المغربي

يكتبها : محمد فيض خالد

هناك في أعَالي التِّلالِ وسط حقولِ الرِّمالِ الصُّفر القاسية، يشخص كَمعبدٍ من مَعَابدِ الآلهةِ العِظام، مهيبا في قداستهِ، شامخا في بنائهِ، يُغَلِّفه رونقٌ يا طالما انشرحت لمرآها الصّدور، واغرورقت لجلالهِ العيون، وانبلجت لملمسِ لبناته العتاق نفوسا، عشّش اليأس في جنباتها رَِدحا، حتى ظنّت أنّ الموت أفضل إليها من الحَياةِ، تسطع شمس الصّباح الفاترة عليهِ، فتُضيء قُبَته الخضراء رَونقا، يُخفّف من لوعةِ الجموع التي قصدته، من كُلِّ فجٍّ عميق .
خليطٌ من أجناسٍ شتّى؛ لبّوا بعدما سمعوا بكراماتِ الولي الصّالح، فرمالِ (تلته) يكفي التّدحرج من فوقها؛ امتلاء الأرحام بأجنتها )، كُلّ شيءٍ يقذِف في قلبك الطمأنينة ، انقطاع المكان عن العُمران ، قرون الماعز وحَوافز الأبقار المُتَناثِرة في السّاحةِ، أكُف الدّم القاني التي لطّخت الجدران في فوضى مُخيفة، خيوط العنكبوت التي نُسجت فوق النَّوافذِ وبين الزّوايا، الخِرق وبقايا الثياب التي حُشرت في شقوقِ حيطانهِ، خيوط البخور الرّخيص المتلوّية ، المُتَصاعِدة من مجمرةٍ قديمة ، نحيب النّساء المتواصل وحنينهن؛ أن يوثَق الأُلفة بين قلبِ زوجها النّافر ، وقلبها المطمئن بالحبِّ .
زوار “سيدي المغربي” من النّساءِ، أغلبهن من الصَّبايا اللاّتي انقطعت بِهن سُبل الإنجاب، أتوا من القُرى الفقيرة، هناك يُقدّم طلب الخِلفة على رغيفِ الخبز ، تصبح المرأة العاقِر أرضا بورا لا رغبة فيها، لا حيلةَ أمام أولات الأحزان ، إلاّ أن يقصدنه فعنده الحلّ ، تلثم سيدة عجوز عتبة المقام ، تُنبّئ ثيابها الثمينة ، همس حليّها ، ونعلها الجلدي ، أنّها ربيبة بيت عزٍّ ونعمة ، من خلفها صبية لم تتجاوز عقدها الثاني، يَقطر وجهها الأبيض المستدير ، بآخرِ قطرات الملاحة والفتنة ، لم تعد تطيق صبرا بعد إذّ عجزت معها كُلّ الحيلِ، وبارت وصفات الأطباء ، تبكي بحسرةٍ وكمد؛ فتهديد زوجها بالطلاقِ مُشرَعٌ فوق رقبتها كحدِّ السّيفْ.
نزعت عن رقبتها كيس نقود، دسّت يدها بغيرِ اكتراثٍ، ثم قبضت على حزمةٍ منها ، دفعتها لخادمِ المقام طالعها في فتورٍ، يتبدّى في وجههِ ابتساما مُتكلّفا، ورضا مُصطنعا في مُحَيّاه الأمرد المَصقول، تتطاير الرِّقاعُ من فوقِ كتفيهِ، مع صيحةٍ مفتعلة: يا خُدام الأعتاب .. نظرة لخاطر النبي .
قالت زنوبة البدوية، وهي تهشّ أغنامها في حماسٍ وثقة: إنّ التّدحرج من فوق (تلة) “سيدي المغربي” يفكّ أقفالَ الأرحام العقيمة ، ويسحق طلسم السّحرة. ولعلّ في كلامها ما أخرج بعض الزائرات عن طورهِ ، تتذكّر زوجها الذي لا يعرف للعشرةِ الطويلة قيمة. ولا يحفظ للودِّ حُرمة، اندفعت مُتَخلية عن وقارها ورزانتها ، مدفوعة بغريزةِ الأمومة المفقودة، لتُلقي بجسدها البضّ فوق الرِّمالِ ، تتدحرج من أعلى التّلة ، تُنادي بصوتٍ مفجوع :بركاتك يا سيدي المغربي.
في حِميةٍ يتَسابق باقي النّسوة، تلتمع في عيونهن مظاهر الأسى، يُداعِب الأمل مشاعرهن، لم يعد من مطمعٍ إلا أن تظفر كُلّ واحدةٍ بمُنَاها ، قَالَ خادم المقام ، في نبرةِ العارف: لن يمرّ العام ، إلاّ وابنك بين ذراعيك ، يجب العودة ثانيةً للوفاءِ بباقي النّذر.
في خشوعٍ وخضوع ، تمسح النّسوةُ الجدارِ الطّيني ، بين همساتٍ حائرة، وزفراتٍ مُلتَاعة، ودعوات تفيض ألمَا واستعبارا ؛ أن يَجبر الله الخواطر .
توارثنا فيما توارثنا ، مقام ” سيدي المغربي” تركة مُثقلةٌ بالأماني، وأكدار البُسطاءِ تُغرِق الأرض ، نشاهدها ترتسم كُلّ نهارٍ ، في عيونِ زوارهِ ، لا حيلةَ لهم إلا الصّبر ، والتّودد لصاحب الكرامات ؛ أفنوا عُمرا إلى جوارِ صندوقِ نذورهِ، المُتخم بقطعِ النقدية، وحكايات من ضروبِ المُحال ، تتردّد عن تصرّفِ الولي الصّالح ، صحت قريتنا على كابوسٍ مُزعج ، لقد أكلت الرُّطوبة جدران المقام فأتت عليها ، حكى من حضر البناء ، أنّ القبر فارغ تماما من أيّ شيءٍ ، بدأت تنتشر حكاياتٍ عن عقاراتِ خُدام المقام ، امتلكوها في البندرِ ، ورطانة ألسنة أبناءهم، الذّين طرقوا أبواب المدارس الأجنبية، رَطَانة ليست كرطانةِ أبناء الطّين والعَرق ، الذين عَاشوا عُمرا في حِمى “سيدي المغربي” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى