تحليل بنيوي/ جمالي لقصيدة “تغريبة الوحي”  للشاعر محمد العموش (1- 2)

 

ثناء حاج صالح| ألمانيا

” تغريبة الوحي” و “تمتماتٌ واضحةٌ لرجلٍ غامضٍ جداً”

بإيحاء من السمات والخصائص الفنية والأدبية لهذه القصيدة سنعمَد إلى فكّ شيفرات روابطها البنيوية المتسلسة عمقاً، بدءاً من البنية السطحية للنص؛ وهي التي تتمثل بالمستويات الصوتية والصرفية والنحوية والتراكيبية..إلخ وصولاً إلى البنية العميقة متمثلة بالمستوى الدلالي، والذي سيتقاطع فيه التحليل البنيوي في بعض مواضعه مع التحليل الجمالي؛  وما يتيح لنا إجراء هذا التقاطع هو أننا في الحالتين (بنيوياً وجماليَّا) مضطرون للتعامل مع النص كوحدة مغلقة، لذا سنحاول ما أمكننا ذلك، أن نضع كل ما هو خارج النص جانباً (كالحالة النفسية للشاعر والبيئة الاجتماعية المحيطة به أو الظرف التاريخي الذي كُتِبَت فيه القصيدة ) وليس هذا بالأمر السهل دائما .

بنيوياً : يقوم هذا النص في بنيته الكليَّة على فكرة التلازم الوجودي بين الشاعر وشعره، وهو يحافظ على وحدة موضوعه على طول السياق العام  للقصيدة ، ويتضمن أربعة أنساق تؤكد وحدته الموضوعية من أوجه متعددة .

 النَسَق الأول : نَسق التحوَّلات التي يمر بها الكائن المزدوج (الشاعر وشعره)  منذ الولادة وحتى الموت. ويبدأ هذا النسَق مع المجيء للحياة  في مطلع القصيدة (أنا والشّعرُ..أتينا للحياة )  وينتهي مع الموت  بآخر أبياتها (على موتٍ بلا وطنٍ قَلِقْنَا ) إلا أنه يتوقف قبل ذلك مؤقتا عند البيت الخامس في نهاية صغرى لهما، عندما يحترقان معا ويتحوَّلان إلى رماد .

النسق الثاني : نسق التحوُّلات عبر الإسقاطات المتداخِلة (للشاعر/ النبي وشعره / الوحي ) تناصَاً مع الرموز في قصة موسى -عليه السلام- ويشمل الأبيات (السادس والسابع والثامن والثاني عشر ).

النسق الثالث: نسق تحوُّلات علاقة الكائن المزدوج ( الشاعر وشعره ) مع الحياة .

النسق الرابع : نسق المرأة/ النبوءة والتحوُّلات المرافقة لعتق الكائن المزدوج .وتشمل البيتين الثاث عشر والرابع عشر.

وَضَعَ الشاعرُ لهذه القصيدة عنوانين؛ العنوان الأول (تغريبة الوحي) تلبَسته القصيدة ببنيتها الفنية ، ليرسم لها سياق وحدتها العضوية والموضوعية، كما سنرى.

الاسم (تغريبة) هواسم المَرَّة من الفعل (غَرَّبَ: يُغرِّب تغريبا)، وتأتي بمعناها الاصطلاحي  لتدلَّ على الإمعان في السفر والارتحال ، والذي يكون باتجاه الغرب أو المغرب باعتبار الفعل (غرَّب) فعلا لازماً.

غَرَّب : أي اتجه باتجاه الغرب. وقياسا ً إلى التغريبة القديمة ( تغريبة بني هلال ) التي انطلقت من نجد وانتهت في المغرب العربي. وهي إحدى التغريبتين اللتين يستدعيهما عنوان هذه القصيدة إلى الذهن. وثانيتهما هي التغريبة الحديثة للشعوب العربية التي هُجِّرت عُنوةً إلى شتَّى بقاع الأرض( كالتغريبة الفلسطينية مثلا).

 أما دلالة الفعل المتعدّي (غَرَّب ) فتأتي مختلفة عن دلالة نظيره اللازم؛ غرَّبَه : أي جعله غريبا ودفَعَه إلى الغربة. وباعتماد هذا الفعل تكتسب لفظة (التغريبة) دلالاتِ معاناة التغرُّب والاغتراب والغربة المرتبطة بالنفي والهجرة والشتات. وهي الدلالات التي سنختارها لشرح معنى العنوان (تغريبة الوحي) كونها تبدو أقرب إلى وصف معاناة الارتحال المتكرر في التحوُّلات المختلفة والمتوالية للشاعر مع الشعر أو ( الوحي الشعري ) ، وخاصة في النسق الثاني ، حيث تتماهي فكرة نبوة الشاعر/ موسى مع فكرة الوحي/ الشعر. وهي الفكرة التي منحت سياق موضوع القصيدة قدرته على التنامي لتتنامى معه وبموازاته الأحداث الدراماتيكية الملحمية التي عاناها الوحي الشعري المُغترِب بدءا من الولادة وحتى الموت بلا وطن.

أما العنوان الثاني  “تمتماتٌ واضحةٌ لرجلٍ غامضٍ جداً” فهو أبعد عن روح النص بنيوياً وأقرب إليه جمالياً . كونه ينثر فوق النص غبارا سحرياً ويقدِّمه بوصفه (تمتمات ) والتمتمات : كلمات منطوقة غير واضحة وغير قابلة للفهم كما هي في المعنى المعجمي، ومع ذلك فإن الشاعر يتَعَمَّد وصفها بالوضوح.

لكن حتى مع جمع النقيضين ( تمتمات واضحة ) فسوف تبقى غير واضحة على الإطلاق لإن الناطق بها “رجل غامض جدا “. إذن فهنا تمويه ولعب لغوي على الدلالات المعنوية للألفاظ المتضادة يراد منه تشكيل صورة حسية تمثيلية  لحالة اللاوضوح أو (الحيرة) المعنوية  تعكس عدم الرغبة بقول ما يراد قوله.

ضمير المتكلم في القصيدة يأخذ صيغة المفرد ( أنا ، والتاء المتحركة، وياء المتكلم) في ستّ كلمات فقط  في قوله ( أنا ، ولدتُ قصيدتي ، وولدتً منها، جبتي ، أنا، عمري) في حين يأخذ صيغة الجمع ( نا الفاعلين ونا المفعولين ) متصلا بالفعل الماضي أو بغيره  ثلاثاً وثلاثين مرة ( سرقنا ، أتينا ، نطقنا ، عققنا، خبَّأنا ، تلمَّظنا، فسيلتنا ، رؤانا ،  كنا، احترقنا ، صرنا ، تماهينا، افترقنا ،أصغينا، جاءنا، انفلقنا ، لأنَّا ، صعقنا، يذقنا ، برقنا ، شاغبنا ، شاغبتنا، أفقنا ،نزاعنا، اختلفنا ، اتفقنا ، رُزِقنا، عتقنا ، لأنا ، قلقنا) فضلا عن تكرار نون المضارعة في خمسة أفعال استوجبت ضمير المتكلم المستتر نحن (نفتِّش، سنقلق ، لنصرخ ، نعلم ، نسأل ). وهذه المقارنة تكشف لنا مدى إلحاح الشاعر على تقديم فكرة التلازم المزدوج بينه وبين الشعر.

كلمات القوافي في القصيدة جميعاَ انتهت بنا الفاعلين. مما جعل القوافي على المستوى اللفظي والصرفي ثابتة الدلالة ومتوقعة من حيث الشكل؛ (فعل ماضٍ أو مضارع + نا)، غير أن المفارقات كانت حاضرة دائما وبقوة في المستوى الأعمق وهو مستوى الدلالة المعنوية لكل بيت من أبيات القصيدة.    

بدأ الشاعربتأريخ زمن تغريبة الوحي (الشعري) منذ لحظة ولادته هو كشاعر من القصيدة التي وَلَدَها هو؛ فهو الوالد والمولود في الوقت نفسه، وهي كذلك الوالدة والمولودة في آنٍ معاً . وقد أرَّخَ لهذه العلاقة (الديالكتيكية) للتَّشكل والانبثاق المتبادل والمزدوج إلى الوجود، في ممارسة الفعل الإبداعي وتأثيره الرجعي في صدرَي أول بيتين من القصيدة؛ (أنا والشّعرُ منْ عُمري سُرقنا) ( ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها).

أنا والشّعرُ منْ عُمري سُرقنا

أتينا للحياةِ فلم تطقْنا

ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها

ومِنْ جهتينِ لا جهةٍ عُقِقْنا

تزدوج شخصية الشاعر باقترانها مع الشعر، الذي يظهر لنا نِدَّاً للشاعر من حيث استقلالية الوجود، ومنفصلا عنه ككائن  قائم بذاته، فهما كائنان اثنان ( أنا والشعر )، وعندما يأتيان للحياة يقول الشاعر ( أتينا ) بصيغة الجمع. ولو كان الشاعر قد جاء إلى الحياة وحده ثم أصبح بعد ذلك يكتب الشعر ، لما تأنسن الشعر ولما تشخصن، ولما ظهر كائناً مستقلَّا فاعلاً يأتي إلى الحياة  فلا تطيقه، كحالها مع رفيقه الشاعرالذي رافقه في المجيء، وفي تلقِّي رد الفعل نفسه من الحياة . أما وقد أتيا اثنين، وكل منهما قام بفعل المجيء منطلقا من إرادته الخاصة ومعتمدا على نفسه، فهذا يؤنسن الشعرويجعله فاعلا واعياً لا مفعولا به. ويمنحه حق مقاسمة صاحبه الخيبة التي تسببت لهما بها الحياة معا عندما لم تطقهما ( أتينا إلى الحياة فلم تطقنا). لكن هذا لا يمنع أيضا أنهما كلاهما سُرِقا من عمر واحد (مفرد ) هو عمرالشاعر. فتعيدنا دلالة نسبة ياء المتكلِم في لفظة ( عمري) إلى ضرورة فهم هيمنة الشاعر على شعره وكونه في النهاية هو المتضررمن تلك السرقة.  

سرقة الشاعر من عمره (عملية خطف في حالة الإنسان)  تحوِّله إلى شيء قابل للنهب والسرقة ، وتجعله يبدو  ضحية سلبية غافلا عن مجرى مصيره، غير أن إشراك الشعر معه في مواجهة المصير ذاته يوضِّح لنا سبب تلك السرقة، ونفهم أنهما مقصودان معاً، ولو لم يكونا معاً لما سُرِقَ أحدهما.

ولدْتُ قصيدتي ، وَوُلدْتُ منها

ومِنْ جهتينِ لا جهةٍ عُقِقْنا

جهة الشاعر وجهة القصيدة جهتان للكائن المزدوج تتلاقيان وتلتحمان في المنتصف ، ولذا فإن العقوق الذي يأتي من كلتي الجهتين يبدو مطبقا عليهما من كل الجهات الممكنة. مفاجأة التركيب اللغوي في الصدر تعتمد على تقديم الصورة الصوتية نفسها للفعل ( ولدتً) والتي تتكرر مرتين إحداهما ببناء الفعل للمعلوم والأخرى ببنائه للمجهول.مع فارق بسيط يتمثل في ضم الواو في إحداهما.

 على الرغم من علاقة التضاد الأصلية بين الفاعل الإيجابي للفعل المبني للمعلوم، ونائب الفاعل السلبي (المشتق أصلا من المفعول به)  للفعل المبني للمجهول ، فقد اتفق للشاعر أن يلد ويولد عبر صيغة صوتية واحدة للفعل الماضي ( ولدتُ) ، وهو ما يعكس ويمثِّل هذه العلاقة الوجودية الجدلية العجيبة بينه وبين القصيدة.

 ولأن العلاقة العضوية والبيولوجية بين الشاعر وقصيدته علاقة تداخل وجودي غير قابل للتأصيل زمنياً بهدف تحديد صلة القربى بينهما، أوغير قابل لتحديد أسبقية الوجود لأيٍّ منهما ، فستبقى معضلة الحكم على نوع الصلة بينهما مشكلة غير قابلة للحل.

 بيد أن احتمالا وحيدا واستثنائيا يقدمه لنا الشاعر عبر هذا البيت يعيننا على تشكيل تصوُّر تجسيمي/ تشكيلي ما لهما ، هو هذا العقوق الذي واجهاه من جهتيهما. ما يعني أن العقوق عقوقان ، فثمة عقوق للشاعر ، وثمة عقوق للقصيدة . وعلى الرغم من أن عقوق الشاعر مختلف عن عقوق القصيدة إلا أن ضمير (نا المفعولين) في الفعل (عُققنا ) يوحِد المعاناة بينهما؛ ويؤكِد أن عقوق الشاعر وجه آخر لعقوق القصيدة ، والعكس صحيح.

وخبّأنا فسيلتَنا شتاءً

تَلَمَظّنا الرّبيعَ ولم يذقنا

بعد الولادة ومعاناة العقوق من الجهتين، يخبِّئان ( الشاعر والشعر ) فَسِيلَتَهما المشتركة التي هي قطعة من جسديهما المتحدين، لتكون امتدادا حيويا لهما إذا زُرِعت ونَمَت في الزمن القادم . فهما يخبئان هذه الفَسيلة خوفا من برد الشتاء القارس الذي يهدِّد بإتلافها ، ويتلمَّظان إذ يخبئانها الربيعَ اشتهاءً له على أمل الوصول إليه والحياة فيه ، ثم تكون النتيجة أن يأتي الربيع فلا يجدهما ولا يكون له أن يتذوقهما. لأن الفسيلة ببساطة قد تَلِفَتْ في الشتاء وانتهى أمرها.

لو أسند الشاعر فعل الذوق لهما ( الشاعر والشعر ) لما أوحى بموت الفسيلة وتلفها في الشتاء، وذلك لأن من يتلمظ ويتوقع منه أن يذوق، يفترض به أن يكون حيا ، ليتمكن من الذوق ، فكيف سيحدث ذلك والفسيلة التي كان يُعقد عليها الأمل بالبقاء حية حتى الربيع قد تلفت في الشتاء ؟

وها نحن نراقب تحوُّل ( الشاعر والشعر ) من مرحلة الولادة المتبادلة، إلى مرحلة الفسيلة التي تلفت في الشتاء. وبما أن الفسيلة نفسها قد اقتطعَت من جسديهما فسنراقب ما حدث لجسديهما المتصلين ( الشجرة)  التي اقتطعَت منهما الفسيلة.  

وكنا في الهوى حطباً وزيتاً

وكان الوجدُ  جمراً فاحترقنا

لقد تحوَّلا في الهوى إلى وَقود ( حطب وزيت ) تضرم به نار الهوى التي يزيدها الوجد اضطراما لتودي بهما إلى الاحتراق ،هنا نلاحظ التوازي بين إيحاءات المستوى الدلالي للمفردات المترابطة منطقيا بعلاقات السبب والنتيجة  والتشكيل الجمالي في رسم الصورة الشعرية؛ فالحطب المشبعة خلاياه بالزيت هو جسد الشجرة اليابسة القابلة للحرق بهدف التدفئة، فإذا اجتمع الحطب/ الشاعر  والزيت/ الشعر  مع الوجد المتقد كاتقاد الجمرفلا بد إذن من احتراقهما معا ، فيحترق الشاعر ويحترق الشعر ( فاحترقنا )   ويمران بعدها بتحوُّل آخر هو التحوُذل إلى رماد. ولا بد أن نلاحظ السلسلة الكاملة للمفردات المترابطة منطقيا والتي شكَّلت هذا المشهد الشعري المهيب والضارب جذوره في البنية العميقة للنص على المستوى الدلالي وعلى المستوى السطحي أواللفظي ( فسيلة تالفة – حطب وزيت – جمر الوجد – احتراق – رماد )

نَعم ، صرنا رماداً غيرَ أنّا

تماهينا ، لذلك ما افترقنا

يتماهى الشاعر مع الشعر  في مرحلة الرماد وتختلط ذراتهما الناعمة الدقيقة معا إلى درجة أنه لم يعد من الممكن الفصل بينهما ، لذلك ولأنه يصعب فصل رماد عن رماد، فقد أصبح مكتوبا لهما أن لا يفترقا  بعد ذلك أبدا.

وهنا ينهي الشاعر الأحداث الدرامية المتنامية لنسقه الأول ، ويبدأ من جديد في نسج أحداث النسق الثاني والتي تبدو وكأنها تحدث في كون آخر موازٍ لهذا الكون ، أو في بُعد زمني آخر ذي إحداثيات جديدة . لأنه سيقدم لنا ذينك الكائنين ( الشاعر والشعر ) باسم واحد وليس باسمين فهما الآن ( البحر)  ..يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى