صناعة الحضارة.. بين الفردانية والمنهج

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

قد يكون بعض الأفراد محور الحدث التاريخي، ذلك بما ألهموا من إرهاصات القدرات الفردية العقلية، والشخصية (الكاريزمية)، والنبوغ الفكري؛ والأدبي والعسكري.. ولا يتكرر أمثال هؤلاء في أزمان التاريخ إلا نادرا (الإسكندر الأكبر، أرسطو، سقراط، نابليون، نيوتن، إينشتاين، ماركس ، لينين،.. )..

والفارق في فكرة التكوين بين الحضارتين الغربية والإسلامية فارق كما ذكرنا بين جهد بشري عقلي يصيب ويخطئ، ومنهج سماوي منزل بوحي شمولي لا يدع شاردة ولا واردة إلا أتى عليها إجمالا أو تفصيلا .. أو أجملها ثم ترك تفصيلها وتطبيقها للعنصر البشري.

فالحضارة الغربية قد كانت بجهد بشري مدفوع من أشخاص ذوي نبوغ وكاريزمات ومقومات تتمايز كثيرا عن أقرانهم من البشر، هؤلاء منوط بهم لما ألهموا من هذه المواهب أن يبذروا بذور التغيير الحضاري، ويستلهموا فكرها، ويؤسسوا عمدها العلمية والثقافية والروحية والعسكرية والاقتصادية.. وليضعوا تلك الفلسفات التي يهتدي بها من يعنوا بترجمة مضامينها إلى واقع عملي يقود بدوره إلى بناء حضاري؛ مثلما حدث إبان عصر النهضة الأوربية التي قادت إلى ولادة الحضارة الحديثة على يد كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن ودانتي وميكافيللي ومارتن لوثر.. ومن قبلها كانت الحضارة اليونانية وريثة الفرعونية والبابلية. 

لم تكن الحضارة الغربية قديما ولا حديثا مدفوعة بفكرة دينية كما يدعي البعض أن المسيحية كدين هي مولدتها، إنما كان الرومان ورثة اليونان والبطالمة امتداد لهم، ثم جاءت العقيدة المسيحية بعد حقب من حكم الرومان حين اعتنقها الإمبراطور قسطنطين (331 م) أو تياؤدوسيوس، ثم راح من بعده يفرض مذهبها على من هم تحت حكم دولته، بل قد راح يفرض مذهبه على أصحاب المذهب الأصليين من مسيحي الشرق (الأرثوذكس)، حيث أراد أن يدخلهم كرها تحت عقيدته (الملكانية) في حين كانوا هم على (اليعقوبية) ولا مجال هنا للتفصيل.. إنما أراد الرومان أن يستغلوا اعتناقهم للمسيحية ليفرضوها على أقطار الأرض مذعنين كارهين غير طائعين بعد أن نصبوا أنفسهم سدنتها ورعاتها دون تفويض من الله؛ هذا على بطلان عقيدتهم بعد تطاول الأماد عليها، وتقادم العهود بينها وبين بعثة المسيح (عليه السلام) ورفعه، وبعد أن بدلت عقيدتها من التوحيد إلى التثليث والتحريف؛ ثم استشرت بين طوائفها الحروب، حتى صدق القرآن عليهم قوله” وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)”[المائدة].

لقد استغلت أوروبا فكرة العقيدة المسيحية لتخضع بها شعوب الشرق، وتتخذ منها ذريعة لغزو البلاد في حقبة عرفت بـ (الحروب الصليبية) لم تكن إلا تحت ستار المسيحية؛ إنما كان يغذوها العداوة والبغضاء، والطمع في ثروات الشرق، ولم تعرف من المسيحية إلا الصليب والتثليث والتي هي منهما براء؛ ولم تعرف من نظم الحكم إلا السيف وسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل، ثم جاءت من بعدها الحضارة الحديثة وريثة الصليبية القديمة لتكلف العالم في حربين عالميتين أكثر من 60 مليونا من الأرواح أزهقت بغير حق، إضافة إلى الأموال؛  في ردة حضارية مقيتة لم يزل يدفع العالم من أثمانها حتى الآن.

هكذا يدلف العقل البشري إلى أروقة الحضارة رويدا رويدا بما أوتي من المنح الفطرية، لكنه لن يستطيع أن يؤصل منظومة شمولية تحوي في طياتها كل ما يخص العنصر البشري من جوانبه النفسية والاجتماعية وعلاقاته الاقتصادية والقيمية إلا أن يكون هذا من خلال منهج رباني متكامل يشمل مجموعة العلاقات التفاعلية: بين الإنسان وربه؛ من التعرف عليه من نعمه وآلائه الكونية والكتابية، وما يجب عليه تجاه خالقه من تحقيق العبودية له كما أمر وشرع قولا وفعلا؛ ثم العلاقة بين الإنسان ونفسه وما يجب عليه من حفظ الفروض التي أمر بها الشرع  (العقل والنفس والدين والعرض والمال) ؛ ثم بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي (الأسري والبيئي والمجتمعي، والعلاقات بين الجماعات والشعوب والدول وأرباب الأديان)؛ وأخيرا: العلاقة بين الإنسان والكون.. هذا الذي يتعاطى معه ليل نهار، وهو الذي ينبئ في كل ذرة من ذراته على طلاقة القدرة الخلقية، وبدعة الآيات الكونية الربانية والتي توحي في كل لحظة ولفتة إلى فضيلة التوحيد وشرف العبودية.

لقد جاءت منهجية القرآن لتؤصل لحضارة أبدية – إن البشر أقاموا أصولها، وعملوا بمقتضى تعاليمها- هذه الحضارة اعتمدت على عنصرين أساسيين هما: الإنسان أولا، ثم المنهج الذي يقيم هذا الإنسان ويقومه.. ومن خلال هذا المنهج الشمولي الذي احتوى منظومة هذا الإنسان الحياتية بأدق تفاصيلها ينطلق الإنسان في أرجاء الكون ليحقق العبودية لله قائما بها وداعيا إليها، ناشرا دين الله في ربوع الكون معرفا بهذا الإله الواحد، صالحا مصلحا يحفظ الحرث والنسل ويحقق بغية الاستخلاف الحقيقية، لا التي تقوم على إبادة العنصر البشري وإتلاف مقدرات الكون بدوافع نفسية مرضية من (طمع أو تسلط أو شهوة الجمع والمنع، أو بغض نفسي للبشر والكون).” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)”[البقرة].

أما المنهج الإسلامي فهو الذي ربى الإنسان أولا فصنعه على عينه، فأخلص قلبه لله من تخليص العبادة والتوحيد من شوائب الوثنية بصورها كافة، ثم انعكست صورة هذا التعبد متحققة في النفس والعمل والعلاقة المجتمعية والكونية؛ لم يكن شيئا من هذه العلاقات بمنأى عن صاحبه، إنما كان المنهج كله متناولا بتفاصيله الداخلية (النفسية) والخارجية (المجتمعية والكونية) لا ينفك أحد العنصرين عن الآخر، لذا جاء وصف القرآن لهذه الأمة التي قامت بهذا الأمر كما أريد لها من الإعداد الرباني من خلال المنهجية القرآنية، وكما قامت به الأمة تحقيقا وقولا وفعلا فاستحقت أن تكون “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)”[آل عمران].

لا ندعي العصمة إلا من خلال كليات المنهج الواردة في الكتاب صريحة واضحة، وأما ما ترتب عليه من الاجتهاد والتفصيل والتبيين للأحكام والأحوا، وما كان بجهد بشري فالخطأ فيه وارد لا تخلع عليه عصمة ولا تدعي له، وكذا ما يتأتى من خطأ التطبيق والتناول وما يصدر عن خطأ من العنصر البشري لا علاقة له بعصمية المنهج ونزاهة التنزيل؛ إنما تقدر الأمور حسب مصدرها (إلهي أو بشري).. لكن تظل طلاقة الوصف (الخيرية) التي منحت، والتزام المنهج الرباني هو القوام الأول والأخير للحضارة الإسلامية بما لها وما عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى