العلاقة بين الاقتصاد والأدب

إياد فايز مرشد | مدير مكتبة الأسد الوطنية

     الأدب نتاج اجتماعي يصنعه الإنسان كي يعبّر من خلاله عن مواقفه تجاه الطبيعة والكون وعلاقته مع الآخر سواء أكان إنساناً فرداً أم كياناً اجتماعياً ما، أو يتخذ منه وسيلة للإفصاح عن مشاعره الداخلية حباً أو كراهيةً، إعجاباً أو تذمراً، كما أن الأدب لم يكن في يوم من الأيام منعزلاً عن محيطه الاجتماعي الذي نشأ فيه، فالعلاقات الإنسانية بكل صورها لاقت في الأجناس الأدبية المختلفة استجابة كبيرة. ويعرف الأدب بأنه (إنتاج اجتماعي يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها، وبالنظم الاجتماعية والسياسية. فالدين والقوانين يطبعان الشعب الذي يخضع لهما بطابعهما، وبعبارة أوجز الأدب صورة للمجتمع.) (

إذن الأدب يعبر عن الهوية الاجتماعية، فالشعر العربي في الجاهلية يختلف عنه في الإسلام لجهة المعاني والمضامين، كما أن الشعر في الأندلس كان له ما يميزه عن الشعر الذي يقال في بوادي المنطقة العربية، وإن التقيا في كثير من الظواهر الشكلية العامة، كذلك الأدب الذي يحاكي الريف له نكهته التي تميزه عما يكتب في المدن، وأدب القصور يختلف عن أدب العامة. وأدب الكبار له ما يميزه عن أدب الشباب. وبالتالي فالأدب يفتح بابه لكل هذه التناقضات التي يصهرها ويخرجها للناس بعد أن يخضعها لضوابطه الفنية ومقتضياته الخاصة بكل جنس من أجناسه المتعددة.

 وإيماناً منّا بأن الاقتصاد يمثل الأساس الحقيقي لتطور المجتمع سياسياً وثقافياً، نورد بعض التعريفات المهمة لعلم الاقتصاد:

  • يدرس كيفية تحديد ثمن العمالة، ورأس المال، والأرض في الاقتصاد، وكيف يتم استخدام هذه الأسعار في توزيع الموارد.
  • يدرس توزيع الدخل، ويقترح طرق مساعدة المحتاجين من دون إلحاق الأذى بأداء الاقتصاد.
  • يدرس الارتفاع والهبوط في البطالة والإنتاج اللذين تتشكل منهما الدورة التجارية، ويطور السياسات الحكومية لتحسين النمو الاقتصادي.
  • يبحث في أنماط التجارة بين الأمم، ويحلل تأثير الحواجز التجارية.

هذه قائمة جيدة، ومع ذلك يمكنك توسيعها عدة أضعاف. لكن إذا اختصرنا كل هذه التعاريف، فأننا سنجد أنها تشترك في مغزى واحد: 

علم الاقتصاد (economic) هو دراسة كيف يمكن للمجتمعات أن تستخدم مواردها النادرة لإنتاج سلع قيّمة وتوزيعها بين مختلف الناس. (

 إذن السياسة بكل فذلكاتها، والأدب بكل أجناسه ما هو إلاّ حصيلة للواقع الاقتصادي الذي يحكم رجال السياسة والأدب وموضوعاتهم التي يشتغلون عليها، ويعبّر كل فنان أو مبدع انطلاقاً من ظروف اقتصادية تحكّمه أو يعيش تحت وزرها، أو من شعوره بالانتماء لتشكيل اجتماعي أو اقتصادي فيعدّ نفسه أميناً على النطق باسمه والتعبير عن ظروفه وحرمانه أو طموحاته. والشيء المهم الذي علينا تأكيده دائماً؛ أن الأدب ليس صورة فوتوغرافية للواقع بل هو معالجة فنية وذهنية راقية للأحداث بحيث تستلهم من الأحداث مادتها دون أن تكون أسيرة لها أو خاضعة حكمياً للمسارات المرسومة لها. 

وإذا كانت الأحداث السياسية لاقت صدى أوسع في الأدب على اختلاف عصوره، ذلك أنها أكثر صخباً، وأعمق ارتباطاً بمواعيد محددة قامت وانتهت فيها، فزمنها محدد الملامح حتى وأن استمرت لسنوات، ونظرا لأن كليهما الأدب والسياسة ينطلقان في كثير من الأحيان من أفعال أو ردود فعل تتسم بالصخب والعنف والغضب، فالتصقا طويلاً، وكان من الصعب فك الارتباط بينهما، ولكن هل هذا الالتصاق خدم الأدب أو غيَّر في توجهات العمل السياسي. وهل بقّي الأدب ظلاً للحدث السياسي أم كان له محركاً وموجهاً.

المشكلة أنه في الدراسات الأدبية والاجتماعية ليست هناك حدود مطلقة للحقيقة، وليس هناك من ضوابط ترسخ قواعد واضحة، فكل مثال يمكن أن نطلقه قد نجد له نقيضاً، ذلك أن الفعل الإنساني يختلف عن العلوم الطبيعية التي لها قواعد تسير وفقها. 

والشيء الجدير بالذكر هنا، أليس كل فعل سياسي ينطلق من تضارب المصالح الاقتصادية أو الرغبة في الاستحواذ على منافع وثروات على حساب الآخرين؟ 

 فالسياسة هي الوجه الظاهر للصراع الاقتصادي، وماهي إلا تتويجاً لانتهاء واقع اقتصادي ما، أو محاولة طرف ما (فرد ـــــ قبيلة ـــــ كيان سياسي ـــــ دولة …إلخ)؛ السيطرة على مقدرات أو ثروات أو مصالح ومنافع اقتصادية يمتلكها طرف آخر مستعيناً بعوامل ساعدته لأن يكون أكثر بأساً وقوة أو تنظيماً أو إرادة في الاستحواذ وتحقيق مطامعه. 

وإذا كانت السياسة ماهي إلا نتيجة مخاض اقتصادي غير محدد بزمن دقيق، فهل يمكن أن نربط الأدب بالسياسة، ونمنع ذلك عن الاقتصاد، وهو الذي يرتبط بحياة الفرد أو الجماعة مهما كبرت أو صغرت ارتباطاً وثيقاً، فلكل أسره اقتصادها، ولكل تشكيل اجتماعي واقعه الخاص به؛ من ناحية ظروفه المعيشية والقدرة على تأمين مستلزمات حياته سواء أكان ذلك ابتداء من مرحلة الرعي إلى الرأسمالية في أعلى مراحلها ألا وهي الإمبريالية. 

ودأب معظم الباحثين والمهتمين بالأدب نظرية أو دراسة أو نقداً على الربط ما بينه وبين السياسة، وذلك لما للحدث السياسي من سطوة معنوية ولما يخلفه من اهتزازات تتميز بالديناميكية العالية، وقدرته على إثارة العواصف في مجمل المشهد الإنساني الاجتماعي والاقتصادي والفكري.

لكنه في زحمة الضجيج السياسي والانفعال الأدبي تناسى كثيرون دور الاقتصاد كمحرك خفي لكل الأحداث، فهو المسبب لكل المتغيرات السياسية من ثورات اجتماعية وانقلابات في أنظمة الحكم، وصراعات محلية وإقليمية ودولية. كما أنه يؤدي دوراً حاسماً في تشكيل الخطاب الثقافي عامة والأدبي خاصة. 

إن كل حدث سياسي يقف بقوة خلفه العامل الاقتصادي، وكل النظريات السياسية ترتكز على أسس ومفاهيم اقتصادية. فالإقطاع مثلا ًما هو إلا نظام سياسي اقتصادي ساد في مرحلة تاريخية محددة من تطور البشرية، تعبيراً عن ملكية الإقطاعيين للأرض التي كانت في تلك الفترات هي مصدر الملكية ووسيلة استعباد تعب الناس وجهودهم. ثم جاء الانتقال من الإقطاع إلى البرجوازية تعبير عن انتقال جديد للقوى الاقتصادية التي امتلكت وسائل انتاج جديدة: المصانع والمواد الأولية، ومن ثم الأسواق المرتبطة بها توزيعاً وتسويقاً. ثم جاءت الاشتراكية كنظرية ذات بعد اقتصادي اجتماعي حيث طالبت بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، حتى أنه من أهم الكتب التي نظّرت للاشتراكية كان كتاب كارل ماركس رأس المال*. إن ظهور الامبريالية ما كان إلاّ تعبيراً عن خروج الشركات العملاقة من إطارها القومي نحو العالمية؛ فغدت الشركات متعددة الجنسيات* هي الأكثر تأثيراً في القرار السياسي والاقتصادي على الصعيد العالمي. حتى أن بعض الشركات منها تكاد تتجاوز ميزانيتها ميزانية عدد كبير من دول العالم الثالث.
لقد أصبح من المسلم به أن الاقتصاد له الأولوية في التأثير وإحداث التغيير على كل الصعد، وبالتالي شكّل الاقتصاد البنية التحتية والأرضية الموضوعية لكل الأيديولوجيات السياسية التي نشأت وقامت عبر التاريخ، وأسهم بفعالية في تطور أشكال الفنون، وترسيخ القيم الثقافية، ونشوء الحركات الفكرية والنقدية، التي تشكل بمجملها ما أطلق عليه البنية الفوقية. 

ولكن هل كان الأدب قادراً على التعبير عن ذلك؟

الأدب لم ينشأ كرد فعل سياسي أو اقتصادي، بقدر ما كان مرافقاً للإنسان منذ تشكيل أولى البيئات الاجتماعية على الأرض، فالأدب بما له من مزايا تطهيرية ووجدانية وطاقات تعبيرية كان متنفساً للإنسان للتعبير عن فرحه وحزنه، ومرافقاً أميناً له في سعادته وشقائه، في يأسه وإحباطه، وفي أمله المتجدد بتجدد الحياة نفسها أيضاً.

فالأدب يغرف من نبع لا قرار له ذلك أنه لصيق بمكنونات النفس البشرية المتجذرة بالعطاء والسعي نحو الخلود والكمال. وبالتالي كان دائماً رافعة للحضارة ودعامة للنهوض عند كل كبوة قادتها المطامع الإنسانية أو فرضتها عوامل الصراع مع الطبيعة بكل جبروتها وغموضها.

لكن علاقة الأدب مع الواقع الاقتصادي تأخذ منحى الديمومة، لأن ظروف حياة المبدع تنعكس عفوياً في نتاجه، ولأن ظروفنا تحدد أقدرانا؛ كانت العلاقة ما بين الأدب والاقتصاد علاقة جدلية يعبر عنها حيناً كموقف سياسي، أو ينظر لها آخرون على أنها بعد اجتماعي؛ وبالحقيقة فكلاهما لم يكونا سوى واقعاً اقتصادياً يكابده المبدع؛ فيعمل على تجاوزه حلماً أو عملاً أو إبداعاً من صميم الحياة.

إن الأدب بقي مخلصاً للإنسان في كل آلامه وآماله، ومعبّراً عن واقعه الحياتّي في ظل الظروف الطبيعية والاجتماعية المختلفة التي يعيش في كنفها، فالأدب الجاهلي مثلاً؛ كان أميناً في نقل ظروف الحياة القائمة على الرعي والصراع العشائري بحثاً عن مصادر الحياة آنذاك من ماء وكلأ للناس ومراع للماشية مصدر الرزق والانتفاع.

لذلك صور شعراء الجاهلية بدقة كل ما يطوف حولهم وما يكابدونه، (كما أكثروا من ذكر الخصب ورطوبة النبات ولدونة الأغصان وكثرة الماء أكثروا من وصف الجدب. وطالما وصفوا وعوثة الصحراء ومخاوفهم في لياليها من الجن والشياطين. وكادوا لا يتركون شيئاً يتصل بهم إلا وصفوه، فوصفوا الرعي والمراعي، ووصفوا الأسلحة والحروب، ووصفوا الخمر وأوانيها وسقاتها ومجلسها وأثرها، وكانوا يُقحمونها. في حماستهم، ويفتخرون بأنهم يسقونها الصحاب والرفاق على صوت القيان ومع نَحر الجزور.)()  

وشعر الصعاليك° خير نموذج للأدب المعبّر عن الصراع الطبقي والاجتماعي المنقسم وفقاً لعوامل اقتصادية أولاً وأخيراً بحيث أنه تجاوز الصراع القبلي الذي كان سائداً آنذاك ليكون صراعاً اقتصادياً بين من يملكون ويتحكّمون وبين من لا يملكون. فجاء خروجاً مبكراً عن النظام القبلي السائد آنذاك ليكرّس شعراً له خصوصيته رغم اختلاف قائليه قبلياً ومقاصداً. ومن أشهر شعراء الصعاليك عروة بن الورد وهو من كان (يعبر عن نفس كبيرة، فهو لا يغزو للغزو والنهب والسلب كالشَّنفرى وتأبط شراً، وإنما يغزو ليعين الهُلاَّك والفقراء والمرضى والمستضعفين من قبيلته، والطريف أنه لم يُغير على كريم يبذل ماله للناس، بل كان يتخير لغارته من عُرفوا بالشح والبخل ومن لا يمدّون يد العون للمحتاج في قبائلهم، فلا يرعون ضعفاً ولا قرابة ولا حقّاً من حقوق أقوامهم. وبذلك كله تصبح الصعلكة عنده ضرباً من ضروب النبل الخّلقي، وكأنها أصبحت صِنواً للفروسية، بل لعلّها تتقدمّها في هذه الناحية من التضامن الاجتماعي بين الصعلوك والمعوزين في قبيلته. وبلغ عروة من ذلك أنه كان لا يؤثر نفسه بشيء على من يرعاهم من صعاليكه، فلهم مثل حظه غزوا معه أو قعد بهم المرض أو الضعف. وهو يضرب بذلك مثلاً رفيعاً في الرحمة والشفقة والبذل والإيثار)()  

وفي أوربا جاءت الرواية لتعبر عن تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية فمع النمو الكبير للمدن وتطور الصناعة ونشوء مجتمعات جديدة فرضتها ظروف تطور وسائل الإنتاج واتساع قاعدة القوى المنتجة من عمال وموظفين إلخ، نشأت الرواية كجنس أدبي يحاكي هذه الظروف وينهل من وقائعها أحداثه وحكاياته. (ولا يقتصر تأثير الاقتصاد في الأدب على الشكل الأدبي فقط، بل يمتد تأثيره إلى مضمون النصوص الأدبية ذاتها، فالوضع الاقتصادي للمجتمع، ينعكس على الرواية الواقعية، فتذهب بعيداً في وصف الأمكنة التي يقطنها أبطال الرواية، مما يكشف وضعهم الطبقي. الذي يظهر من خلال رصد طرائق حياة هؤلاء الأبطال، ومظهرهم الشخصي.) ()

فرواية “الأم” لمكسيم غوركي الصادرة عام 1907 كانت تعبيراً عن الواقعية الاشتراكية كونها عبرت عن نضال البروليتاريا في وجه البرجوازية، كذلك رواية الكاتب الفرنسي فكتور هيجو “البؤساء” التي نشرت عام 1862، تضمنت انتقاداً للظلم الاجتماعي، كما أن رواية مارغريت ميتشل “ذهب مع الريح” تحدثت عن صعود البرجوازية الأمريكية القائمة على الصناعة إثر انهيار النظام الاقطاعي ومتخذة من الحرب الأهلية الأمريكية خلفية للأحداث. وهناك الآلاف من الروايات التي تذكر وفي كل أقطاب العالم التي اتخذت من المتغيرات الاقتصادية وما أعقبها من تحولات اجتماعية موضوعات لها.  

حتى أن نشوء ما يسمى بالأدب النسوي على الصعيد العالمي؛ ما جاء إلاّ تعبيراً عن انتقال المرأة من الحياة التقليدية وانخراطها في قوة العمل ودخولها ميادين الحياة الاقتصادية بكل تنوعها، فجاء هذا الأدب تصويراً لهذه الانتقال الاقتصادي والاجتماعي في حياة المرأة.

والانتقال من الصراع على أساس الدولة القومية إلى الصراع على أساس إيديولوجي، غيّر كثيراً من مضامين الأدب وتوجهاته ومذاهبه النقدية، حتى أن الواقعية الاشتراكية كمصطلح نقدي أدبي ارتكز على أساس اجتماعي واقتصادي يتمثل؛ بأهمية البعد الفكري والانتماء الطبقي للأدب وانحيازه لمصلحة الجماهير العاملة في سعيها لبناء النظام الاشتراكي القائم على العدالة والتوزيع العادل للثروات الاقتصادية. 

وإذا ما كان الأديب راسخاً في انتمائه، وواعياً للصراع الاجتماعي الذي يدور حوله، فلا شك أن صوته سيكون صدىً للواقع الاقتصادي والظروف الاقتصادية لبيئته الاجتماعية وطبقته التي يمثلها. ومن هنا نجد أن الاقتصاد السياسي نحى في معالجته للواقع الاجتماعي والاقتصادي والفني بناء على الجانب المادي، محاولاً أن يكرس مفهوم الربح كقيمة عليا له، ومن ثم بناء الثروة والاستحواذ على المواد الأولية ولاسيما النادرة منها، ولاحقاً السيطرة على الأسواق والتحكم بالإنتاج وتسويقه وفقاً لقاعدة البقاء للأقوى، بينما نحى الاقتصاد الأدبي باتجاه آخر (يرمي الاقتصاد الأدبي إلى السيطرة على المادة لا السيطرة بالمادة، فهو يخاطب الروح الإنسانية لتترفّع عن الصراع المادي، بغية الخلاص من الجرائم التي جرها الاقتصاد السياسي. إنه يدعو إلى ملكية القناعة مقابل ملكية الجشاعة التي يدعو إليها الاقتصاد السياسي. إنه يدرك أن الاضطراب في المجتمع مرده إلى الناحية المادية، ويرى أن هذا الاضطراب الشنيع لا ينتهي إلا إذا قامت الأخلاق الأدبية مقام الأخلاق المادية.) ()

كما أن بعض الفلاسفة وانطلاقاً من هذه العلاقة الجدلية المتجذرة ما بين الأدب ولاقتصاد، لم يتورعوا عن الربط ما بين اللغة والعملة، حيث أنهما أساس الثروة المعرفية بالنسبة للأولى والمادية بالنسبة للثانية، والأولى هي أساس الأدب والثانية هي معيار الاقتصاد ( وﻳﺘﺤﺪث  اﻟـﻔـﻴـﻠـﺴـﻮف اﻷلماﻧـﻲ J.G.Hamann *ﻳﻮﻫﺎن ﺟﻮرج ﻫـﺎﻣـﺎن المعاﺻﺮ ﻟﺴﻤﻴـﺚ*ﻋـﻦ ﻫـﺬا اﻻرﺗـﺒـﺎط ﻓـﻲ إﺣﺪى ﻣﻘﺎﻻﺗﻪ ﻓﻲ اﻟﻌﺎم 1761 ﺑﻘﻮﻟﻪ: اﻟﻨﻘﻮد واﻟﻠﻐﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎن ﻳﺘﺴﻢ اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻖ واﻟﺘﺠﺮﻳﺪ ﺗﻮازي ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ اﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻬﻤﺎ. وﻫﻤﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺎن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺑـﺎﻵﺧـﺮ ﺑـﺸـﻜـﻞ أﻗـﻮى مما ﻫﻮ ﻣﺘﺼﻮر، وﻧﻈﺮﻳﺔ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺗﻔﺴﺮ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻵﺧﺮ، وﻳﺒﺪو أﻧﻬﻤﺎ ﻳﻘﻮﻣﺎن ﻋﻠﻰ أﺳﺲ ﻣﺸﺘﺮﻛﺔ. ﻓﺜﺮوة المعرﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ ﺗﺒﺎدل اﻟﻜﻠﻤﺎت، وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى وأن ﻛﻞ ﻛﻨﻮز اﳊﻴﺎة المدﻧﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟـﻨـﻘـﻮد ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﻌﻴﺎرﻫﺎ اﻟﻌﺎم. (Hamann, 1967:97).

 وﻟﻢ ﻳﻔﺼﻞ ﻫﺎﻣﺎن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة، وﻣﻦ دون أن ﻳﺤﺎول أن يبين ﺑﺪﻗﺔ ﻛـﻴـﻒ ” أن ﻧﻈﺮﻳﺔ إﺣﺪاﻫﻤﺎ يمكن أن ﺗﻔﺴﺮ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻷﺧﺮى”، ﻳﻜﺘﻔﻲ بملاﺣﻈﺔ ” أن اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪيمة ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺔ ﻷﻣﻮر اﻟﺪوﻟﺔ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻣﻮر المالية، في عصره. (Hamann, 1761/1967 :97).

 واﻟﻜﻠﻤﺎت ﻻ ﺗﺴﺘﻤﺪ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ المادﻳﺔ ــــــ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺳـﻠـﺴـﻠـﺔ ﻣـﻦ اﻷﺻﻮات على سبيل المثال وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺴﺘﻤﺪﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻏﺮاض اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﻳﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻘﻞ المضمون ﻏﻴﺮ المادي، وﻗﻴﻤﺔ اﻟﻨﻘﻮد ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ ﲡﺴﺪﻫﺎ المادي، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﻳﻬﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ وﺳﻴﻠﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻟﺘﺒﺎدل اﻟﺴﻠﻊ.) (

مما تقدّم يمكن أن نجمل التأثيرات الإيجابية للاقتصاد على الأدب:

ــــــ أسهم تطور الاقتصاد وما رافقه من تطور تكنولوجي وتقني في توسيع دائرة انتشار الأدب حيث مكّن تطور الطباعة من طباعة الكتب على اختلافها بآلاف النسخ وانتشارها عبر العالم. وبذلك أخذ الأدب الصبغة العالمية متجاوزاً الحدود الإقليمية والجغرافية الضيقة.

ــــــ أسهم الرخاء الاقتصادي في كثير من الدول إلى انتقال الكتاب والمبدعين من حياة الفقر والعوز إلى حالة من البحبوحة الاقتصادية. وحتى جعل الكثيرين من كبار الكُتّاب والمبدعين يتفرغّون لحياتهم الإبداعية. 

ـــــ أدى التطور الاقتصادي إلى زيادة تفاعل واهتمام شرائح وفئات اجتماعية أكبر بالأدب والفنون على اختلافها.

ــــ مكّن التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي من تطوير عملية إنجاز الكتب وإبداعها إلى صناعة متكاملة لها سوقها ومستلزماتها، كما أسهم في انتقال أعمال أدبية كثيرة من حالتها التقليدية كَكِتاب لتكون منجزاً فنياً كأعمال سينمائية أو درامية، بل حتى تم تحويل مسرحيات لشكسبير لأعمال سينمائية*، وتحويل أساطير يونانية لأعمال سينمائية ضخمة تسهم في الحياة الاقتصادية (صناعة السينما التي يعمل بها الآلاف من الفنيين والممثلين والمنتجين إلخ) 

(أما الدور المباشر للأدب في الاقتصاد، فقد تجلى بوضوح بالمساهمة في تطوير نشاط صناعة الطباعة والنشر، وما يرتبط بهذه الصناعة من أنشطة مكملة، كصناعة الأحبار والورق، وماكينات الطبع، والتصوير، والقص، والتغليف، والنقل، والطاقة اللازمة للتشغيل، وغيرها. وعلى الجانب الآخر يمثل تحويل المنتجات الأدبية إلى دراما تلفزيونية، ومسرحية، وغنائية، إلى تعظيم الدور الاقتصادي للأدب، عبر زيادة الطلب على المنتجات التكنولوجية المستخدمة في صناعتي الفن والإعلام، بما يؤدي إلى زيادة حجم التشغيل الاقتصادي().

ـــ دخل المنتج الإبداعي والصناعات الثقافية والإبداعية في الدورة الاقتصادية للدول حيث أصبح مساهماً فعالاً في زيادة الدخل القومي وتأمين فرص عمل جديدة.

ـــــ أصبح الأدب ناقلاً للفكر الاقتصادي والسياسي وأصبح وسيلة لنشر مفاهيمها، فمثلاً راحت الآداب الأوربية والأمريكية؛ تركّز على الحرية الفردية واستقلالية الإنسان، ومزايا المجتمع الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة المطلقة والحرية الشخصية والخروج على كل أشكال الرقابة. بينما راح الأدب السوفييتي والصيني وكثير من آداب أمريكا اللاتينية يصور الواقع ويدعو للاشتراكية بوصفها الحل الأمثل للتخلّص من الفقر وقوى الاستغلال والطبقات الحاكمة المرتبطة بالقوى الإمبريالية العالمية. (ساعد إدخال علاقات ووقائع الحياة الاقتصادية في التصوير الفني للواقع، الذي نصادف مثالاً له في مؤلفات شيدرين، أوسبينسكي والكتاب الشعبيين عموماً، على تعميق التحليل الاجتماعي المميز للواقعية وأغناها بألوان جديدة. قال أوسبينسكي*أنه أراد في مؤلفاته عن الفلاحين أن يُبيّن كيف يُحدث تغير الشروط الاقتصادية والاجتماعية للإنسان تغيراً موازياً في عالمه الداخلي. وكان الاستيعاب الفني للترابط القائم بين شروط العمل والإنتاج وبين العالم الداخلي للإنسان خطوة جديدة للواقعية إلى أمام. وجد هذا التصوير، المادي في جوهره، لتبعية وعي الإنسان لشروط واقعه الاقتصادي، تطويراً لاحقاً في المنهج الإبداعي لمكسيك غوركي.) (

ـــــ فتحت العلاقات الاجتماعية الناشئة بحكم التطور الاقتصادي والتكنولوجي المجال واسعاً أمام مخيلة الأدباء والمبدعين ليصوروا واقعاً اجتماعياً متنوعاً وطارئاً فيه الكثير من الأشياء الجديدة والمستحدثة.

ــــ التطور الاقتصادي للدول منحها الإمكانيات لبناء الحواضن الثقافية من مؤسسات ومراكز ثقافية ودور سينما وصالات عرض للفنون ومسارح إلخ.      

التأثيرات السلبية للاقتصاد على الأدب:

ــــــ قد يمنع الفقر والعوز وسوء الأحوال الاقتصادية مواهب كثيرة من إبراز حضورها وموهبتها، وبالتالي نخسر بسبب ذلك طاقات إبداعية وفكرية ولا نحقق لها الفرصة لإثبات وجودها. 

ــــــ في المجتمعات الفقيرة يصبح الاهتمام بالآداب والفنون شكلاً من أشكال الترف، ذلك أنه بسبب ظروف الطبقات المسحوقة مادياً يصبح تأمين الرغيف أهم من الكتاب، وتلبية أولويات الحياة من مأكل وملبس وتأمين السكن أكثر جدوى من الانطلاق خلف الفنون والآداب وسواها من أشكال الثقافة، ومن جهة أخرى يمكن أن تشكل حالة الفقر والفاقة حافزاً للكثيرين للارتقاء في سلم المجتمع إيماناً منهم بقدرتهم على تجاوز كل المعوقات لتحقيق الذات وإبراز الموهبة. ولطالما ارتبط الإبداع والعبقرية بالمعاناة أكثر من ارتباطه بالرخاء لأنه شكل دائماً المعادل الموضوعي للنهوض والارتقاء.

ـــــ أدى تطور الاقتصاد ولاسيما الاستهلاكي منه إلى نشوء ثقافة هشة الملامح همها الربح المادي على حساب عوامل الجودة الفنية.

ـــــ الانغماس في الحياة الاقتصادية لدى شرائح المجتمع كلها جعلها أكثر قرباً من حياة الفوترة منها إلى عالم الكتاب والإبداع، مما أدى إلى نشوء أجيال جديدة دون أهداف وانتماء ثقافي محدد الملامح وواضح السمات. تعتمد في ثقافتها عما تقدمه وسائل الإعلام من مواد ثقافية مبسترة أو من خلال ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي مما أفقد الأجيال الجديدة الكثير من هويتها وخصائصها الوطنية والقومية. 

وهكذا نجد أنه من الصعوبة فصل الاقتصاد ليس عن الأدب فحسب، بل عن مجمل العلوم الاجتماعية، لأن الحياة الإنسانية فيها من الارتباط والتعاضد العضوي والوظيفي ما يشبه الشرايين والأوردة في جسم الإنسان، حيث أنها تنتشر في كل الأعضاء وتتقاسم الوظائف لتمنح الحياة في الجسد. 

وستبقى العلاقة بينهما قائمة على التأثر والتأثير المتبادل، فالحياة الاقتصادية وانعكاسها المباشر على الحياة الاجتماعية للإنسان ستظل المصدر الأكثر إيحاء للأدباء والمبدعين، فكل تطور اقتصادي لابد له من منعكسات على مجمل الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، كما أن المشكلات الاقتصادية من (تدني الأجور، ارتفاع نسبة البطالة، ندرة الموارد، سوء توزيع الدخل القومي، انتشار الفقر، سيادة ثقافة الاستهلاك، ضعف الإنتاجية، والتضخم الاقتصادي إلخ.) لها تأثيرها المباشر على أفراد المجتمع ككل وعلى مجمل النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وبالتالي تصبح هذه المُنغصّات وتأثيراتها السلبية مادة للانتقاد الاجتماعي والسياسي أولاً، ومجالاً رحباً للمبدعين لمعالجة تأثيراتها النفسية والاقتصادية والحياتية اليومية ثانياً، لأن الفنون والآداب هي الأقرب لروح الجمهور، وهي بما تمتلكه من مؤثرات قادرة على توجيه بوصلة الرأي العام ودفعه باتجاه اتخاذ الموقف الذي يتناسب مع مصالحه المباشرة والمصلحة العليا للوطن.

إن التطور التقني واتساع الاعتماد على التكنولوجيا، وشيوع وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي على النت      وما خلفه ذلك من سهولة تداول المعلومات والأفكار، وسرعة نقلها سيزيد من التواصل ما بين العلوم الاجتماعية على اختلافها، ومنها الاقتصاد والأدب، وقد يصبح الفصل بين سويات التأثير بينهما أكثر تعقيداً. لكن يبقى الفضل للاقتصاد أنه سواء كان بمعطياته الإيجابية فهو يمنح راحة وثقة وظروفاً مناسبة للإبداع، ومن خلال انتكاساته يعطي مناخاً محفزاً للمبدعين؛ لحثهم على استلهام أعمال كبيرة في الأدب بكل أجناسه قادرة على التحليق بالإنسان وجعله أكثر قدرة على اجتراح الحلول ووصف الواقع لبناء حضارة إنسانية أكثر غنى وعمقاً.    

وتبقى القيمة الكبرى للأدب لأنه قادر على لجم الجنوح العنيف للحياة المادية بما فيها من قسوة وعنف وصراع للاستحواذ على الثروات.  كما أنه يبشر بتعميم مفاهيم العدالة وترسيخ القيم الإنسانية التي لا يمكن لأي مجتمع أن يستمر من دونها.  وكذلك يبقى الأدب بما يملكه من قدرات على تحقيق التواصل الخلاق بين البشر والتحليق بهم نحو آفاق جديدة من الخيال والابتكار. دافعا أساسيا تعقد عليه الآمال وتصبو إليه الأفئدة الضامئة للحب كضمان لبقاء الإنسان في منأى عن حلبات الصراعات التي لا تنتهي.

قائمة المراجع:

  1.  الرومانتيكية. محمد غنيمي هلال. دار العودة، بيروت:1968.
  2. الاقتصاد. بول آ.سامويلسون، ويليام د.نوردهاوس، وبمساعدة مايكل ج. ماندل. ترجمة: هشام عبد الله. الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمان: ط2، 2006.
  3. تاريخ الأدب العربي ج1 ــ العصر الجاهلي. شوقي ضيف. دار المعارف ط 11 القاهرة: د.ت. 
  4. تاريخ الأدب العربي ج1 ــ العصر الجاهلي. شوقي ضيف. دار المعارف ط 11 القاهرة: د.ت. 
  5. الأدب والاقتصاد متى يلتقيان؟2/3. عمار علي حسن. مدونة بوابة الوطن على النت. [الثلاثاء 12/4/2016].
  6. فصول في علم الاقتصاد الأدبي. فصول مختارة من رؤى كاسندرا بريام. حنا عبود. منشورات اتحاد الكتاب العرب. دمشق: 1997. 
  7. اللغة والاقتصاد. فلوريان كولماس. ترجمة: أحمد عوض. سلسلة عالم المعرفة العدد /263/ تشرين الثاني 2000. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت.
  8. علاقة الأدب بالسياسة والاقتصاد. صلاح شعير. صحيفة الوفد. 9 /تشرين الثاني/ 2017.
  9. الواقعية النقدية في الأدب. س.بيتروف. ترجمة: شوكت يوسف. وزارة الثقافة ـــــ الهيئة العامّة السّورية للكتاب. دمشق: 2012. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى