمة على الدليل (Chambless, etal., 1996).

وطورت خلال العقد الماضي أو ما قبله بقليل صيغًا علاجية جديدة في إطار العلاج السلوكي والعلاج المعرفي السلوكي وضعت تحت مسمى “علاجات الجيل الثالث third generation therapies” وهي صيغ لم تكن تعطي أهمية تذكر في العلاج المعرفي ـ السلوكي التقليدي(Hayes, 2004).

ويؤكد في هذه الصيغ العلاجية الجديدة التي تمثل الموجة الثالثة على أهمية: الانفعالات والمشاعر، تنظيم الانفعال، التقبل، التجنب الخبري، اللغة الإنسانية، القيم، اليقظة العقلية، وممارسات التأمل.

ولقيت صيغتين من صيغ علاجات الجيل الثالث أو مدخلين أساسيين منها ما يعرف بالصدق الإمبيريقي والتأييد العلمي والشيوع الشديد وهما: العلاج الجدلي ـ السلوكي Dialectical Behavior Therapy(Linehan, 1993a)، والعلاج القائم على القبول والالتزام Acceptance and Commitment Therapy (Hayes, Strosahl, & Wilson, 1999)، وهما يتقاسمان معًا ملامح مشتركة عديدة، إلا أن مدار التركيز فيهما يتمثل في التأكيد على ممارسات “اليقظة العقلية mindfulness“، و “التقبل acceptance “.

ورغم ذلك فإن الفوارق بين هاتين الصيغتين شديدة الوضوح فيما يتعلق بمسارات الوصول إلى تحقيق اليقظة والتقبل فضلاً عن طرائق التدخل والتصورات النظرية الحاكمة للتطبيق.

وتأسيسًا على ما تقدم يلقي المقال الحالي الضوء على بعض القواسم المشتركة والفروق بين كل من العلاج الجدلي السلوكي والعلاج القائم على القبول والالتزام من حيث الأطر النظرية وطرائق أو منهجيات استخدام كل من اليقظة العقلية والتقبل في متنيهما.

ثانيًا- تضمين التقبل في العلاج السلوكي: نشأة وتطور العلاج الجدلي ـ السلوكي، والعلاج بالقبول والالتزام:

انطلق أنصار العلاج الجدلي ـ السلوكي، والعلاج بالقبول والالتزام في مسارات مختلفة للوصول إلى التأكيد على ضرورة تضمين “التقبل” في بنية ومتن العلاج السلوكي. فقد صاغت وطورت مارشا إم لينهان العلاج الجدلي ـ السلوكي في سياق استخدامها لحزمة علاجية قائمة على الدليل في علاج عدد من النساء ذوات التفكير والميول والمحاولات الانتحارية اللاتي أخفق في علاجهم الطرائق العلاجية التقليدية في بداية الثمانينات من القرن العشرين، فقد استخدمت ما رشا إم لينهان استراتيجيات العلاج المعرفي ـ السلوكي القائمة على الدليل (Goldfried& Davison, 1976) كمقومات أساسية لتأسيس صيغتها العلاجية الجديدة وطبقتها بصورة احترافية في تدخلاتها العلاجية مع النساء ذوات الميول والتفكير والمحاولات الانتحارية suicidal women ممن ينطبق على غاليتهن محكات تشخيص اضطراب الشخصية البينية أو الحدية borderline personality disorder.

ورغم فعالية هذه التدخلات المعرفية السلوكية، إلا أن ردود أفعال العملاء حيال المبالغة في التأكيد على التغيير السلوكي والمعرفي كانت سلبية فضلاً عن عدم إكمال الكثير منهن مسار العملية العلاجية أو واجهن صعوبات جمة في متابعة والالتزام بالنظام والخطة العلاجية.

لذلك ارتأت مارشا إم لينهان تضمين خبراتها الشخصية والتدريب على اليقظة الذهنية وعلى ما يعرف ممارسة “زين Zen practice“، فضلاً عن المداخل القائمة على التقبل والمشتقة من العلاجات النفسية الأخرى مثل العلاجات المرتكزة على العميلclient centered therapies والمداخل المرتكزة على الانفعال emotion-focused approaches التي تفيد أولاً بحتمية التقبل غير المشرط للعميل أولاً، ثم  تمكين العميل  من مساعدة العميل من تقبل نفسه  وتقبل العالم الذي يعيش فيه بصفه عامة ثانيًا (Chapman &Linehan, 2005; Robins & Chapman, 2004).

وعلى ذلك يجمع “العلاج الجدلي ـ السلوكي” في بنيته ومساره وفنياته مكونات التدخلات القائمة على الدليل وتعديلها بناء على نتائج الدراسات البحثية والخبرة الكلينيكية، وعلى العكس من ذلك وفي المقابل أسس ستيفهايز العلاج بالقبول والالتزام وفقًا استراتيجية من الأسفلإلىالأعلى بمعنى أنه طور برنامجًا بحثيًا هدف إلى فهم الطرائق التي تؤثر بها لغة الإنسان وعملياته المعرفية على نشأت واستمرار المعاناة الانفعالية emotional suffering، وانطلاقًا من هذا البرنامج البحثي طور ستيف هايز نموذجًا نظريًافي الاعتلال النفسي psychopathology بين فيه كيف أن اللغة والعمليات المعرفية language and cognition تسجن الناس في أطر إدراكية وتدفعهم إلى التصرف بطرائق ينتج عنها معاناتهم وتعمل على استدامتها.

ومن التطبيقات المركزية لنتائج دراسات ستيف هايز التأكيد على أن “التجنب الخبري”، بما يعبر عنه ب “تجنب أو الهروب من الخبرات الداخلية غير السارة وغير المرغوبة سواء تعلقت بأفكار أو انفعالات أو رفض وتجنب المواقف التي ترتبط بها وتوجد فيها سببًا أساسيًا في مظاهر الاعتلالات النفسية والمعاناة.

وبناء على هذا التصور فإن التدخلات التي تستهدف تيسير تقبل العملاء لأنفسهم ولخبراتهم الحياتية تمثل ترياقًا فاعلاً في وقايتهم من الاعتلالات النفسية، ومن هنا يبدأ العلاج الجدلي ـ السلوكي بالممارسات القائمة على الدليل التي تتجاوب مع الحاجات الكلينيكية لنوعيات معنية من العملاء، في حين يبدأ “العلاج بالقبول والالتزام” بتحديد الميكانيزمات الكامنة وراء المعاناة الإنسانية المشار إليها في النموذج العام الذي طوره ستفين هايز لوصف وتفسير الاعتلال النفسي وما يرتبط به من مجموعة التدخلات المناسبة.

ثالثًا- العلاج الجدلي السلوكي- فكرة موجزة DBT – Dialectical Behavior Therapy:

العلاج الجدلي ـ السلوكي صيغة من صيغ علاجات الجيل الثالث من تطور العلاج المعرفي ـ السلوكي يستهدف منها تزويد العملاء بعدد من المهارات الجديدة التي تمكنهم من إدارة الانفعالات المؤلمة وتخفيض مظاهر صراعاتهم وخلافاتهم في العلاقات المتبادلة مع الآخرين.

ويكرز في العلاج الجدلي ـ السلوكي على تعليم العملاء عدد من المهارات في أربعة مجالات أساسية:

  • اليقظة العقلية Mindfulness: بالتركيز على تحسين قدرة الفرد على التقبل والانتباه الواعي لعطاء اللحظة الراهنة وفقًا لذهنية هنا والآن (عدم الانشغال باجترار الماضي بآلامه وذكرياته وخبراته البائسة، وعدم الخوف من المستقبل بما يخبئه أو يحمله للفرد).
  • تحمل المشقة Distress tolerance: بتمكين الأفراد من كل مقومات تحمل الانفعالات السلبية بدلاً من محاولة الهروب منها أو تجنبها أو إنكار وجودها.
  • تنظيم الانفعالات Emotions regulation: من خلال تعلم واكتساب الاستراتيجيات التي تمكن الأفراد من إدارة الانفعالات والمشاعر القوية التي تسبب لهم مشكلات في حياتهم الشخصية.
  • الفاعلية بين الشخصية Interpersonal effectiveness: وتتضمن تعليم الأفراد فنيات تمكنهم من التواصل مع الآخرين بطريقة توكيدية قائمة على احترام الذات وتدعيم وتقوية علاقاتهم مع الآخرين.

رابعًا- القبول والتغير في العلاج بالقبول والالتزام والعلاج الجدلي ـ السلوكيAcceptance and Change in ACT and DBT:

رغم الاختلافات الواضحة بين “العلاج بالقبول والالتزام”، و “العلاج الجدلي ـ السلوكي”، إلا أنهما يتشاركان في عناصر محددة ترتبط بما يعرف ب “فلسفة الجدل dialectical philosophy“، فقد أشار ستفين هايز (2004) Hayes بصورة تفصيلية في وصفه للعلاج بالقبول والالتزام لما يعرف بصيغ الجدل من المنظور الفلسفية والتوتر الكامن بين فكرتي “التقبلAcceptance“، , “التغيرChange“، ولا حظت مارشا لينهان أن التركيز التام على “التغير” في العلاج النفسي أمرًا غير محتملاً من قبل بعض عملائها، لذلك ضمنت كل من “القبول”، و “اليقظة العقلية” في العلاج النفسي كقناعات لدى المعالج ويعبر عنهما بمهارات سلوكية من قبل العميل.

ويرتكز “العلاج الجدلي ـ السلوكي” بصورة أساسية على “فلسفة الجدل” في توجهه نحو التوليف والتوازن بين المداخل العلاجية المرتكزة على “التقبل” و “التغيير” acceptance and change-based approaches.

ووفقًا لرؤية العالم والتعامل معه من منظور فلسفة الجدل وفقًا لفلسفة كارل ماركس والفكر الفلسفي وجورج فيلهلمفريدريتشهيغل فإن “الواقع يتكون من قوى أو أقطاب متعارضة أو متناقضة” فيما يعرف ب “الأطروحة”، “والأطروحة المضادة” Thesis and antithesis غير المكتملة في تكوينها والتي تتغاير بصورة مستمرة ويعاد تشكيلها في صورة أكثر كلية فيما يعرف ب “جماع الأطروحة”.

ففي العلاج الجدلي ـ السلوكي على سبيل المثال “التقبل”، و “التغير” قطبين أو قوتين متناقضتين، غالبًا ما يثار حولهما توترًا وضيقًا واستياءً خلال جلسات العلاج النفسي، وعندما يجبر المعالج النفسي العميل على “تغيير سلوكه” يشعر العميل كأنه غير سوي وغير مستحق للتدعيم فتنشأ لديه رغبات “التقبل أو القبول” بوضعه كما هو، من جانب آخر عندما يركز المعالج النفسي حصريًا على التأكيد على دفع العميل على “القبول” ربما يعتقد العميل بأن المعالج لا يأخذ مشكلاته بالجدية الكافية لكونه يجبره على قبول حالته كما هي كأنه لا يعاني من أي مشكلات أو متاعب.

ولا يجد المعالج النفسي وفقًا للعلاج الجدلي السلوكي نفسه إلا أمام التوجه التام نحو التوليف والتوازن بين هاتين القوتين المتعارضتين “القبول”، و “التغير”. وعلى ذلك يكون الهدف في أي لحظة هو إيجاد أفضل توليفة بين بينهما مع التركيز على أهداف العميل وخصائصه والسياق الحالي الذي يحتويه.

في المقابل يتأسس “التوليف” بين القبول والتغير في العلاج بالقبول والالتزام على أن “الانفعالات”، و “العمليات المعرفية أو المعارفcognitions” ليست قابلة للتغيير بسهولة(Hayes, 2004). وعلى ذلك يؤخذ في العلاج الجدلي ـ السلوكي بالتدخلات القائمة على التغيير والتي تركز على “الفعل الخارجي الظاهري”، و “التوجهات القيمية في الحياة valued directions in life” والتي يستهدف القبول فيها خبرات نوعية خاصة محددة مثل: الأفكار والمشاعر، ذلك لأن قبول هذه الخبرات الداخلية الخاصة ييسر عملية التغير والتغير في السلوك ربما ييسر بدوره قبول “الخبرات النفسية الداخلية الخاصة”.

وما يجدر الإشارة إليه أن “التمييز” بين “التقبل”، و “التغير” في كل من العلاج الجدلي ـ السلوكي والعلاج بالقبول والالتزام ذا طابع تعسفيًا إلى حد بعيد؛ ذلك أن “التقبل” أو القبول غالبًا من يتضمن علامة من علامات تغير لطريقة العميل السابقة في الارتباط بذاته أو بخبراته في الحياة.

ومن الملامح الفارقة أيضًا بين “العلاج الجدلي ـ السلوكي”، و “العلاج القائم على القبول ـ الالتزام” فيما يتعلق بتدخلات القبول تقع في داخل مجال “بناء أو تأسيس المهارة skill-building“؛ فتنمية وتحسين وتعزيز قدرات العميل ومهاراته السلوكية behavioral skills وظيفة مركزية في العلاج الجدلي ـ السلوكي وترتكز على فكرة أن “مرضى اضطراب الشخصية البينية أو الحدية BPD” ينقصهم “المهارات السلوكية الأساسية”، خاصة في مجال ضبط وتنظيم وإدارة الانفعالات والمشاعر regulating emotions.

وعلى ذلك يتضمن العلاج الجدلي ـ السلوكي “مدخل التدريب الجمعي على مهارات الضبط والتنظيم” والتي يستهدف منه تعليم المهارات الأساسية في أربعة مجالات جوهرية هي: اليقظة العقلية mindfulness، الفاعلية بين الشخصية interpersonal effectiveness، تحمل المشقة distress tolerance، وتنظيم الانفعال والمشاعر emotion regulation.

وتكتسب المهارات القائمة على القبول بعديد من طرز أو أنماط تعليم المهارات إلا أنها ترتبط بصفة عامة بطرائق تعليم “مهارات اليقظة الذهنية”، و “مهارات تحمل المشقة أو الكرب distress tolerance skills“، على سبيل المثال يعد ما يسميه أنصار العلاج الجدلي ـ السلوكي “التقبل الراديكالي radical acceptance” واحدًا من المهارات في هذا العلاج يصاغ لمساعدة العملاء على تحمل المشقة والكرب والنجاة من الأزمات، وتتضمن بصفة عامة تقبل ما يحدث في اللحظة الراهنة دون تذمر أو نفور أو استياءٍ أو تجنب أو تجاهل، وعادة ما يطبق “التقبل الراديكالي أو التام” على الأحداث والخبرات المزعجة المثيرة للاستياء والضيق في التاريخ السابق للعميل مثل: الصدمات، السلوك الذي يشعر معه العميل بالخجل والعار والخزي…الخ.

إلا أن التقبل في العلاج القائم على القبول ـ الالتزام لا يتم تعليمه بصورة مباشرة وصريحة كمهارة سلوكية، رُغْم أن الكتابات الحديثة في العلاج بالقبول والالتزام تفيد بأن الجمع بين “التقبل” و “اليقظة الذهنية” يعد تركيزًا على مدخل المهارات (Hayes, 2004).

وبينما يوجد في العلاج الجدلي ـ السلوكي صيغة مقننة مبرمجة لتطبيق تعليم المهارات الموجهة نحو تيسير التقبل  acceptance-oriented skills، يركز في العلاج بالقبول والالتزام على استخدام التدخلات القائمة على تنمية وتعزيز التقبل بطريقة أكثر تصويرية idiographic manner خاصة وأن جلسات العلاج بالقبول والالتزام غالبًا تتضمن مجموعة متنوعة من التدريبات التي توفر للعميل خبرة بعديد من العوامل التي ترقي أو تزيد من “التجنب الخبري experiential avoidance“، وتعيق الولوج في طريق التقبل، لكي يتمكن من التخلص منها ومن هذه العوامل: التعامل مع اللغة بدلالاتها الحرفية المباشرة وتكرار محاولات السيطرة بدلاً من تقبل الخبرات غير المرغوبة، وخبرة التعلق والتمسك غير المجدي بالأفكار والمشاعر كما لو كانت جزءً من تكوين الشخص نفسه.

خامسًا- اليقظة العقلية في العلاج الجدلي ـ السلوكي والعلاج بالقبول والالتزامMindfulness in ACT and DBT:

من القواسم الجوهرية المشتركة بين “العلاج الجدلي ـ السلوكي”، و “العلاج بالقبول والالتزام” استخدام “اليقظة الذهنية” أو “الوعي العمدي الآني” في العلاج النفسي، وتتضمن اليقظة العقلية “حالة امتلاء التكوين النفسي الذهني للشخص بالوعي بالواقع الحال وفقًا لمقولة هنا والآن” (Hanh, 1976).

ويوجد في تطبيقات اليقظة العقلية” تأكيدًا مركزيًا على “تركيز الشخص لانتباهه وطاقته العقلية، ووعيه ويقظته بالخبرة في اللحظة الحاضرة، وفي بعض الحالات التراجع قليلاً وملاحظة الخبرة أو الوقائع التي تحدث داخله أو أمامه هنا والآن”.

وأصبحت اليقظة العقلية مكونًا مركزيًا في عديد من المداخل العلاجية الأساسية والجديدة خلال العقدين الماضيين وخلصت نتائج عديد من الدراسات أن استخدام اليقظة العقلية في العلاج السلوك له ما يسوغه ويثبت فاعليته(Hayes, etal., Luoma, Bond, Masuda, & Lillis, 2005; Teasdale et al., 2000; Robins & Chapman, 2004).

وتلعب اليقظة العقلية دورًا مثبتًا في كل من العلاج بالقبول والالتزام والعلاج الجدلي السلوكي رغم وجود فوارق فيما بينهما فيما يتعلق بالتصور النظري والتطبيقي لليقظة الذهنية في العلاج.

ففي العلاج الجدلي السلوكي يكون لليقظة الذهنية أو الوعي العمدي الآني دورًا مباشرًا في وضع قائمة المهارات التي يجب أن يتعلمها العميل وفي برمجة المعالج لهذه المهارات في الأنشطة والخبرات التعليمية أثناء التدخل.

ويجدر الإشارة إلى أن مارشا إم لينهانأخذت مكونات ما يعرف بممارسة زن Zen practice وصلاة التأمل contemplative prayer وممارسات اليقظة الذهنية الأخرى من الثقافات الشرق آسيوية ودمجتها في “المهارات السلوكية” التي يتم تعليمها للعميل ويبرمجها المعالج في سياق إجراءات التدخل ـ ومن هنا ينبغي التعامل بحذر شديد مع هذه الممارسات كونها تختلف عن نسقنا القيمي والديني ـ.

وتأثرًا بالتركيز على ما يعرف بحالة “اليقظة”، و “الانفتاح” على الحاضر وفقًا لفلسفة ممارسة زن تسعى عديد من الاستراتيجيات العلاجية في العلاج الجدلي ـ السلوكي إلى مساعدة العميل على رؤية الواقع والاستجابة له بوضعه الحالي الماثل أمامه هنا والآن (Chapman &Linehan, 2005).

ويشجع أنصار العلاج الجدلي ـ السلوكي على استخدام طريقة أخرى لإيقاظ وعي العميل وتركيزه على الحاضر وتقديم هذا الأمر في كل من اللقاءات الجمعية مع الفريق العلاجي وفي التفاعلات الفردية مع ا لعملاء.

وغالبًا ما يندمج المعالجون في ممارسات وتدريبات يقظة ذهنية بصورة منتظمة وتشجيع العملاء على ممارساتها في سياق التركيز على مجموعة معينة من المهارات التي تتضمن مكونات اليقظة الذهنية.

ومن هذه المكونات على سبيل المثال: ملاحظة observing الإحساسات النوعية الداخلية الخاصة بالفرد في اللحظة الراهنة بما تتضمنه وتترافق معها من نشاط معرفي كالأفكار والصورة الذهنية، والخبرات الجسمية والانفعالات.

ثم يأتي بعد ذلك مكون أو مهارة “الوصف describing” وتتضمن وصف ما يتم ملاحظته بدقة أو رصد وتحديد الحقائق والوقائع في الموقف، ثم تأتي بعد ذلك مهارة “المشاركة Participating” والتي تتضمن دفع العميل نفسه كليًا في الموقت وبالتخلي عن خوفه وحذره بل بالاندماج والاشتباك الموضوعي الواعي مع أنشطة اللحظة الحاضرة (Linehan, 1993b).

لذلك يتم تشجيع العملاء في العلاج الجدلي ـ السلوكي على ممارسة اليقظة الذهنية بدون تقييم أو نقد أو توجه إسقاط أحكام لا على الذات ولا على الموقف بل التركيز على شيء واحد في الوقت الواحد فيما بعير بكثافة التركيز الواعي على الحدث الماثل في الموقف، فضلاً عن التأكيد على السلوك الفعال أو “الفاعلية الشخصية”.

من جانب آخر تساعد عديد من المهارات التي يستهدف تنميتها في العلاج الجدلي ـ السلوكي مساعدة العملاء على تحمل المشاق والكروب ومظاهر المعاناة الراهنة فيما يعرف بمهارات تحمل المشاق أو الكرب distress tolerance skills من خلال اليقظة الذهنية وتشجيع “التقبل الراديكالي”، و “ملاحظة خبرة التنفس”.

في المقابل فإن ممارسة اليقظة الذهنية في “العلاج بالقبول والالتزام” لها جذور مختلفة ولها أدوار مختلفة عن أدوارها في العلاج الجدلي السلوكي، على سبيل المثال لا يشار في العلاج بالقبول والالتزام إلى “ممارسة زن”، ولا إلى “صلاة التأمل”، ولا إلى غير ذلك من “التقاليد الروحية” لنشأة “اليقظة العقلية” (Hayes, etal., 1999).

ويتم التوجه مباشرة في العلاج بالقبول والالتزام إلى توظيف واستخدام استراتيجيات يقظة عقلية معينة تستهدف تنمية “المرونة النفسية psychological flexibility” لدى العملاء. وتتمثل النظرية الكامنة وراء هذا المنحى في أن “سيطرة اللغة والقواعد اللفظية الجامدة والنمطية” تقلل من اتصال العميل بأحداث ووقائع وخبرات البيئة وتضيق من نطاق رصيده السلوكي وتجعله في حالة من الجمود المعرفي والانفعالي والسلوكي (Hayes, 2004; Hayes, etal., 1999)، لذلك تستهدف عديد من الاستراتيجيات القائمة على اليقظة العقلية ظاهرة الجمود النفسي بغية تفكيك بنيتها وإزالة عوامل ومحددات وديناميات تكوينها وتسعى إلى تبصير العميل بنطاق الخبرات الحياتية الكاملة وإثراء وعيه وانفتاحه العقلي على وقائع وأحداث وخبرات البيئة.

ومن صور التدخل الطريقة في هذا الصدد على سبيل المثال حث العميل على ترديد كلمة ما مثل “اللبن milk” مرات عديدة لتحفيز الوظائف والمتضمنات الدلالية المرتبطة بهذه الكلمة مثل: أبيض، دسم، رقيق إلى أن تتلاشى أو تختفي فضلاً عن “الخبرة المباشرة” بصوت ما إلى أن يصبح صوتًا خافتًا غير مسموعًا.

ومن الاستراتيجيات الأخرى التي يركز عليها في العلاج بالقبول والالتزام خفض مدى خبرة العملاء بأن “أفكارهم”، و “مشاعرهم” تساويهم أو هي جزء من ماهية ذاتهم ككل، وتساعد هذه الاستراتيجيات العملاء على تأسيس واستدامة الاتصال ما ذاتهم الملاحظة observing self.

ويستخدم المعالج النفسي في العلاج بالقبول والالتزام ما يعرف ب ” استعارة رقعةالشطرنجchessboard metaphor” ليظهر أن العميل ليس هو “أفكاره”، و “مشاعره” بل هي قطع على لوحة الشطرنج يمكن تجاوزها وتحريكها وتغيير وضعياتها أي يحتويها سياق عام تحدث في إطاره هذه الأفكار وتختبر فيه هذه المشاعر.

ويستخدم في العلاج بالقبول والالتزام استراتيجية أخرى هي تحفيز العميل وتشجيعه على تصوير أفكاره وتعيينها وملاحظتها ورؤيتها كوقائع مكتوبة على كروت تتحرك عبر بانوراما تخيل في إطار ما يعرف بموكب الفكر thought parade.

ويتضمن العلاج بالقبول والالتزام شأنه شأن العلاج الجدلي ـ السلوكي تدريبات تتضمن: ملاحظة الأفكار والانفعالات والإحساسات الجسمية، إضافة إلى أن “العلاج الجدلي ـ السلوكي” يشجع العميل على الخبرة بأفكاره كمجرد أفكار وشعوره كمجرد شعور لا يعبر عن ماهية الذات، لا يعول في العلاج بالقبول والالتزام على حث العميل على التراجع للماضي أو عزل ذاته عن الخبرة الراهنة، فضلاً عن الاشتراك بينهما فيما يتعلق بهدف أساسي من اليقظة الذهنية وهو دفع العميل إلى الدخول في والمشاركة والاندماج في خبرته (Chapman &Linehan, 2005) فضلاً عن تقبل والخبرة المباشرة بما يحدث في اللحظة الحاضرة.

سادسًا- ملخص ومناقشة:

باختصار، رغم أن “العلاج الجدلي ـ السلوكي”، و “العلاج بالقبول والالتزام” صيغًا علاجية جديدة في تيار الموجة الجديدة للعلاج السلوكي فيما تأكيدهما على “اليقظة الذهنيةmindfulness “، و “التقبلacceptance“، يوجد بينهما فروقًا مهمًة عديد.

وصاغت وطورت مارشا إم لينهان Marsha Linehan“العلاج الجدلي ـ السلوكي DBT” بصورة خاصة لعلاج السيدات ذوات الميول والأفكار والمحاولات الانتحارية suicidal women ، ومن ثم بعد ذلك علاج ذوي اضطراب الشخصية البينية أو الحدية borderline personality disorder (BPD)، إلا أن تطبيق هذه الصيغة العلاجية واجه صعوبات وتحديات عديدة فيما يتعلق بتطبيق العلاجات الحالية الموجهة نحو التغيير change-oriented treatments لذوي المشكلات المعقدة والمقترنة بالأفكار الانتحارية.

في المقابل يأتي “العلاج بالقبول والالتزام” والذي صاغه وطوره ستيف هايز والذي أسسه على “النظرية السلوكية”، وعلى “البحوث التي تناول اللغة البشرية والعمليات المعرفية” الأمر الذي أدى به إلى طرح نموذج نظري يمكن بموجبه وصف وتفسير المشكلات الكلينيكية لدى الأفراد الذين لا يعانون من مشكلات نفسية متعددة بل الذين ينقصهم المرونة النفسية الأمر الذي يزيد من فاعلية استخدام اليقظة العقلية واستراتيجيات التقبل بفاعلية أكثر.

ويركز في العلاج الجدلي ـ السلوكي على تعليم التقبل واليقظة الذهنية والتعامل معهما كمهارات سلوكية، في حين ينظر إليهما في العلاج بالقبول والالتزام على أنهما أكثر ارتباطًا بمهارات التجنب الخبر والتقبل الخبري والمرونة النفسية.

  • المصدر:
  • Chapman, A. (2006). Acceptance and Mindfulness in Behavior Therapy: A Comparison of Dialectical Behavior Therapy and Acceptance and Commitment Therapy. International Journal of Behavioral Consultation and Therapy, 2(3): 308- 313.

https://files.eric.ed.gov/fulltext/EJ804033.pdf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى