أيهم محمود العبّاد طائر عراقيّ يحلّق في سماء يخنقها الدخان

عبد الرزّاق الربيعي | شاعر وصحافي وناقد ومسرحي 

في مجموعته الجديدة ( صورة تذكاريّة في الجنّة)

 


بعد أن قدّم رقصته الأولى التي لم تأت( على استحياء)، لأن الشاعر أيهم محمود العبّاد أدّاها مثل طائر عراقيّ في سماء يخنقها الدخان، وآهات الأرواح الصاعدة دون سلالم إلى منفاها الأخير، ومن خلال تلك ( الرقصة) بشّر العبّاد، بصوت شعري معجون بتراب الحياة اليومية العراقية، وأوجاعها، وعذاباتها، مديرا ظهره للجميع غير منتظر سماع قرع طبول القبيلة، محتفلة بولادة شاعر، ولاثناء النقّاد، بل راح يمشي في الأسواق كأي عراقي ساحبا خلفه خيباته التاريخية، مواصلا تحليقاته، مطلقا صرخة جريحة ( قبل أن ينقرض العالم)، رقصته الزوربويّةالثانية، واليوم يفرش أحزانه أمام العالم، ويقف على امتداد قامة مأساة بلد آيل للقيامة، كي يرسم ( صورة تذكاريّة في الجنّة) بفرشاة تسبح في فضاءات حرة، وبألوان الحزن، وتنطلق في مساحات مفتوحة للتأويل، وعلى وجهه إبتسامة مريرة، معتمدا حسّ المفارقة، والسخرية، ليختزل الكثير من المعاني، التي تنساب ببساطة آسرة، بلا تكلّف، ولا خوف، ولا تبجيل، فلا يتردّد في هجاء الحاضر، وهتك صفحات الأمس، ورموزه، من جبلة بن الايهم الجديد، منطلقا من مفارقة الاسم في تأسيسها، والإنسلاخ منها، فابن الشاعر يصحو على أكذوبة بائدة ليضع بعبث طفولي تيجان الملوك تحت حذائه، وبذلك يتخذ” أيهم العباد”من الهامش موطنا، ومثوى، فيسير لصقه، مستسلما لغوايته، مستمدا منه وهجه، وعذوبته، ويستمر في فتوحاته مواصلا رحلته التي يبدأها من الإهداء، وانخيدوانا” كاهنة الشعر الأولى في العالم” مرورا بخرافة آخر ملوك الغساسنة في الشام، إلى عروة بن الورد، وقيس بن الملوح والمسيح في عشائه الأخير إلى سائق التكتك الذي” يعمل مجانا بين بغداد والجنة” والمفارقة المريرة في التسابق مع الذباب على الحاوية، وابن كثير، وكولومبوس، وجورج فلويد، وطوابق الشهداء التي تدعى “المطعم التركي”، بشهداء تشرينه، وطينه العراقي -مرضه النادر- و “حزنه النبوي الذي يكفي ليوم القيامة”،ودخانياته الشعرية، محذّرا من يقترب منها بضرورة اصطحاب قناعه المطاطي، وبدلة مضادة للرصاص، ، ومن كلّ تلك الشظايا يصيغ” أيهم العبّاد” مدوّنته المكتوبة ببلاغة تنتمي للواقع
أكثر مما تنتمي للذاكرة الشعرية
المؤثّثة بصور مستلّة من حركة الحياة، ونبضها أكثر من صفحات الكتب.
وفيها أوجاع الإنسان البسيط
أكثر من أوجاع إنسان نيتشة المحمل بأسئلةالكون، والوجود
وكل ذلك يأتي بصيغ مبتكرة، مستلة من معان” مطروحة” في الشارع العراقي، وكثافة في التعبير، وجماليات السرد، واقتصاد في الألفاظ، معلنا إنحيازه الصارخ للحب، والإنسان، وعذاباته.
قصائد مختارة:

     انحيازاً للحبّ وحده
(قصائد XL)

مرضٌ نادر

قبل أن أجلسَ أمام طبيب الأنف والأذن والحنجرة ، كنتُ أستحضرُ كلّ ما حفظتُ من آيات الصبر على البلاء .
قال الطبيب : لقد أجهدتَ أذنَيكَ في سماع الأناشيد ، وهذا ما سيُكلفكَ كثيراً من الوقت والمال في رحلة العلاج. تنهدتُ طويلاً قبل أن أجيبَ بوعي شاعري نادر :
يُمكنني أن أتخلّى عن أربع حواسّ دفعةً واحدة ، على أن أحتفظَ بسمعيَ إلى الأبد . أريدُ أن أواظبَ على سماع حبيبتي حين تقولُ : “صباحُ الخير يا شاعري الأجمل”،
حينها تكتملُ حواسّي الخمسُ جميعاً .

حتى وإن رحَلْت ..

لا ، لستِ وحيدةً في منامكِ ، فحين تنامين تحضرُ روحي على هيئة طفل بثياب بيض لا تسترُ خلفها ذنباً أو خطيئة. تُدثرُكِ روحي بكثير من الطمأنينة ، وتقرأُ بين عينيكِ أدعيةً رددتُها لكِ قبل سنوات عشرْ ، وحين تُشرقُ ابتسامةٌ بين خدّيكِ ، ترفعُ روحي إلى سموّكِ طلبَ المغفرة عن كلّ جريرة أغضبتكِ ، وعن كلّ ذنب أصابَ رأسكِ بالشيب  والصداع ، وحين تضمّينَ أصابعي بيديكِ الملائكيتَين ، مثلما كنتِ تفعلينَ كلّ مرّة ، تسقطُ دمعةٌ نظيفةٌ من روحي ، وتنسحبُ وراء الستارة .
لا ، لستِ وحدكِ أبداً حين تُصبحين وحين تُمسين ، روحي التي كتبَ اللهُ عليها حبكِ السرمدي ، تحومُ حولكِ مع الملائكة ، فيما ينامُ جسدي بعيداً عنكِ ، في مقبرة لن تزوريها أبداً .

توضيحٌ لا أكثر

على قلبكِ السلام .
لم أكتبْ لكِ ما يكفي بعد ، وكأن كلّ ما كتبتُ لا يقول ما في داخلي من تفاصيل صغيرة لا تتسعُ للكتابة .
قررتُ اليوم ، أن أكتبَ لكِ بطريقة مختلفة ، طريقة فوضوية لا تُشبه غيري . سأكتبُ لكِ عن أبسط الأشياء التي مرّت بنا ولم ننتبه لها ، كلّ جزء ضئيل ساهمَ في تكويننا ، لذا نحن مدينون جداً لما حولنا من هواء وماء ونار وتراب. هل قرأتُ لكِ يوماً عن هذه العناصر الأربعة ؟ إنها منشأ الكون ومصدر كينونته بحسب معتقدات الأقدمين . لستُ فيلسوفاً ، ذلك شرفٌ لن أناله ، لكن حبكِ ألهمني حبّ الحكمة ، فكنتُ خير عاشق تتناسخُ روحهُ مع المعشوق .
حسناً ، دعيني أخبركِ أني لا أشبعُ من حديثي إليكِ ، ولا أكتفي من تدوين الأسئلة التي تفضي إليكِ ، لأنكِ الإجابة الثابتة بين حيرة الأسئلة .
أما الآن ، فكل ما يُمكنني فعله ، أن أقولَ بوضوح وهدوء “أحبكِ” حتى لا تغار منا الكائنات .
والسلام .

خبزٌ من الكلمات

أعرفُ بأنكِ ستفتحينَ عيناً واحدة ، تنقرينَ على شاشة الهاتف ،
لكن .. لا رسالة صباحية حتى الآن !
ستقولينَ متذمّرة : أيها المهمل ، يا لك من قاسي القلب !
بعد غفوة أو غفوتين ، بعد حلم يقظة أو يقين ، تفتحينَ عينيكِ ، كليهما ، بأكثر ما يُمكّنكِ من رؤية الشاشة بوضوح .
ها هي أحرفي تغادرني وتستقرُ في خانة رسائلكِ / رسائِلنا / متحفنا اللوڤري الذي لا يدخلهُ سائح .
ثم تنفرجُ ابتسامةٌ واسعةٌ تتبعها : الله ، وربما تختمينها بطبع شفتيكِ على الهاتف ، قبل أن تدسّيه تحت الوسادة ، ثم تواصلينَ أحلامكِ إلى آخر النهار .

ونامي ، فإن لم تشتهِ النوم فاسهري^

وجهُكِ الذي يُضيءُ عتمتي
يُشبهُ إلى حد كبير
مطلعَ قصيدة جاهليّة .
وحين أقرأُ بيتاً لعروة بن الورد ،
الذي تُحبّينَ شَهامَته ،
أتخيّلُ أنني أتلمّسُ خطوطَ يديكِ
كأنني أتلمّسُ أطلالَ قومي الراحلين .
أتخيّلُ أنني فارسٌ من الصعاليك ،
لا مجدَ لي إلا في البراري ،
لا وطنَ لي غير القافلة ،
وأنتِ مُخبّأةٌ في سِرّي
كثأر قديم
لا يُريحُ
ولا يستريح

_________
^شطر من بيت شعر لعروة بن الورد .

دائماً

حين ينتهي يومي بسلام ، ثم أغلقُ عينَيَّ على صورة وجهكِ وأنامُ ، يملؤني شعورٌ بالطمأنينة واليقين بأنني أساهمُ في بثّ الأمل في هذا العالم الميّت ، بطريقة ما . لطالما كان حبّكِ دافعي في صناعة فكرة ما وترجمتها إلى واقع حقيقي يعيشه الناس. حبّكِ سلامٌ لا نهائي وقدرٌ يُنقذني من محنة اليأس ، ويأخذ بيدي نحو مساحة شاسعة من العطاء. أشعرُ أحياناً أن الكلامَ ينسابُ وحده ، أنني أكتبُ لكِ بلا تفكير مسبق ، وبلا خُطّة مدروسة ، أشعرُ أنني لا أريد الانتهاء مما أكتبُ ، كما لو كانت آخر رسالة أبعثها إليكِ في حياتي .
أحبكِ ، يا هذه التي في خافقي .
دمتِ لي كلّ شيء حيّ وآسِر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى