الأدباتية.. من الفنون المصرية المندثرة

أحمد حسن | لندن

و الأدباتي هو الاسم العامى للأديب وهو فن ظهر فى دلتا مصر لا أحد يعلم متى على وجه التحديد ولكن أغلب ما وردنا عنه من القرن التاسع عشر, والأدباتية هم جماعة من الشعراء الشعبيين الساخرين المرتحلين, قد ينتمون إلى فئة الغجر.  

كانوا عادة ما يرتدون ملابس مرقعة برقع ملونة ولهم طرطور وملون أيضا يضعونه على رؤوسهم ولهم طبلة صغيرة تشبه طبلة المسحراتى للدق عليها لجذب الانتباه مع حركات رؤوسهم يميناً ويساراً,  وكل أدباتى له صبي أو اثنين يعاونونه شعراً ويساعدونه فى سائر ترحالهم سوياً وله حمار يحملون عليه أغراضهم, وكانوا يقصدون المدن فى أوقات الموالد والأعراس والمناسبات لكبار القوم ويطوفون بالقرى فى أوقات الحصاد منشدين أزجالا يحفظونها, كان أغلبها إما قصص عن الأبطال السابقين أو الوهميين من أمثال سيف بن ذى يزل وعنتره والزناتى خليفة وغيرهم أو أزجالاً يرتجلونها ارتجالاً  مدحاً فيمن يقصدون ليحصلوا منه على ما يبغون من أموال أو طعام أو غلال فإذا وجدوا منه غير ما يرجون انهالوا عليه ذماً وهجاءاً ما قد يجعله مثاراً لسخرية قومه, لهذا كانوا يعطوهم إتقاء شر ما ينشدون من هجاءٍ  قد يردده الناس                                                       

(Les ménestrels)  وقد سبقهم فى هذا الفن شعراءُ رُحل أيضاً فى أوروبا فى القرون الوسطى يدعون كانوا فى فرنسا يمارسون الفن نفسه من إلقاء قصص الملاحم و البطولات فى قوالب شعرية على الناس فى المدن و الأسواق .                                                                                                 

و كان هؤلاء الأدباتيه يستهلون أشعارهم اللطيفة بذكر المولى – عز و جل – و الصلاة على نبيه (صلى الله عليه وسلم) ثم ينشدون مدحاً ظريفاً مقفى ويدقون على الطبل ويحركون الطرطور يميناً ويساراً بطريقة  متناغمة تثير الانتباه و الضحك كأن يقول:                                                                        

“أنا الأديب المتصيت…اتجمع بقى ولا تعيط…إلهي عقلك يتخيط… و عليا كمان لضم الإبرة ”  

 و من أقوالهم الشهيرة التى لازالت إلى الآن نعرفها “شرمٌ برمٌ ..حالى تعبان” وتطور الأمر بعد ذلك أن كان يتفق معهم أصحاب المقاهى للمرور عليهم وإلقاء الأزجال لجذب الزبائن مقابل وجبة و مشروبات.                                                                                         ولعل أشهرهم كان عبد الله النديم الذى برع و نبغ فى هذا الفن.                                                

و قد ذكرهم الأستاذ العقاد فى كتابه (رجالُ عرفتهم), وعرض على ذكرهم أيضاً الأستاذ أحمد أمين فى كتابه (قاموس العادات و التقاليد والتعابير المصرية) و فى كتابه (فيض الخاطر) فى جزئه السادس فى فصل يذكر فيه عبد الله النديم و اَثاره وأفضاله وذكر موقف لطيف له معهم فضلت نقله لكم, ذلك أن النديم كان يجلس مع طائفة من أصحابه على مقهى فى أحد فى الموالد فإذا باثنين من هؤلاء الأدباتية يدخلون عليه و يبادره أحدهم بقوله :                                                                                               

 أنعم بقرشك يا جندى    

 ولا إكسنا اومال يا افندى    

 احسن انا و حياتك عندى

 بقالى شهرين طول جعان

  فرد النديم بسرعة بديهة :

 اما الفلوس انا مديشى

 و انت تقولى مامشيشى

 يطلع عليا حشيشى

 اقوم املصلك الودان

و رد الأدباتى ورد النديم وظلا هكذا نحو ساعة حتى غُلب الأدباتى وانصرف مهزوماً, ونقل أحد    الحاضرين ما جرى إلى شاهين باشا, فاستظرفها وخطرت له فكرة طريفة, أن يقيم حفلاً و مأدبةً يدعو فيها كبار الأدباتية فيدخلون فى مساجلة مع النديم فيكون محفلاً ظريفاً, فنصب سرادقاً أمام بيته وأحضر رؤساء هذا الفن و استمرت المساجلة بينهم و بين النديم حتى غلبهم فكانت سبباً فى شهرته, حتى سمع به المنشاوى باشا من أعيان طنطا وأعجب به فدعاه وأقام عنده وكان المنشاوى مقرباً لأحمد عرابى ورفاقه فتأثر بهم النديم وأخذ يذكر بطولاتهم ووطنيتهم فى أزجاله حتى أصبح خطيب الثورة العرابية  فنفوه إلى الاَستانة حتى مات هناك وحيداً فى عام 1896 وحيداً غريباً تاركاً خلفه سيرةً عطره و تاريخا رائعا من الأدب والمقاومة الوطنية ضد المحتل ومخلفاً نواة لتكوين المسرح العربى فيما بعد “رحمه الله”                                                                   

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى