بين لذة الجسد ولذة الروح (٢)

رضا راشد | الأزهر الشريف

عرفنا في المقالة السابقة أن اﻹنسان تتنازعه قوتان متصارعتان ،متعاكستان في مطالبهما ،متناقضتان في شهواتهما، وهما الروح والجسد ،وأن مبالغة المرء في تلبية مطالب أحدهما إنما يكون على حساب اﻵخر. ولا يزال المرء يجتهد في تلبية أمر أي منهما حتى يمسى حيوانا ما فيه أثارة من إنسانية ،أو حتى يضحى أشبه بالملائكة في روحانيته ،بلا رهبانبة مبتدعة ولا تطرف مذموم.

وأقول اليوم :
إن الروح أقوى من الجسد ؛
بدليل موته إذا فارقته ..وبدليل أن الجسد نفسه لا قيمة له حين تفارقه الروح ..وأن الروح حين يهضمها المرء حقها منقادا لشهوات جسده وغرائزها تتمرد على هذا الوضع متأبية منغصة على المرء لذته الجسدية بتعكير صفوه النفسي؛ حتى إنها لتدفعه أحيانا إلى الانتحار -كما مر- ،أما الجسد فإنه حين يهمله المرء ملبيا نداء روحه مشبعا ملذاتها يستسلم خانعا مهيض الجناح، حتى إنه ليرضى أن يكون خادما للروح في تحقيق مطالبها، ناسيا أو متناسيا لذاته وغرائزه .

وهنا السؤال :

كيف يصل المرء بنفسه إلى تلك المرتبة التى يتلذذ فيها بإشباع مطالب الروح مستغنيا بها عن لذائذ الجسد وغرائزه ؟
كيف يكون كأهل الليل الذين قيل فيهم :”إن أهل الليل في ليلهم أشد لذة أو أكثر استمتاعا من أهل اللهو في لهوهم ” أي :أن القائمين بالليل في الخلوة بين يدي الله يستأنسون بربهم فتفيض عليهم من الرحمات اﻹلهية، وتغشاهم من المنح الربانية ما يغمر قلوبهم ويشرح صدورهم فيكونون منها في لذة أشد من لذة أهل الشهوات بشهواتهم :من النساء والمعازف والخمر ..كيف نصل إلى هذه الدرجة؟

والجواب وبالله التوفيق :

لا بد من المعاناة ومكابدة الشهوات ومجاهدتها ..ذلك أن الجسد بشهواته وغرائزه كأنه يعلم ما للروح من قوة وسطوة، وأنها إن أمسكت بزمام المرء فإنه يوشك أن لا يكون له (أي للجسد )أي قوة ولا تأثير ؛ لهذا فإنه لا يألو جهدًا في الحيلولة بين المرء وروحه؛ حتى لا تتمكن الروح من المرء ، مستغلا في ذلك سلطان الشهوات والغرائز وجاذبيتها التى تستعبد النفوس ،كما قال ربنا :《زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة واﻷنعام والحرث》.
فبلوغ هذه الدرجة ليس داني القطوف كما يتوهم بعضنا ، بل دونه مراحل طويلة من الصراع مع غرائز الجسد وشهواته تتطلب نفسًا طويلًا وصبرًا كثيرًا .وفي هذه المرحلة تكون الحرب سجالا بينه وبين الجسد: ينتصر مرة وينهزم أخرى ..وفي النهاية تكون الغلبة لمن تحلى بطول النفس وشدة الصبر.
فلا تحسبن -أخى الحبيب -أنك ستستلذ بطلب العلم أو بالصلاة أو بقراءة القرآن أو بالدعاء والمناجاة، متشاغلا بها عن لذة الجسد =بأول كتاب تقرؤه، ولا بأول ليلة تقومها متهجدا بين يدي الله، ولا بأول ختمة تختمها من القرآن، ولا بأول ساعة تناجى فيها ربك ، بل دون ذلك خرط القتاد فلا بد من أن تستمر وتستمر حتى تبلغ هذه الدرجة التى تستمتع فيها بعبادتك .

ولكن:
هل هذا هو السبيل الوحيد لبلوغ هذه الدرجة ؟
لا ، بل هناك سبيل آخر اختص الله به بعض السعداء مكانه منشور تال بإذن الله عز وجل .
رزقنا الله وإياكم لذة معيته والقرب منه في الدتيا ورؤيته في الآخرة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى