قراءة نقدية في ديوان ( على ضفاف الأيام ) للأديبة نائلة أبو طاحون

فداء أبو طاحون | فلسطين

على ضفاف أيامها، ألقت الشاعرة المتألقة نائلة أبو طاحون بذور تفاعلها الوجداني مع تجاربها الحياتية، وروتها بعاطفة الأديب الملهَم، وعزفت بقيثارة الشعر الشجية على تلك الضفاف، فكان موعد الحصاد سخيا لنقطف ثمرات ذلك الحصاد من خلال ديوانها الشعري الأول المطبوع (على ضفاف الأيام) الصادر عن مكتبة كل شي في حيفا

فالقارئ في هذا الديوان، وإن يبدأ رحلته بقصيدة فياضة بالألم والحزن والتوجع من خلال قصيدة – أماه – التي برعت فيها شاعرتنا في فرض الخطاب التواصلي بين الشاعر والقارئ، من خلال التعبير عن العاطفة والدّقة في اختيار الألفاظ والصور الشعرية والبلاغية والدلالات اللفظية، فالشاعر الحق يدرك أبعاد الكلمة وسحرها، وهو إذ يتخيّرها يسكب عليها من وجدانه وعاطفته وذاته، ما يولّد فيها طاقة جديدة، فيها شيء من إحساسه ونبضه، فتصل إلى القارئ تضج بالحياة، وكأنها تتحدّث بلسانه وفكره.. وهذا ما كان حاضرا في القصيدة التي استهلت بها الشاعرة ديوانها.. فما أن يبدأ القارئ بها حتى لا يملك في نفسه إلا متابعة الرحلة في حنايا هذا الديوان وسبر غوره واكتشاف درره.

فالقصيدة يعتصرها الألم والحرقة والتوجّع، ذلك الألم الممزوج بأصدق عاطفة قد يختبرها الإنسان في حياته. فقدان الأم والحنين إليها، فنجد القاريء يستشعر تلك العاطفة النقية الصادقة الفيّاضة بالشوق والحنين والتأوّه والحزن ، فالشاعرة شيـّدت مدينة للحزن ترقد وتصحو في أرجائها مذ فارقت أمها الحياة، ونقشت في رقّ الزمان وجعها بيراع الحزن .. يا لجمال الصورة والتعبير :

ونقشت في رقّ الزمان توجعي.

بيراع حزني والدموع زنادي

شيّدت للحزن الجليل مدينة

واقمت فيها صحوتي ورقادي

ومكثت في كهف المواجع علّني

أغفو لأصحو والسماء تنادي

فأراك من حور الجنان حبيبتي

أسعى لقربك والسرور جيادي

ثم يصل الحزن مداه في صورة تعبيرية رائعة:

ها قد رحلتِ وبتّ نهبا للدنا

ونكأتِ جرحا لم يزل بضماد

وتركتني للحزن ينخر أعظمي

كدبيب نملٍ في لحى الأعواد

وتدعّم الشاعرة عاطفتها المتقدة بالوجع بدلالات لفظية، يزفر القاريء حين التلفظ بها كل مكنونات الوجع داخل صدره:

أواه من وجع تجذر في دمي

ونما بسفح القلب والأنجاد

أواه يا وجع القصيدة حينما

تجثو الحروف وحلمها إسعادي

ومشاعر الشوق والحنين تعود بشاعرتنا إلى عمر الطفولة، لتجسد قوة علاقتها بأمّها كما وكأنّها لا زالت ذلك الطفل المُعاند المُلحّ بالنداء :

ها بح صوت الشوق يندب وحدتي

والطفل فيّ معاندٌ وينادي

اشتاق صوتك حين يلهج بالندا

ويطرز الكلمات في إسنادي

ويستمرّ القارئ بالانتقال من ضفة لأخرى، يتنشق عبق القصائد وأريجها، دون كلل أو ملل، وذلك لتنوّع معانيها وأغراضها، وتنوّع موسيقاها وقوافيها، وصدق عواطفها دون صنعة أو تكلف، من خلال نسيج محكم يحوّل الفكرة من خطرات في الذهن الى عالم تدرك حدوده ومعالمه عبر دلالات لفظية واضحة المعنى، جزلة التركيب، يتوافر فيها الإيقاع الداخليّ متمثّلا بالحركة الداخلية في بناء القصيدة، والإيقاع الخارجي متمثّلا بالوزن والقافية، فتتلقفه الأذن وتترنّم النفس مع نغماته .

وبين هذا وذاك، نجد بعض الومضات الشعرية الجميلة المفعمة بالموسيقى والتراكيب اللغوية العذبة، ورغم قصرها إلا أنها تتمتع بكثافة المعنى ورصانة الأداء، وهذا إن دلّ فإنما يدل على براعة الشاعرة في إجادة هذا الفن الادبيّ، والقدرة على إعطاء المعنى المراد بأبيات قليلة موزونة، فكانت بمثابة السكريات اللذيذة بين تلك الوجبات الدسمة من القصائد .

قصيدة نهاية :

أرى الدنيا تصير الى زوال

وتسرج خيلها ضد المعالي

وتعلن حربها وتجور ظلما

وتهتك ما تبقى من جمال

ويتمثل أيضا في قصيدة تساؤل :

تسائلني وقد طال المسير

أيا أبتي أبعد الليل نور؟

ابعد الليل اشراق وفرح

فكم ضاقت بما ذقنا الصدور

وهل نلقى الأحبة في صباح

به تبنى قصور لا قبور

وغيرها كذلك من القصائد مثل : رباعية ، نهاية ، طقوس ، مشاكسة وغيرها

القافية لها حضور بارز في قصائد الديوان ، وهذا الحضور يجعل القارئ يعيش أجواء القصيدة الموروثة بزيّ معاصر، كأمثال أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وغيرهم من شعراء النهضة والعصر الحديث، الذين برعوا في البناء البسيط للقصيدة، والتفنن في الصياغة، بل ونجد بعض القوافي النادرة أو الغريبة على الأذن، استطاعت الشاعرة بقدرتها اللغوية وأذنها الموسيقية أن تطوعها من خلال قصيدة رشيقة المعاني، جزلة السكب والصياغة بلغة ساحرة متينة كما جاء في قصيدة – رفيق الروح – :

رفيق الروح لو تدري بأني بت ملتاعة

أبث الليل اشواقي إلى لقياك لو ساعة

نجدد للهوى عهدا بأمر السمع والطاعة

ونبني للهوى صرحا وفيه يضم أتباعه

ونطوي صفحة الهجران يطوي الوصل أوجاعه

فالشاعرة تتمتع بأسلوب جزل متين سلس، إذ دمجت جمال النص وموسيقاه وموضوعه بالمعاني والدلالات اللفظية والصور الشعرية الرصينة، ليصل إلى المتلقي في جوّ من المتعة الأدبية الراقية .

كما لا يخلو هذا الديوان من قصائد التفعيلة والتي افردت لها الشاعرة الفصل الثاني من ديوانها، وهنا اطلقت الشاعرة العنان متحررة من قيود القافية لتحلق في فضاء الشعر فتكتب للوطن والحب والموت والحياة والظلم والنقد والسخرية والغضب من واقع مرير مؤلم، والشوق لوطن غاب عن العين وحفظته الذاكرة، فغنت ليافا :

على شطآن يافا يا احبائي

تعمدنا بنور الشمس

صلينا على ارواح من ماتوا

ومن غابوا

ومن ما زال منفيا

يقاسي البعد

سالت الموج

هل ما زلت تذكرهم ؟

هنا ولدوا

هنا شبّوا

هنا كانوا

فثار الموج منتحبا

أما عادوا؟

وفي قصيدة – خلف الجدار – تغني للوطن المسلوب :

قالت بصوت ذي شجن

خلف الجدار لنا وطن

بيت تصدع ركنه

حتى تهاوى واندثر

فأجابها

وهناك جدي قد دفن

وبقرب مثواه الأخير تطاولت زيتونة

حتى سمت

هل من رفات أينعت

أم روح جدي عاندت

وقصيدة لا تساوم – بكت فيه غياب الوطن وألم النكبة والهجرة :

لا تسل قلبي المعنى

عن تباريح الزمن

واسال الأيام عنا

كم سعينا للبقاء

كم رفدنا النهر دمعا

كم تعبنا في الفيافي بين حر أو شتاء

صوت جدي لم يزل

يتلو الوصية

لا تساوم لا تهادن

وكتبت لأسرانا البواسل، وغير ذلك من القضايا الحاضرة والعالقة بواقعها وعالمها المعاصر، إذ إن شاعرتنا تعي رسالة الشعر ودلالة الكلمة وأثرها ، فتعاصر بقصائدها قضايا أمتها وشعبها وعروبتها وعالمها المليء بالأحداث والظلم والقهر ، فنجد شعرا مليئا بالثورة والغضب

ولا نزال خلال رحلتنا نقتفي آثار شاعرتنا في قصيدة – أوتذكرين –

أوتذكرين صغيرتي

تلك الليالي الموحشة

أنات قلبي في دياجير الظلام

وشقوتي

لا شيء يؤنس وحدتي

إلاك أنت حبيبتي

……

أوتذكرين حديثنا

عن ذلك القلب الحنون

تتساءلين

وعنه دوما تبحثين

ويضجّ في صدري الحنين

..

في هذه القصيدة نجد حوارا وجدانيا عميقا لتجربة إنسانية مليئة بمزيج من العواطف ما بين حب وشوق وحزن وقهر وظلم.. تبوح لنا به الشاعرة من خلال حوار شعري أنيق لتقصّ لنا الحكاية، وتجود بأفكار ذاتها كما قصتها لطفلتها الصغيرة.

وتبوح لنا أيضا عما يجول بخاطرها عن فكرة الموت التي ربما لا نستطيع التعبير عنها كما عبرت عنها الشاعرة بهذا العمق وهذه الرؤية من خلال قصيدة – موت –

إن تشظى نبض قلبي وانفجر

في حروب …

بين شك ويقين أو قدر

وتجلّى برزخ للروح يسمو

هل لروحي ..

يا حبيبي

من مفر

وتسوق لنا الشاعرة قصائدها في بوح فطري، نابع من تجارب حياتية وخواطر وأفكار ذاتية، وترصّع قصائدها بعناصر الطبيعة كالزهر والبحر والسماء والنجوم والأرض والفراش والطير وغير ذلك مما يضفي على النص الحركة والحياة وإحساسا شاعريّا ساحرا، وتوظف مخزونها الثقافي والديني وتتصرف بأدوات اللغة تصرف المتمكن المُلمّ لتبرز ذلك كله في قالب شعري يخلو من الصنعة والتكلف ، بأسلوب سلس ممتع يشد القارئ ويمتعه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى