التــــابـــو

 د. خضر محجز | غزة – فلسطين

كتبت هذا الموضوع بعد تأملي ملياً في أسباب الخوف العميق الذي يكنه البشر ـ أو من أعرفهم منهم ـ للحية، خوف يمكن القول إنه أكبر من قدرة هذه الزاحفة على الأذى، حتى إن الناس ليخافون الحية أكثر من الأسد أو أي حيوان مفترس آخر.

(الحية) فحسب!. أتلاحظون ذلك؟. (الحية) بهذا الاسم تماماً، أما (الثعبان) فلا يملك نفس قوة الاسم، ولا يحقق نفس الدرجة من الخوف، مع أنه نفسه هو الحية!. ربما يمكن القول إن علاقة الخوف هنا قد بلغت درجة أن ارتبطت باسم الحية، أكثر من ارتباطها بمسماها الواقعي. الخوف هنا ناتج تجريدي في قسم كبير منه. أي أن هنالك علاقة ما بين النطق باسم الحية وحضور الخوف من تحقق الضرر.

يغلب على الظن أن الحية هنا تمثل طوطماً (Totem)، نخشاه ونحرص على إرضائه، أو قتله حين يتعذر الإرضاء. ودعونا نتذكر هنا الأصل اللغوي الواحد، الذي يجمع ما بين الجني والحية. يقول صاحب مختار الصحاح، في مادة: ج ن ن: “والجان أبو الجن. والجان أيضاً: حية بيضاء”. ثم دعونا نتذكر الحديث الذي رواه مسلم، عن الصحابي الذي عاد إلى بيته، فوجد حية على فراشه، فلما حاول قتلها، قتلته. فنهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل الحيات، قبل إنذارها ثلاثاً، معللاً ذلك بأنها قد تكون من الجن. (انظر الحديث رقم 2236)

وإذا كانت الحية طوطماً، فإن اسمها قد تحول إلى تابو، نخشى التلفظ به في أعماقنا، خوفاً من حضور أثره. ولن يقلل من شأن هذا الكلام أن يقال إن هذا مجرد اعتقاد شعبي، فما هو شعبي اليوم، يعني ما هو عام وراسخ، ومنحدر من أصول بعيدة، أثبت علم النفس وجوده، ولم يعد باستطاعة الثقافة إنكاره.

فما هو التابو؟.

يعرب الدكتور كمال بشر مصطلح تابو (taboo) بـ(اللامساس)، فيما يميل الأكثرون إلى نقل الكلمة كما هي في لغتها الأصلية كما هي (تابو).

كلمة تابو ذات أصل پولينيزي ـ مجموعة عرقية من سكان أستراليا الأصليين ـ تُطلق على كل ما هو مقدس أو ملعون، ويحرم لمسه أو الاقتراب منه، لأسباب خفية، لا تتعلق عادة بالدين ولا بمصالح أصحاب الامتيازات، فالأسباب خفية وشديدة العمق، وتنحدر في مجموعها من غريزة الخوف، التي نعلم أنها أكثر الغرائز البشرية أصالة وبدائية: الخوف من القوى الجِنِّيَّة.

وضد تابو ـ في الپولينيزية أيضاً ـ هو (نوا): أي الاعتيادي، أو العمومي.

ومن هنا يتضح أن التابو تصور خاص، عن مؤثر خاص، يختلف عن الواقع اليومي المفهوم في الغالب. فرغم أن قانون الحظر التابوي غير مكتوب، إلا أن الخضوع له منغرس عميقاً في لاشعور الخاضعين. نعرف هذا من ملاحظتنا أن إيمانهم بحق التابو في فرض محظوراته الخاصة، إنما يحدث بصورة بديهية، ودون أن يعلموا لماذا، بل حتى دون أن يخطر على بال هؤلاء الخاضعين أن يتساءلوا: لماذا.

ولا يقتصر التابو على كونه شخصاً أو جماداً أو نباتاً أو حيواناً، بل إن هناك تابو الكلمات. إذ يمكن لكلمة ما أن تتحول إلى تابو، فيحظر التلفظ بها، كما يحدث معنا في الحياة اليومية إلى الآن، حين نخشى التلفظ بكلمة (جني) أو (الجن)، فنقول: دستور، أو حتى حين يتطرق الحديث إلى مرض خطير كالسرطان، فنتهيب من التلفظ باسمه، ونستبدله بقولنا: الملعون، أو: اللي ما يتسمى…!. وإنما يحدث ذلك معنا لما نحس به إحساساً غامضاً، من قدرة بعض الأسماء على الحضور والتحقق. ودعونا هنا نتذكر أن العديد من المتدينين اليهود يطلبون العون من قوة الاسم، فيقولون: (بعزرات هشّيم): أي بقوة الاسم. والاسم هنا هو الله.

في تابو الكلمات يحظر النطق، وفي تابو الأشخاص والأشياء يحظر اللمس ـ دعونا نعترف بأن النطق لمس من نوع خاص ـ وما ذاك إلا لما يؤمن به الخاضعون من أن التابو يمكن تشبيهه بجسم مشحون بالكهرباء، له قدرة رهيبة تنتقل باللمس، وتتمخض عن ويلات.

وقد أصبحت كلمة تابو علماً على المنتِج والناتج في آن. فكما أن منتِج التأثير (شجرة، كلمة، كاهن، ساحر…) هو بذاته تابو؛ فإن مفعول التأثير ـ لعنة أو منع ـ هو تابو كذلك.

وإن كون التابو مقدساً أو ملعوناً يحمل في طياته أمرين متناقضين: الإجلال والخوف. ولأنه كذلك فهو ينتقم لنفسه بنفسه، أو هكذا يظن الخاضعون له. وفي حالات نادرة يقوم المجتمع بإيقاع العقوبة على منتهك الحظر، استباقاً لوقوع عقاب عام، ودرءاً له. وهذا ما دعا بعض الباحثين إلى اعتبار التابو نوعاً من المحرم الديني أو الأخلاقي. ورغم أن فرويد يميل إلى هذا الرأي، إلا أنني لا أرجحه، بناء على فهمي أن محرمات الدين هي في الأصل ناتجة عن وجود نص مكتوب، بخلاف التابو الذي لا يُعرف له أصل.

يمكن القول ـ نتيجة لكل ما سبق ـ إن التابو هو سلسلة تقييدات غير معللة، يتم الخضوع لها بصورة بديهية خوفاً من وقوع القصاص التلقائي، على أبشع صورة، حتى لو كان الانتهاك غير متعمد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى