صفاء البحيري تتوكأ على عصا الفلسفة وتهشُّ بها على القصائد

ناصر أبو عون 

رئيس تحرير جريدة عالم الثقافة وباحث مصريّ بالمركز العربيّ للاستشارات والبحوث الإعلاميّة والإنسانيّة

    من فضاء اللوحة، وسماء الفن التشكيلي تحطُّ الشاعرة المصريّة صفاء البحيري بجناحي نورسةٍ على سطح اللغة، وتنقرُ ماء المعنى، وتغني على وقعِ وشوشةِ الموجِ، وتتشكّل كجنيّةِ الشعرِ في آلاف الصورِ بسرعةِ البرق، ويحترقُ قلبها كـ(طائر فينيق) ويعود ليتخلّق من جديدٍ في شموس المعاني المنصهرةِ في سماء الكلمات.

تصطنع صفاء البحيري من قصائدها المكثّفة مراكبَ من سيقان البامبو، لتعبر بها خلجان التيه في بحر الكلمات، وتجدِّف في تؤدة لتصطاد طيور قصائدها التي تغني في أعشاشٍ خرافيةٍ نسجتها قبّرات الماء، وكراكي الغابات البعيدة التي جاءت لتضع بيوضها على سطوح القصائد الملتهبة هروبًا من جحيم الحقيقية.

تنتهج الشاعرة صفاء البحيري طرائق مبتكرة لتكثيف المعاني، فتخبئها في شراشف الحروفِ تارةً، وتضعها بعد مخاض عصيب في (كبسولةِ المفارقة) على قارعة القصيدة أحايين كثيرة، وتوسِّدها في فِرَاش المخاتلةِ تارةً أخرى، وتصنعُ منها موجاتٍ كهروضوئية تعبرُ بها دهاليز الفكر بارقةً وقلَّما من يستطيعُ القبض عليها وهي تمرقُ كالسهامِ أمام مرآة العقل لتخترق جدار الوعي الإنسانيّ، وتلتصقَ في جدارِ الذاكرةِ المثقوبةِ

   ما بين سطرٍ، وفاصلةٍ، وقافيةٍ، شطرٍ تتخلَّقُ المعاني وتتناسل، وتنشطر وتتشظّى في أتون الموسيقى؛ ولكنها ليستْ كموسيقى الآلات الاصطناعيّة ترسمُ (كونشرتو الماء) على جدران القصيدة، وتغني (مواويل الحزن) في مزامير الفواصل المعتّقة في نهر الحقيقة، وتُرَقِّصُ (قوافي الفرح) في محراب السكون على حوافِ المعاني العتيدة.

    تبرع صفاء البحيري في (تضفير) اللغة المصريّة الدراجة مع النصوص الشعريّة التي تقطعها من جبال الفصاحةِ، وتصنع منها (ماء الحياة) الذي لا تقاوم سحره الأرواح العطشى، والنفوس الظمأى في (صحراء الكلمات) فتأخذ قارئها إلى بحر الفلسفةِ ليعود فاقدًا عقله الشعبويّ، وباحثًا عن عقلٍ آخر يستبدل به غفوة السنين التي قضاها في وِديانِ وسهولِ الاستكانةِ، مُنتَفِضًا على كلِّ تراثهِ الغابرِ، وأيامه الخوالي التي قضاها في قوقعةِ الوهْم التي دخلها مختارًا وبإرادته فلمَّا أصاخَ السَّمع لكلماتٍ ليست كالكلمات هزّت أعمدة روحِه الخاويةِ، وأذابتْ قصورَ رملِه في مدن الملحِ فوعى متأخرًا أنه كان غافيًا منذ خروجه البيولوجي إلى رحم الحياةِ الواسعة.

   نعثر في ديوان (بكيتُ حتى ألحدَ البكاء) لصفاء البحيري على الكثير من الومضات الآتية من قَبسِ الفلسفة ترعى في صحراء الكلمات بعصا المعاني وتتوكأ عليها، وتهشّ بها على قطعان البلاغةِ السائبةِ في وداي الحروف المبعثرة فتصطفُ سطورًا تُمَوسِقُ الظلال، وتلضمُ الحكمةَ في عقدٍ من لؤلؤها.

  ولأن الشاعرة مفتتنةٌ بالتشكيل، ورسم اللوحات على قماش روحها بريشةِ الوجع المغموسةِ في مَحْبرةِ القلبِ المُعَنَّى نراها تُسقِطُ العناوين من رؤوس القصائد فتلتحم القصائد وتنتظم في سلكٍ واحد من ديباجٍ حتى يبدو الديوان من الوهلة الأولى وكأنه قصيدة واحدة، أو مطوّلة (فلسفيّة) مشدودة على (وترِ الشِّعر المكدود).

  نجحت صفاء البحيري في رسم المعاني، وكتابة الصور المتناثرة على جدار الألفاظ الململمة من ثرى النفس المطمئنة لتصعد بها إلى علياء الثُّريّا، وتعلِّقها مصابيحِ في زجاجاتٍ من حشاشةِ روحها المدلهمَةِ على أشجارِ الزيزفون في غابات مُورقةٍ، ووارفةٍ بالظلالِ الكثيفةِ تصطفُ أشجارها على حوافِ البحيراتِ المضمخة بالأرجوان، وأزهار قُدَّتْ من قلبها السابحِ في فلكِ الفلسفةِ، والنائمِ في أحضان السكينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى