الأدب الكامل في قصيدة  ” عناة ” لكميل أبو حنيش

رائد محمد الحواري | فلسطين

أن تاتي قصة ضمن قصيدة فهذا بحد ذاته انجاز يحسب للأدب الفلسطيني عامة، وللأدب السجون خاصة، وأن تأتي القصة لتحمل فكرة إنسانية، ـ قصة عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ـ فهذه اضافة معرفية تحسب للشاعر/القاص، وأن تتناول القصة النواحي الإنسانية عند السجانة، فهذا يؤكد على حيادية الأدب الفلسطيني في تناوله للمحتل، وأن تأتي القصة/القصيدة لتجمع بين ما هو واقعي وما هو أسطوري/ملحمي، فهذا يعد كمال في العمل الأدبي، هذا ما نجده في قصيدة/قصة “عناة” للشاعر الفلسطيني “كميل أبو حنيش”، يفتتح الشاعر القصيدة/القصة بهذا المشهد:

كان الصباح وكنت احلم”

حينما استيقظت

من نومي على صخب الرفاق

وقال قائل ..

قم وارتدي زي السجين …

جاء المحامي كي يزورك …

فاستفقت”

نلاحظ أن الشاعر يستخدم ألفاظا عادية، تتناسب وطبيعة الروتين الذي يعشيه في الأسر، من هنا نرى وقع الأسر ثقيل، “قم، وارتدي،  السجين”  ونلاحظ أن حالة (النشوة) كانت في “احلم”، كما أن الشاعر يغرب الجلاد الذكر من خلال: “وقال قائل”  وكأنه لا يريد أن ينغص على نفسه فرتأى أن يكون  القائل/السجان مجهولا.

…”

الباب يفتح ..

سجانة في الانتظار

شكت بزندي القيود وفتشتني …

ثم قادتني الى شبك الزيارة …

ثرثرت من خلف الزجاج

مع المحامي … وانتهيت”

نجد الواقع القاسي من خلال: “سجانة، شكت، القيود، وفتشتني، قادتني، شبك، خاف، والأفت أن عالم الذكور والأناث يشكلان عامل ضغط على الأسير، لهذا نجد (رتابة) الواقع من خلال إهمال الشاعر للموقف وعدم تناوله للتفاصيل فاستخدم النقاط، كإشارة إلى (عادية/رتابة) ما يجري.

لكن إنسانية الشاعر تظهر بعد أن دقق في لباس السجانة:

حدقت في طرف القميص …”

كان اسمها …

تدعى … عناة

فابتسمت بداخلي …

كانت عناة فتاة في العشرين …

اكثر قليلا او اقل …

ولديها مسحة من جمال انثوي …

في الوجه .. في العينين

في الصدر المخبا تحت درع السجن” …

إذا ما توقفنا عند الألفاظ التي استخدمها الشاعر سنجدها بيضاء وناعمة: “اسمها، عناة (مكررة)، فابتسمت، فتاة، مسحة، جمال، أنثوي، الوجه، العنينين، الصدر” وهذا يشير ‘لى أنه إنسان حر يعيش حياة سوية كباقي الناس، وهذا بحد ذاته يحسب له، فقد (حرر) نفسه من الأسر من خلال التمعن بهذه الأنثى ـ رغم أنها سجانة ـ، بمعى أنه تصرف كإنسان سوي، يتوقف عند الجمال متأثرا به ومتأملا، وهذا أول انتصار للشاعر في القصة/القصيدة على الأسر وعلى السجان معا.

بعدها يدخلنا إلى ما أحس/شعر به وشعرت به هذه الأنثى:

“كانت عناة كطفلة مذعورة

تلقي بناظرها علي

كانني وحش يطارد ظبية

تلقي بناظرها الى الكاميرات …

لعلها تبغي تذكرني …

في انها …

ليست امامي وحدها …

وعناة ترمق مشهدي …

وعناة تسعى ان تفسر

ما يجول بخاطري

علي اطمئن خوفها مني”

نلاحظ وجود كم كبير من الألفاظ القاسية: “مذعورة، تلقي (مكررة)، وحش، يطارد، ترمق، خوفها” وهذا يأخذنا إلى الواقع، إلى حالة الصراع بين الأسير والسجان، فالواقع يفرض عليه وعلى سجانه واقع قاسي وشديد.

 لكن إنسانية الشاعر تبقى حاضرة وقوية، لأن مشاعر   اخترقت كيان السجن، بمعنى أنه (خرج) من واقعه إلى حالة تأمل وسبر أغور السجانة، وهذا يعد الإختراق الثاني له، ونلاحظ إنسانيته من خلال:

 “علي اطمئن خوفها مني”

فرغم أنه تعرض ويتعرض للأذى منها إلا أنه يتصرف بإنسانية ونعومة بحيث لا يريد أن يثير خوفها، وبهذا يكون الشاعر قد أثبت إنسانيته تجاه سجانه وعدوه.

 يتقدم الشاعر بإنسانيته أكثر فيسأل سجانته:

رحت ابتسمت بوجهها وسالتها ..”

او تعلمين ايا عناة ؟

معنى عناة ؟”

فعل “ابتسمت”  يمثل الإخراق الثالث للأسير، فقد تجاوز  التفكير والقول إلى الفعل، فجاء “ابتسمت” كتتويج لحالة الإنتصار والإنسانية التي يحياها، وإذا ما توقفنا عن الحوار “وسألتها” فإن هذا يؤكد على أن الفلسطيني يتمتع بإنسانية مطلقة، فقد قبيل مخاطبة عدوه وسجانه بلغة إنسانية، وفتح حوار معرفي حضاري معه/ا.

وهذه الإنسانية نجد أثرها على السجانة، من خلال:

ابتسمت عناة لأنني …”

باغتها بسؤالها عن اسمها …

لا عن سقالة قيدها

في معصمي …

قالت بلهجة قطة ..

** اني لو يديعت ..اتا يوديع ؟ ( كلمة عبريه معناها انا لا اعرف انت تعرف )

اني يوديع ايا عناة

اني يوديع ( انا اعرف انا اعرف )

اصغي الي ايا فتاة”

في هذا المقطع نجد الصراع بين الشاعر والسجانة، وذلك من خلال اللغة، فلكلا منهما لغته، هي تتحدث بلغة نحن القراء لا نعرفها، لهذا ترجمها لنا، وهذا يعد انتصار آخر للأسير، فهو يعرف لغة عدوه.

كما أن البسمة التي طبعتها السجانة على محياها يعد أنتصار آخر للشاعر، فقد حولت وجهها العابس إلى وجه آخر مبتسم، وهذا يشير إلى أن إنسانية الأسير انتصرت على وحشية السجانه، وجعلتها (تنسى/تتجاهل) مهنتها كسجانة، فأبدت الابتسامة.

بعدها يدخلنا الشاعر إلى عالم آخر، عالم الأسطورة والملحمة، متحاوزا واقع الأسر والسجن والرتابة التي يعانيها، فيتحدث مع السجانة كأستاذ في علم الأسطور:

اصغي الي”

لتعرفي ان اسمك

اختصر الوداعة والجمال

وحضارة الشعب المقيد بالحديد

كي تعرفي ان اسمك اختزل

البحار … الحب .. والازهار …

والجنس المقدس في المعابد” ..

   نلاحظ أن الشاعر لا يخرج من الواقع، رغم أنه يتحدث عن الأسطورة، فهو يريد أن يربط واقعه بالأسطورة، لهذا تحدث عن “الشعب المقيد بالحديد” لكنه سرعان ما ينتقل إلى عالم الأدب والملاحم مستخدما لغة بيضاء: “البحار، الحب، والازهار، والجنس، المقدس، المعابد” وهنا تأخذ القصيدة/القصة منحى آخر، منحى بعيد عن عالم الأسر والسجن والسجان، فيهيم الشاعر في عالم الأسطورة محلقا في فضائها الرحب:

وعناة يا سجانتي”

كانت الهة عشقنا …

رمز الخصوبة والجمال …

لدى النساء وفي الطبيعه ..

وعناة .. يا سجانتي …

رمز المحبة والحنان

ومن القابها .. البنت البتول”

رغم أن الشاعر يستخدم: “يا سجانتي” إلا أن الخطاب بدا خطاب وديا، فهو يتكلم كمعلم للسجانة، وهذا انتصار جديد يحققه الأسير على جلاده، فقد طوعها لتقبل أن تكون (تلميذته)، وهنا يتم عملة تحويل أخرى في السجانة فتظهر بهذا الشكل:

ابتسمت عناة وراح يرقص وجهها”

عند اكتشاف دلالة

المعنى الجميل لاسمها

لكنها قد بوغتت في مصدره …

جلست عناة قبالتي ..

ولوهلة نسيت وظيفتها القميئة

وتريدني ان استفيض

وان اتابع ما ذكرت

من المعاني باسمها”

دون أدنى شك يعتبر هذا التحول في هيئة السجانة لصالح  الأسير وإنسانتيه، فقد أظهرت “ابتسمت، يراقص، جلست، نسيت وظيفتها، استفيض، أتابع” وهذا التحول يعتبر خروج السجانة من واقعها إلى حالة جديدة، تتسم بحب المعرفة والتعامل (السوي) مع من تأسره وتريد أذيته.

يدخل الشاعر أكثر في عالم الأسطورة مبينا أن فكرة الحياة السوية كانت حاضرة في ثقافة أجداده منذ آلاف السنين، وليست غريبة عليه، فهي جزء أصيل من تكوينه:

وعناة احدى المفردات”

بارضنا … وتراثنا

ولزوجها بعل (اله الخصب والمطر)

رمز الحياة بارضنا …

وكلاهما .. بعل .. عناة … هما

ابناء ايل وعشيرة (كبار الهة البلاد)

أراد الشاعر من خلال تركيزه على الحياة الأسرية الاشارة ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلا أن (تفتيت) الأسرة من قبل الاحتلال، ووجوده في الأسر خلف القضبان يتنافى مع الطبيعة الإنسانية والثقافة التي أسس لها أجداده، وهنا يكون قد قدم معرفة/معلومة للسجانة بأنها تقوم بعمل غير إنساني ويتنافى مع الطبيعة السوية التي وجد عليها الناس. ، وفي الوقت ذاته أشارة إلى قذارة مهنتها كسجانة، فهي تبعد الابن عن أبيه والأب عن أبنائه.

يتوغل الشاعر أكثر في عالم الأسطورة مبينا أن فكرة الصراع تعد جزءا أصيلا من تكوينه الثقافي المستند على ما تركه أجداده من مدونات أدبية ودينية:

“قالت عناة .. وهل عناة

لشعبكم كانت الهة ؟

انها اسطورة

مثل الاساطير الجميلة والرموز

لكل شعب في القدم …

وهي الرحيمة … والحنونة …

والرشيقة … والجميلة …

لكنها ايضا شديدة …

ورمزها الاسد القوي …

قد كان بعل زوجها …

متصارع ومناوىء

لاله اخر اسمه ..موت ( رمز الوضاعة والجفاف)

ونشبت بينهما المعارك

مرة في كل عام

لكن موت يصرعه

ويموت بعل

وعناة تخدش وجهها …

وعناة تقلع شعرها

وعناة يفجعها النحيب …

حينما عثرت على جثمان بعل

في هذا المقطع يؤكد الشاعر على انسيابية (القصة) من خلال أنطاق السجانة وسؤالها، وفي الوقت ذاته  أكد على اخلاقية الثقافة التي يحملها، عندما تحدث عن “عناة” الاسطورة وما فعلته بنفسها عندما علمت أن “البعل” مات، وهذا اشارة ـ غير مباشرة ـ على أن الأسرة/العائلة الفلسطينية متماسكة، وعلى أنها تحافظ على بنيتها، وأنها لا تفرط بأي عضو فيها، وعلى إنها تحمل مشاعر إنسانية، لهذا تحزن ويظهر حزنها في حالة فقدان أي عضو منها، وبهذا يكون الشاعر قد أوضح للسجانة ـ بطريقة غير مباشرة ـ أن سلوكها/مهنتها تتناقض مع معنى/مضمون/حقيقة أسمها، وكما أنه يكون قدر رد على الفكر الصهيوني الذي يصورنا على أننا طلابين موت  ونسعى إليه.

استرخت عناة قبالتي …”

نسيت وظيفتها

وقد غاصت تماما

في تفاصيل الحكاية”

من هنا نجد سلوكها بدأ يتغير نحو الطبيعة الإنسانية، فقد أخرجها الأسير  من واقعها/مهنتها وقربها مما هو إنساني، فما يعرضه من أدب ملحمي فينيقي، قادر على أن يزيل التشويهات التي أحدثها الصهاينة في تفكير الناس وسلوكهم، ويقربهم من إنسانيتهم، وبهذا تكون (القصة) في تنامي وتصاعد، وهذا يخدم الحبكة القصصة التي تجذب القارئ إليها، وتجعله يتقدم منها بلهفة لمعرفة  المزيد عن هذه الملحمة/الأسطورة التي أثرت على السجانة، وأيضا لمعرفة ما ستكون عليه نهاية العلاقية بين الشاعر والسجانة:…

يا موت فلتعد الحياة لبعل …”

لا نرجس ملاْ الروابي …

لا ماء في الوديان …

لا فل بقلب المرج …

لا زهرة بيد الفتى لفتاته…

امتنعت حساسين الروابي …

عن تقاسيم الصباح …

لا غيمة في الافق …

جفت كل اثداء النساء …

والحب يا موت استحال للعنة

اذ لم تعد تغفو الفتاة

على ذراع حبيبها …

يا موت..فلتعد الحياة الى الطبيعة …

اعد النوارس للبحار …

اعد الربيع الى ضفاف النهر …

يا موت فلتعد الحياة

لزوجي بعل”

ما يحسب لهذا المقطع، أنه يصيب عصفورين بحجر واحد، يعرف السجانة والقارئ على الملحمة الفينيقية، وأيضا يقدم فكرة عن قسوة الموت والأذى الذي يتركه على الآخرين/الأحياء، وللافت أن هذا المقطع يعتبر نص حرفي لما جاء في الملحمة الفينيقية، بمعنى أنه اقتباس كامل من الملحمة، وهذا يأخذنا إلى موضوع الأدب وطرح هذا السؤال، إذا كان الأدب الفلسطيني/الفينيقي الغارق في القدم  أستطاع أن يخرج هذه السجانة من واقعها ويقربها من إنسانيتها، فكيف سيكون عليه حال الأدب  الفلسطيني الحديث وأثره على المحتل؟. يستمر الشاعر في تقديم الملحمة الفينيقية متناولا صورة المنتصر/الموت وكيف يتعامل مع الضحية “عناة/البعل”:

لكن موت راح يعوي ساخرا”

ومقهقها … يرغي ويزيد …

رافضا ارجاع بعل للحياة …

وموت يجأر بازدراء …

شاهرا سيف الشماته …

وهو يرقب ما يسيل …

من الدموع لدى عناة …

كان الغرور بصوت موت

والقبح في سيماء موت

والموت يبدو ماثلا

بعيون موت”

النص الملحمي  يصور عنجهية “الموت” التي تتماثل تماما مع واقع المحتل، فالشاعر/القاص يجمع بطريقة أدبية بين ما جاء في الملحمة والواقع، ويقدم صورة الضحية/عناة التي تستعطف الجلاد/الموت،  ونلاحظ تركيزه على صورة الجلاد المتعجرف السادي المستمتع بصورة الضحية، لكن النص الملحمي/الأسطوري يعتمد بشكل أساسي على فكرة الطبيعية، التي تظهر الحياة/الخصب والموت/الجفاف، من هنا كان الصراع بين البعل والموت صراع سرمدي مستديم، فالأدب الفينيقي لم ينظر للموت على أنها دائم، بل مرحلي، وسيتعه الفرح/الخصب، وهذا الأمر ينطبق تماما على واقع الأسير، فبعد الموت/الغياب لا بد أن يأتي البعل/الحرية ويأتي الفرح، لكن هذا يحتاج إلى خوض معركة/حرب مع الموت:

 …”

وعناة تشتعل انتقاما …

غضبا … وقهرا …

شرعت تزمجر كالصواعق …

تستل سيفا باترا …

وتطير كالبرق العنيف تجاه موت …

وبسيفها تهوي عليه …

وبضربة تقضي عليه …

وتحز عنقه

ويموت موت

وعناة تحرق جثته …

فيستحيل الى رماد …

وعناة لا ترأف بموت …

وتلم كل رماده …

تذروه في كل الحقول

مع الرياح

ويكون موت (الموت)

فاتحة وبشرى للحياة …

ويعود بعل الى عناة …

وتعود تزدهر الطبيعة والحياة”

نهاية  الملحمية تحمل فكرة/حكمة وعلى المتلقي ان يستوعبها، فكل جبار متعجرف لا بد أن يشرب من الكأس التي سقى بها الآخرين، فلا انتصار يدوم  ولا تجبر، وبهذا يوصل الشاعر فكرة النهاية القاسية  للموت/للسجانة/للاحتلال.

وهذا ما جعل السجانة تكتشف الفكرة/الحكمة من وراء سرد الملحمة:

دهشت عناة …

تبعثرت في صمتها …

ورأيت في حدقاتها …

زهو الرضا …

ابتهجت عناة باسمها

لكنها انزعجت قليلا

من حقيقة مصدره

نسيت بان الاسم لي

وانا الضحية …

نسيت بان الاسم

ينبض بالحقيقه …

مهما واراها الزمان

وان تزوير الحكاية

لن يدوم”

نلاحظ أن الشاعر/القاص ما زال محافظا على وتيرة النهج القصصي في القصيدة، فبين الفينة والأخرى يذكرنا بحالة السجانة والأثر الذي تركته الملحمة عليها، فمرة تنتشي بما تسمع وتتقرب مما هو إنساني، ومرة تعود إلى واقعها كسجانة، هذا ما اكتشفه الشاعر وأراد تقديمه في قصيدة “عناة”.

 ينزعج الشاعر من السجانة التي تراوح مكانها، ولا تستطيع أن تنطلق نحو ما هو إنساني، فقد أخذت اسما ليس لها، وهذا الاسم ليس  اسما مجردا، بل له تاريخ، وقد دُون أدبيا في ملحمة كتبها الفلسطيني/الفينيقي قبل آلاف السنين، وهو أسم يرمز/يشير إلى الخصب والفرح والبهحة، كل هذا يجعل الهوة شاسعة بين السجانة وما تقوم به، وبين معنى ورمزية وطبيعية الاسم الذي تحمله، من هنا نرى الشاعر يخرج عن نهج القصة ويبدأ في (تكسير) وتيرة القصة، مبديا (انفعاله وغضبه) على واقعه وعلى ما تحمله وتفعله هذا السجانة به وبشعبه وبحضارته وثقافته.

فاعيدي اسمك يا عناة لاهله …”

او غادري هذا المكان …

والقي القيود …

فلتستقيلي يا عناة …

او ان تعيدي الاسم لي …

او بدلي اسما جميلا ترتديه”

نلاحظ المباشرة حلت مكان الإيحاء/الإشارة، وهذا يشير إلى أن الشاعر/القاص يعود إلى الواقع، فبعد أن تماهى مع الملحمة وانسجم معها منتشيا بجاملها وبما تحمله من فكرة الأمل/الفرح/الخصب القادم،  إلا أنه (يصحو) من الحلم الأسطورة (مكتشفا) أن من يخاطبها تمثل “موت” ، لكن خطابه لها لم يكن صداميا، بل نجده ما زال محافظا على المودة التي نشأت بينهما من خلال سرد ملحمة “البعل/عناة.

لوثت اسمك في القيود …”

وخلف ابواب الحديد الموصدة

خجلت عناة من الحقيقة”

يستمر الشاعر/القاص في التقدم نحو الواقعية، مبتعدا عن الرمز والإيحاء الملحمي، مخاطبا السجانة بوضوح وبصورة مباشرة، وهذا يقربنا مما جاء في الملحة، فقد استمد الشاعر/القاص القوة من موقف “عناة” التي واجهة الموت وصرعته بسيفها، لهذا أنتشى بما حدث وأخذ يتحدث بقوة وصلابة بعد أن أخذ طاقة من السرد الملحمي.

لعناة رمز اخر ..”

هو رمز اجنحة اليمامة

فعناة يا سجانتي .. تدعى اليمامة

ولها جناحين

تحلق فيهما في الافق …

فيمامة تعني لنا حرية

وانت يا سجانتي .. سجانة …

افلا ترين تناقضا

بين اليمامة

والوظيفة حيث انت تزاولين

اغتبطت عناة بمعنى

اخر لاسمها

وتساءلت .. اي انني

ادعى كذلك باليمامة ؟

قلت .. بلى

لو تتركي هذي الوظيفة

وتغادري فكر الصهاينة

الغلاة الحاقدين ؟”

يستوقفنا الخطاب المباشر الذي يحدث به القاص/الشاعر، فيبدو وكأنه تخلى عن جمالية بناء القصة الملحمية والرمزية التي فيها، لكن هذا يبدو في الشكل فقط وليس في المضمون، فهو يريد أن يقول أنه تأثر بالنص الأسطوري/الملحمي لهذا أوصل فكرته من خلال سرد الملحمة، وقد تأثر بها وتماهي معها، لهذا أخذ يتعامل باسلوب عناة، واللغة التي يفهما “موت”، لغة القوة، بينما “موت/السجانة لم تستوعب الفكرة لهذا كان لا بد من مخاطبتها بلغة مباشرة تفهمها،  وهذا يعد (تقليل) من مكانة السجانة وتأكيد على عدم نضوج  فهمهما، وضعف  قدرتها على استيعاب ما يقال، فكان لا بد من استخادم لغة/نهج/طريقة آخرى تُوصل الفكرة لها، فكانت المباشرة والتصريح هما وسيلة الخطاب معها، من هنا وجدنا الشاعر يستخدم صيغة المخاطب “وأنت يا سجانتي”.

ينهي الشاعر  قصيدته/قصته “عناة” بالعودة إلى الأسر وما فيه، مؤكدا على أن طبيعة السجانة تتماثل تماما مع طبيعة “موت” وطريقة تفكيره:

ومكبرات الصوت تعلن ..”

انتهى عدد الظهيرة

انتبهت عناة

لصوت اعلان المنبه

طار الحمام … الزهر

من عينا عناة

غدت ابتسامتها كريهة …

وتسارعت تقطيبة

علت الحواجب …

عادت عناة لدورها .. سجانة

نعبت عناة بصوتها ..

ان قم نغادر …

لنعود صوب السجن”

فعدم فهم السجانة لما جاء في الملحمة ولما قاله لها الشاعر بصورة مباشرة وصريحة يشير إلى أنها  لا تتغير إيجابيا، وأنها أسيرة لواقعها/لمهنتها كسجانة، ولتفكيرها الصهيوني ألذي أبقاء أسيرة لمهنة تتناقض وطبعيتها كأنثى ناعمة، وتتناقض مع فكرة “عناة” الرحيمة/الجميلة التي تحب الحياة وتمنح الفرح للآخرين.

 يفترض أن ينهي الشاعر القصيدة عند هذا الحد، لكنه يستمر في الحديث عن “عناة” السجانة قائلا:

“لكنها راحت تباهي في الطريق

باسمها

لصحابها …

في انها .. ولتوها

استمعت لقصة اسمها … مني ..

وراح صحابها يتبسمون

مجاملين فتاتهم بسذاجة

في وجهها …

كانت كماجنة تباهي باسمها

 …ما همها دفىء الحقيقة”

اهتمام السجانة  بشكل اسمها والمعنى الذي يحمله وليس بمضمونه، يشير إلى أنها لا تفقه من الحديث شيئا، وجل ما تريده هو “الشكل” فقط، فهي كمرأة ساذجه تهتم بالمظهر متجاهلة أهمية الجوهر، وهذا التناول يشير إلى أن الشاعر/القاص ما زال محافظا على حبكة القصة، لهذا يستمر في تقديم مشاهد عن تلك السجانة/الأنثى.

يختم الشاعر القصة موضحا ما شعر به بعد تلك الحادثة بقوله:

 …”

أما أنا فلقد شعرت

برجفة … واهانة

قد حرت في هذي الوقاحة

وحدي أدري غصتي

بين زوايا غرفتي

قمت التقطت براعتي …

ورحت ادفن لوعتي بقصيدة

هذي القصيدة”

كلنا يعلم أن المخففات عناصر الفرح التي يلجأ إليها الشاعر/الأديب هي المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، وهذا ما نجده في قصيدة “عناة” فقد تعامل الشاعر مع المرأة/السجانة، وحاول أن يحررها من مهنتها وطبيعة تفكيرها، لكنها بقيت في الحضيض، وقد التجأ إلى الكتابة/القراءة من خلال تناوله لملحمة البعل بتفاصيلها الدقيقة، فكانت الطبيعة حاضرة من خلال النص الملحمي، وقد حاول إحداث ثورة/تمرد من خلال تعامله وحديثه مع السجانة التي آثرت أن تبقى في مهنتها وصهيونيتها، فلم تنجح ثورته، لهذا وجد ملاذه  في العنصر الذي منحه/اعطاه/فتح امامه عنصرفرح أخر، فكانت الكتابة هي الوسيلة التي خففت عنه شيئا  من قسوة السجانة والبلادة التي تلبستها، فكتب هذه القصيدة لنفسه ولنا.

القصيدة منشورة على صفحة شيق الأسير كمال أبو حنيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى