قول على قول: قراءات فريدة شعراوي لأفكار يوسف زيدان

الإسكندرية | خاص

فى تلك المقالة يستعرض المفكر والأديب الدكتور. يوسف زيدان، أشهر الأبيات فى تاريخ الشعر العربي وأكثرها سخافة، على حد تعبيره، حيث يقول :

أسخفُ الأشعار (١) :

في الشعر العربي عبر تاريخه المديد، آياتٌ بلاغية وصور عبقرية طالما توقف عندها النقاد والبلغاء ومتذوقو الأدب.. لكن فيه أيضًا، كثير من سخيف القول ورديء المعنى، فمن ذلك قول ابن النحوي في مطلع قصيدته المشهورة بعنوان “المنفرجة” وهو المطلع الذي جعله البعض ترنيمةً وترتيلًا وابتهالًا في المجالس والاحتفالات:

اشتدّي أزمةُ تنفرجي، قد آذن ليلُك بالبَلَج

وصحيح أن في هذا القول مواساةً وإشاعةَ أملٍ، لكن كليهما كاذب. فكثيرًا ما اشتدت الأزمات، وازدادت شدّتها، وفي الختام قضت على المأزومين، وذهبوا سُدى.. وبقيت أزمتهم ولم تنفرج

ولا أقصد هنا، فقط، حرب اليمن التعيس أو مآسي سوريا والسودان والعراق. فالأزمات التي لم ولن تنفرج، في ديارنا، لا يحيط بها الحصر .. فتدبّروا

أسخفُ الأشعار (٢) :

من أسخف ما قيل من أوابد الشعر العربي، البيت الذي ختم به عمرو بن كلثوم قصيدته (المعلّقة) التي مطلعها “ألا هُبّي بصِحنك فاصبحينا” .. وما علينا هنا، من أن المراد بالصحن هو الإناء الذي يُعبُّ منه الخمر، ففي هذا البيت الختامي للقصيدة يقول الشاعرُ : إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاما ، تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا

ولا شك عندي في مكانة “عمرو بن كلثوم” بين قومه وبين الشعراء، فهو إن صدقت الروايات التي وصلتنا عن زمنه الجاهلي (وكل ما يروى عن الزمن الجاهلي يجب النظر إليه بحذر) ابن ملك أو أمير من قبيلة تغلب، وأمه هي “ليلى” بنت المهلهل بن ربيعة التغلبي المعروف بلقب الزير سالم (الزير تعني الشغوف بمجامعة النساء) وأنه بحسب الروايات، هو الذي فتك بالملك أو الأمير “عمرو بن هند” ثأرًا منه بسبب سعي أمه إهانة أم عمرو بن كلثوم

ومن وجوه السُخف في ختام القصيدة، تلك المبالغة المفرطة الخارجة عن حدود الواقع والخيال في الفخر الأجوف بالقبيلة، وهو فخرٌ لم تؤكّده الوقائع، حتى أنه قيل قديمًا على سبيل السخرية : قعدت بتغلب عن كل مكرمة ، قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم .. فأيُّ رضيعٍ مفطوم هذا الذي “يخرُّ” له جبابرة الرجال سجودًا ؟ وأين هذا المجد الذي صنعته تغلب بمفطوميها !

وسيقول المتحذلقون، إن المبالغة في الشعر مطلوبة وحسبما قيل، فإن أجمل الشعر أكذبه .. وهذا معنى مريع، لا يجب تمريره على الذهن دون التوقف عنده بالنقد. وقد أدى هذا الكذب إلى مزيد من الكذب، غير المنكر من السامعين العرب حتى يومنا هذا، ولطالما كانت تهبط على آذاننا من وسائل الإعلام الحكومية القصيدة المُغنّاة : أمجاد يا عرب أمجاد ، في بلادنا كرام أسياد

كانت الأغنية تكذب، وكانت البلاد العربية فريسة لاستبداد الحكام المعتوهين، وكانت حالة المحكومين العرب لا يعبر عنها إلا عنوان رواية دوستوفيسكي : مذلّون مهانون .. وانتهي الحال بأن هرب ملايين العرب من بلادهم ذات الأمجاد المزعومة، وما عادوا ” كرام أمجاد” وما كانوا يومًا كذلك، إلا في أغنيات الفخر التعيسة هذه

فتأمّلوا

أسخفُ الأشعار (٣) :

لأبيات الشعر المشهورة، معتادة التداول في الكتب والتردُّد على الألسنة، سطوة .. لاسيما إن كانت من تأليف واحدٍ من فحول الشعراء وكبارهم، مثل أبي تمّام (حبيب بن أوس الطائي، المتوفى سنة231 هجرية) الذي ترك لنا ديوانًا من تأليفه ومختارات من أشعار سابقيه، بعنوانيّ : الحماسة ، الحماسة الصغرى “كتاب الوحشيات”.. كما ألَّف لنا سطرًا شعريًا من أشهر الأشعار في تراثنا، هو قوله : نقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى ، ما الحبُّ إلا للحبيب الأول

وقد اشتهر الشطر الثاني من هذا البيت الشعري، وكثر تردده وتداوله حتى اكتسى في الأذهان بيقينٍ وهميٍّ، مع أن معناه يصعب عندي قبوله على علّاته.. فالحبُّ حالةٌ حالَّة في زمن محدود، يكون خلاله المحبوبُ الحاليُّ هو المحبوب الوحيد، وما عداه لا يُعدّ حبًّا وإنما ذكريات.. وقد عارض “صفيُّ الدين الحلِّي” قول أبي تمام، بقوله : لا حب إلا للحبيب الآخِرِ ، فاصرف هواك عن الحبيب الأولِ

وليس في الحب حبيبٌ أول وآخر أخير، لأنه حالةٌ حالية، بصرف النظر عن مرات الوقوع في الحب .. فكل حبيبٍ عند الهيمان في هواه هو الأولُ، وهو الأخيرُ، وهو المحبوبُ الوحيدُ الذي يحنُّ إليه المحبُّ، مادام بالفعل مُحبًّا .. لا أسيرًا للذكريات

فتأمّلوا

الجدير بالذكر أن د. زيدان، متخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه. وقد أخرج أكثر من ثمانين مؤلفا في مجالات متعددة، يتصل معظمها بالتراث العربي، وتتوزع أعماله على فروع الفلسفة الإسلامية، والتصوف الإسلامي الفلسفي، وتاريخ العلوم العربية (وبخاصة الطب)، وفهرسة المخطوطات العربية والروايات والقصص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى