العلاج بالقبول والالتزام: إطار عام ومفاهيم أساسية

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور.

صيغ العلاج بالقبول والالتزام ACT في سياق فلسفة براجماتيةعملياتية تعرف باسم “السياقية الوظيفية functional contextualism“، فضلاً عن انطلاقه من افتراضات وأسس نظرية الإطار العلائقي relational frame theory  وهي نظرية تفيد بأن مشاعر الإنسان وسلوكه دالة في جزء أساسي منها إلى “التفاعل بين اللغة language والدراية cognition” كفرع من “تحليل السلوك behavior analysis “، ويقصد بمصطلح المعرفة أو الدراية ما يكمن وراء مشاعر الإنسان وسلوكه من عمليات معرفية وأساليب تفكير واعتقادات وتصورات ورؤى، تأثرًا بالفكر السيكولوجي بورهوس فريدريك سكينرBurrhus Frederic Skinner المجسد لما يعرف بالسلوكية الراديكالية Radical Behaviorism.

ويختلف العلاج بالقبول والالتزام عن بعض أنواع العلاج المعرفي ـ السلوكي، في كونه بدلاً من التوجه نحو تعليم الناس محاولة السيطرة على أفكارهم ومشاعرهم وإحساساتهم الجسمية وذكرياتهم وغير ذلك من الأحداث الداخلية الخاصة، يتم تعليمهم في العلاج بالقبول والالتزام فقط مجرد ملاحظة وتقبل ومتابعة الأحداث الداخلية الخاصة التي تعتريهم خاصة غير المرغوبة منها.

من جانب آخر يساعد العلاج بالقبول والالتزام الناس في الاتصال الفوري والمباشر وبحس متسامٍ مع الذات فيما يعرف بالتدبر في الذات كسياق self-as-context بما يعني أنك تلاحظ وتخبر وتتعايش مع كل ما يعتريك وتنفصل عن أفكارك ومشاعرك وإحساساتك وذكرياتك في نفس الوقت، بمعنى أن لا تجعل لها طابعًا آمرًا ضاغطًا مسيطرًا على سلوكياتك ولا اعتبار هذه الأفكار والمشاعر والإحساسات والذكريات محدد ماهيتك ومفهومك لذاتك في اللحظة الحاضرة، بل تعترف أنها موجودة وترتضي وجودها، لكن تسعى في ظل وجودها إلى تعرف واكتشاف وتوضيح قيمك الشخصية personal values أي كل ما له أهمية وجدارة وقيمة واعتبار بالنسبة لك في الحياة وأن تبادر بالقيام بأفعال ذاتية تلقائية لتحقيقها وترجمتها في سلوكك والاقتراب منها بحيوية وتحمس ويقين بمعنى الحياة وفقًا لستة عمليات نفسية محورية ينطلق منها أنصار العلاج بالقبول والالتزام لتنمية المرونة النفسية.

ويطلق على العلاج بالقبول والالتزام اصطلاحًا مختصرًا هو” آكتACT ” لفظًا تعبيريًا صيغة من صيغ العلاج النفسي وفرع من “التحليل الكلينيكي للسلوك clinical behavior analysis(Plumb, Stewart, Dahl & Lundgren, 2009).

ويعد العلاج بالقبول والالتزام تدخلاً نفسيًا مثبتًا إمبيريقيًا وقائمًا على الدليل يستخدم فيه استراتيجيات “التقبل acceptance “، و “اليقظة الذهنية mindfulness ” معًا اقترانًا مع استراتيجيات تغيير السلوك لزيادة المرونة النفسية psychological flexibility(Hayes, 2004). وأطلق على هذا المدخل العلاجي في صورة المبدئية اسم “التباعد الشامل comprehensive distancing(Zettle, 2005).

وقدم ستيفن سي هايز هذه العلاج بالقبول والالتزام في سنة 1982 لتكوين مدخلاً يجمع بين كل من “الاشتراط الإجرائي covert conditioning“، و “العلاج السلوكي behavior therapy(Freeman, 2010).

ويتضمن العلاج بالقبول والالتزام عديد من البروتوكولات العلاجية يختار منها وفقًا للسلوك أو السياق المستهدف، على سبيل المثال يستخدم في مجال “الصحة السلوكية behavioral health ” نسخة مختصرة من صيغة العلاج بالقبول والالتزام يطلق عليها “العلاج المركز بالقبول والالتزام focused acceptance and commitment therapy (FACT)”  (The Association for Contextual Behavioral Science, 2016).

ولا يستهدف العلاج بالقبول والالتزام خفض أو إزالة أو اختزال الانفعالات والمشاعر الصعبة المزعجة أو السلبية، بل يتوجه بدلاً من ذلك إلى تعايش الشخص بصورة مباشرة مع ما تلقيه عليه الحياة تقبلاً واعترافًا به كجزء طبيعي من مقتضيات الحياة وسر وجودها؛ ثم التحرك بعد ذلك نحو ما يسميه أنصار هذا العلاج “السلوك ذو القيمة” أو السلوك الذي يترجم ويحقق كل ما له قيمة وأهمية بالنسبة للشخص (Hayes, Strosahl, &, Kelly, 2012).

وتأسيسًا على ذلك يمكن اعتبار العلاج بالقبول والالتزام دعوة للناس بالانفتاح على “المشاعر غير السارة”، وتعلم عدم التوجه الفوري المباشر إلى تصحيحها، ولا تجنب المواقف التي تنشطها بل الاعتراف بها والتسليم بوجودها، ومن ثم وصفها وتحليلها بما تقترن به من أفكار وتصورات ورؤى دون اعتبارها جزءً من ماهية الذات ودون اعتبار محتواها دالة لقصور طبيعي في تكوين الذات بل البحث عن التماوج فيما يعرف “الدوامة الإيجابية” التي يفضي فيها الشعور بحسن الحال إلى الفهم الأفضل لهذه الحقيقة الوجودية وهي أن الحياة هكذا تلقائيًا لا تخلو من المتاعب والمنغصات والشدائد، وعلى ذلك يعبر عن كلمة “الحقيقة” في متن العلاج بالقبول والالتزام بمفهوم “القابلية للعمل أو الفاعلية ‘workability’” أي كل ما هو مفيد وفعال في الانتقال إلى تحقيق ما هو مهم وذو فائدة وقيمة (القيمة، والمعنى).

وبينما يؤصل علم النفس الغربي إن جازت التسمية لما يسمونه افتراض “العادية الصحية healthy normality ” والتي ينظر بموجبه إلى أن البشر بطبيعتهم أصحاء  نفسيًا psychologically healthy، يرى أنصار العلاج بالقبول والالتزام بدلاً من ذلك أن “العمليات النفسية” التي تميز العقل الإنساني “العادي” normal human mind قد يكون لها تأثيرات سلبية بل تدميرية وفقًا لما أفاد به رسل هاريس (2006) في مقال علمي يحمل عنوانه طابعًا مجازيًا إذ وضعه تحت عنوان “احتضان شياطينك: نظرة عامة على علاج القبول والالتزام”  Embracing your demons: an overview of Acceptance and Commitment Therapy“.

ويتمثل المفهوم المركزي في العلاج بالقبول والالتزام في “أن المعاناة النفسية psychological suffering ” تنشأ بسبب: التجنب الخبري، التشابك والانصهار والتعلق المعرفي cognitive entanglement، وأن ما ينتج عن ذلك من “جمود نفسي psychological rigidity” هو مما يفضي إلى الإخفاق في القيام بالخطوات السلوكية المطلوبة لتحقيق اتساق وتطابق سلوك الشخص مع قيمه المحورية.

ولتقديم صورة مختصرة عن نموذج العلاج بالقبول والالتزام فيما يتعلق بوصف وتفسير عديد من المشكلات والمتاعب النفسية صيغ تعبير  FEAR وتعبر عن تركيبة يتخلق نتيجة التفاعل فيما بينها خاصية “الجمود المعرفي” وفقًا لتصور أنصار العلاج بالقبول والالتزام:

  • تعلق الشخص بأفكاره وانصهاره فيها Fusion وتماوجه داخل دواماتها واعتباره حقائق ثابتة وليست مجرد أفكار.
  • ميل الإنسان بصفة عامة إلى تقييم Evaluation “الخبرة” غالبًا بصورة نقدية سلبية يسقط بموجبه أحكامًا على الذات لإخفاقه في ضبطها والسيطرة عليها.
  • تجنب Avoidance الشخص لخبراته ربما بالابتعاد عنها وتجاهلها وربما إنكارها وإلهاء الذات بطرائق غير تكيفية تبعده عن مواجهتها.
  • توجه الشخص بصورة دائمة نحو تبرير أو تسويغ Reason-giving سلوكه في كل المواقف وفي كل الأحوال ربما دفاعًا عن الذات ووقاية لها من اللوم والإساءة والانكسار أمام نفسها وتجنبًا لأية مسئولية؛ الأمر الذي يبعده بطبيعة الحال عن المراجعة والتصويب.

وتأسيسًا على ذلك تأتي تركيبة مقابلة يفكك بها أنصار العلاج بالقبول والالتزام بنية تركيبة FEAR، وهي تركيبة “آكتACT” والتي تعني ببساطة شديدة:

  • تقبل Accept أفكارك وانفعالاتك ومشاعرك وإحساساتك الجسمية وفي نفس الوقت عدم اعتبارها حقائق وجودية ثابتة عن ذاتك.
  • اختر Choose: وجهة قيمية أو مسارًا حياتيًا ذات قيمة يتأسس على كل ما ترى أن له أهمية وفائدة ونفعًا ومعني ذاتي لك في إطار ما يعرف بتعبير “القيم المختارة”.
  • بادر بفعل Take action: على أن تتأسس أفعالك على إرادتك الذاتية التلقائية وبتعهد أمام نفسك باتخاذ كل الأفعال التي تقربك من تحقيق كل ما له قيمة وأهمية ونفع لحياتك باتساق وتطابق مع نسق قيمك الشخصية.

ولتفعيل تركيبة “آكتACT” بصورتها المشار إليها يتضمن العلاج بالقبول والالتزام ستة مبادئ أو بالأحرى عمليات نفسية محورية لمساعدة العملاء في تنمية المرونة النفسية psychological flexibility باعتبارها الهدف الأساسي لهذه الصيغة العلاجية، وتتمثل هذه المبادئ فيما يلي:

  • تفكيك بنية التعلق والانصهار المعرفي Cognitive defusion: بما يتطلبه من تعلم خفض ميل الأشخاص إلى الإنفاذ السلوكي لأفكارهم وانفعالاتهم وتخيلاتهم وذكرياتهم، وتعليمهم أن هذه الأحداث والخبرات الداخلية برغم التسليم بوجودها وقبولها إلا أن هذا الأمر لا يعني أنها حقائق معبرة عن الذات ومجسدة لها، أو يفترض التماهي معها وتطبيقها والتأثر بها.
  • التقبل Acceptance: ويعنى به سماح الشخص لخبرات الداخلية الخاصة غير المرغوبة مثل الأفكار والمشار والحفزات بأن تأتيه وتذهب عنه دون الصراع معها أو التحكم فيها والسيطرة عليها.
  • الاتصال باللحظة الحاضرة Contact with the present moment: ويمثل ما يمكن تسميته امتلاء التكوين النفسي للشخص بالوعي العمدي الآني وفقًا لتركيز انتباهه بيقظة وتفهم بذهنية “هنا والآن”، مع الانفتاح على الخبرة وتنوع الاهتمامات.
  • الذات المُلاحظة The observing self: وصول الشخص إلى شعور متسامٍ بالذات، مع استدامة بوعيه بذاته وفقًا لبعدي التماثل والاستمرارية.
  • القيم Values: ويعني بها اكتشاف الشخص وتحديده لكل ما هو مهم بالنسبة له.
  • الفعل الملتزم Committed action: ويمثل وضع الشخص لأهداف وفقًا لقيمه وتوجهه بصورة ذاتية تلقائية وبإرادة حرة منفردة نحو تحقيقيها وتحمل مسئولية ذلك التحقيق وصولاً إلى تأسيس حياة ذات معنى.

وتأسيسًا على ما تقدم يمكن الانتهاء إلى عدد من النقاط الأساسية فيما يتعلق بطبيعة وبؤرة العلاج بالقبول والالتزام:

  • صيغة من صيغ علاجات الموجة الثالثة من موجات تطور العلاج المعرفي السلوكي، والتحليل السلوكي.
  • يعد العلاج بالقبول والالتزام مدخلاً تعليميًا في العلاج النفسي يندرج تحت ما يعرف بمظلة “التربية النفسية Psychological Education، ويستهدف تفكيك بنية وديناميات تشكيل مظاهر المعاناة والتعاسة والكرب الإنساني عبر تعليم الفرد مهارات اليقظة الذهنية والقبول لتمكينه من العيش والتصرف في الحياة بطرائق تتسق مع قيمه المختارة أي مع كل ما يمثل أهمية وقيمة شخصية له، فضلاً عن تنمية المرونة النفسية.
  • “الاعتلالات النفسية” وصور الكدر والكرب النفسي دالة للجمود المعرفي في إطار ست عمليات نفسية سلبية تتمثل في:
    • غياب الشخص عن حاضره تركيزه في الماضي تحسره عليه، وخوفه من المستقبل وقلقه منه.
    • التجنب الخبري كما يعبر عنه بميل الشخص إلى عدم مواجهة انفعالاته وأفكاره الداخلية البائسة أو التعيسة والسلبية.
    • تعلق الشخص وانصهاره التام في أفكاره وانفعالاته الداخلية واعتبارها تجسيدًا لماهيته ومفهومه لذاته.
    • عدم القدرة على التواصل مع الذات بمنظوماتها الكلية والتركيز على بعد محدد من أبعادها.
    • تميع أو غياب نسق قيم شخصية تحدد ما له أهمية ذاتية بالنسبة له.
    • البلادة السلوكية وافتقاد الفاعلية والتجنب فضلاً عن الاندفاعية والتهور.
  • يتوجه أنصار العلاج المعرفي ـ السلوكي بصورة مباشرة نحو تقصي وتعرف وتحديد الأفكار السلبية والتشوهات المعرفية وأساليب التفكير الخاطئة الكامنة وراء الانفعالات والسلوكيات غير التكيفية؛ ومن ثم تصويبها واستبدالها بأخرى تكيفية، يقر أنصار العلاج بالقبول والالتزام بأن “الألم”، و “المعاناة” جزءً طبيعيًا في متن الحياة الإنسانية يفترض تقبلهما والتعايش معها والاعتراف بهما، والاندماج في الواقع الحياتي الحاضر بيقظة ووعي؛ ومن ثم التوجه نحو تأسيس حياة مثمرة وهانئة بالرغم منها، ويتأتى ذلك عبر ممارسات بروتكولات تدخل تدور حول ست عمليات نفسية أساسية تفضي إلى تحقيق المرونة النفسية.
  • للمزيد راجع:
  • Acceptance and commitment therapy: https://en.wikipedia.org/wiki/Acceptance_and_commitment_therapy
  • Barnes-Holmes, Y., Hayes, S. C., Barnes-Holmes, D., & Roche, B. (2001). Relational frame theory: A post-Skinnerian account of human language and cognition. In H. W. Reese & R. Kail (Eds.),Advances in Child Development and Behaviour,Volume 28 (pp. 101-138). New York: Academic.
  • Blackledge, J. T., & Hayes, S. C. (2001). Emotion regulation in Acceptance and Commitment Therapy.Journal of Clinical Psychology/ In Session: Psychotherapy in Practice, 57(2), 243-255.
  • Christodoulou, V. (2010).The cognitive-behavioural approach: A closer look at some of its latest developments: Assessing the effectiveness of Acceptance and Commitment Therapy (ACT) as a brief preventative intervention (Doctoral dissertation. City University, London). Retrieved from Electronic Theses Online Service, British Library.
  • Joshua Schultz (2021). What Is ACT? The Hexaflex Model and Principles Explained: https://positivepsychology.com/act-model/
  • Luciano Devoto (2016). What’s the Difference between Acceptance and Commitment Therapy & Mindfulness-Based Cognitive Therapy? https://psychcentral.com/lib/whats-the-difference-between-acceptance-and-commitment-therapy-mindfulness-based-cognitive-therapy

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى