الحَمَّام والغش.. ثورة على المعاجم

رضا راشد | الأزهر الشريف

 

[زفرة مهموم يمتزج فيها الجد بالهزل، وعبوس الهم بابتسامة الغضب ]

إذا كانت اللغة ألفاظا ثابتة ومعاني متجددة،كان بدهيا اشتراكُ المعانى الكثيرة في اللفظ الواحد، يكون صالحا لأن يطلق على أي منها، طالما بقي كلمة مفردة ساكنة في المعجم .فإن بُعِثَ من مرقده ونُشِرَ من مكمنه، حيا في سياق مستعملا في عبارة فقد تمحض لمعنى واحد منها لا يحدده إلا السياق .

ولم يكن استعمال اللفظ في هذه المعاني المتعددة في بيئة زمانية ولا مكانية واحدة، بل كلما امتد باللفظ الزمان أو تغير به المكان نشب به معنى يقترب أو يبتعد عن المعنى الأول، في تطور دلالي يثبت للغة حيويتها ويؤكد مرونتها، بما يجعلها أداة طيعة في يد الجماعة تعبر بها عن أغراضها وفق ما يتيسر لها، وبما يجعلها في الوقت نفسه مرآة صادقة للبيئة المحيطة بها زمانا أو مكانا .

خذ مثلا لفظ ((وكر )) وتأمل تطوره الدلالي: كيف كان؟
وإلام صار ؟
لقد كان يطلق قديما على عش الطيور، فيتسرب له منها معنى السكينة والوداعة والاطمئنان؛ فأصبح الآن مستعملا في معنى كريه جدا، حيث يطلق على المكان الذي يختبئ فيه المجرمون ومدمنو المخدرات وتجارها؛ تخطيطا لجرائمهم بعيدا عن عيون الشرطة ..فيثير في النفس معنى التقزز والاشمئزاز، ويا بعد ما بين السكينة والتقزز .

وفي عصرنا الحاضر اعترى لفظ ((الحَمَّام)) ما اعترى لفظ ((الوكر )) وغيره من تغير في الدلالة واستعماله في معان جديدة ووربما غريبة كل الغرابة عن معانيه القديمة.

فقديما كان يطلق قديما على أماكن اغتسال الناس عامة أو خاصة في البيوت، ثم أصبح يطلق على أماكن قضاء الحاجة : عامة أيضا أم خاصة للناس في بيوتهم .

ولا يخفى قرب المعنى الثاني من الأول بما لا يعد الاستعمال فيه تطورا ذا بال .

لكن التطور الدلالي الحقيقي للفظ ((الحَمّام )) كان على يد طلابنا -حفظهم الله- من خلال معنيين، لكل منهما بيئة زمانية يستعمل فيها تختلف عن البيئة والظروف التى يستعمل فيها المعنى الآخر .

(°) ففي أثناء العام الدراسي: يطلق الحمام على المكان الذي يهرب إليه الطلاب فرارا من حضور الحصص تارة، أو المكان الذي يختبئ فيه الطلاب اختلاء بسجائرهم بعيدا عن عيون الرقباء تارة أخرى .
(°) أما في فترة الامتحانات : فإن الحمام يكتسب معنى جديدا كل الجدة وغريبا كل الغرابة عن المعاني السابقة؛ وكأن اللفظ باكتسابه هذا المعنى الجديد المباين كل المباينة لمعانيه السابقة قد ثار متمردا على أصحاب المعاجم؛ أن قصروه على المعاني الكريهة الدنيئة، فلم يهدأ له بال حتى تحققت مطالبه الثورية على يد طلابنا فاكتسب -بممارستهم- هذا المعنى الكريم …فما هذا المعنى ؟

لقد صار لفظ (الحَمّام)في فترة الامتحانات في المدارس والجامعات يطلق على الأماكن التي يتلقى فيها طلابنا الوحي بالمعلومات الدراسية المطلوب الإجابة بها عن الأسئلة الموجهة لهم في الامتحانات، والتي ظلت (أي المعلومات) مغلقة دونها أبواب عقول الطلاب موصدة منافذها أمامهم ، فلا تفتح لها إلا ساعة الامتحان (في الحَمّام).
إذ ما يكاد الطالب يتلقى ورقة الأسئلة في الامتحان ويروزها بعينيه.. حتى يتلفت يمنة ويسرة متصببا جبينه عرقا يعلوه وجوم، وإطراق، ودهش، وصمت رهيب لا تزول عنه إلا عندما يتفتق ذهنه عن هذه الحيلة الماكرة :《أريد الذهاب للحمام 》
فإذا ما سُمِحَ له بالذهاب للحمام عاد بغير الوجه الذي ذهب به :فَرِحا، منتفشا، نشيطا، قد فُكَّ عقالُ قلمه فراح متدفقا بالإجابة، وإذا بصفحته البيضاء قد سودتها الإجابات النموذجية. وما الفضل في ذلك إلا للحمام الذي فيه تلقى الطالب الوحي بالإجابة، فكان ما كان من تبدل حاله وتحسن إجابته .

أرأيتم كيف نجحت ثورة لفظ (( الحمام )) على أصحاب المعاجم؛ تبرما بالمعانى الكريهة الدنيئة التى ألصقوها به وجعلوه علما عليها =حتى صار مستخدما في هذا المعنى الكريم؟ ليكون في ذلك عبرة لأولي الألباب ولأصحاب النفوس الحرة أن تثور: دفاعا عن كرامتها، وإباء للضيم، وبلوغا للأهداف الكبرى.

فقد كانت من قبل أماكن يتخلص فيها من أوساخ الجسد الظاهرة (بالاغتسال) والباطنة (بقضاء الحاجة: تبزرا وتبولا) أو أماكن للتدخين؛ فما زالت في ثورتها وتمردها وضيقها بهذه المعاني حتى أضحت مكانا تتزود فيها العقول بنور علوم طالما تأبت على دخول هذه العقول من قبل .
كانت من قبلُ مخرجاتٍ لقاذورات وأدران ،فأصبحت من بعدُ مدخلات لأنفس ما يفتخر به المرء ؛ وهو العلم .
وما الفضل في ذلك إلا لأبنائنا الطلاب.. فحق للفظ الحمام أن يتوجه لهم بالشكر،وحق علينا جميعا شكرهم على جهودهم المشكورة في تطوير دلالة اللفظ ((الحمام)) من معان كريهة إلى معان كريمة.
فشكرا لكم معاشر الطلاب
°°°
(ملحق )
بعدما كتبت ما كتبت زاعما أن المعنى الرابع مباين كل المباينة للمعاني الثلاثة الأولى للفظ ((الحمام )) تمثل لي العلامة اللغوي ابن فارس صاحب ( مقاييس اللغة) منتفضا معترضا علي بقوله :
ألست إذا تأملت المعانى الأربعة للفظ وجدتها كلها ترجع إلى أصل واحد هو [مكان قضاء الحاجة] أيا ما كانت تلك الحاجة :تخلصا من أوساخ الجسد الظاهرة بالاغتسال ؛أو الباطنة بالتبول والتبرز ؛أو كانت الحاجة هروبا من الحصص أو خلوة بسيجارة ؛أو كانت تحصيل لعلم تمس حاجة الطلاب إليه في الامتحان ..ويوشك أن تكون الحاجة التى يعد الحمام ظرفا لقضائها تعقب راحة جسدية كما في المعنيين الأولين أو نفسية (بالهروب من الحصة) أو مزاجية (بالتدخين) أو عقلية (بالغش) …وإذن فهي جديرة بأن أجري عليها منهجي بالرجوع بمعاني المادة اللغوية إلى أصل واحد .
قلت :
صدقت يابن فارس ..وإذن: فحق عليك من الآن أن تفتح في مقاييسك صفحة جديدة لتثبت فيها هذه المعاني في معجمك ..وبذلك تكون ثورة لفظ ((الحمام ))عليكم -معاشرَ أصحاب المعاجم- قد آتت أكلها وحققت ثمارها .
قال :
سيحدث إن شاء الله في الطبعات اللاحقة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى