ملامح الشّخصيّات والأمكنة في “عائلة من الرّوهينغا” لمصطفى القرنة

إسلام القريع | ناقدة

مزيج من المشاعر يضعها لنا القرنة في روايته الفريدة من نوعها عربيّا والّتي تناولت “قضيّة الرّوهينغا “، مابين الاستعطاف والألم ، والكره والحقد.

صحيح أنّ الأدب العربي وفي مجال الرّواية خاصّة يخدم الواقع بل وينقله، إلّا أنّ رواية القرنة ” عائلة من الرّوهينغا ” جعلتنا نعيش واقعا ونلمس قضيّة كنّا قد سمعنا عنها حديثًا وتفاعلنا معها دون أن نمسّها أو نراها ، من جنوب شرق آسيا إلى عالمنا العربيّ.

“عائلة من الرّوهينغا” العنوان هو الجانب الإنسانيّ الوحيد في هذه الرّواية؛ لأنّ ما احتوته من الأحداث والوقائع الّتي تسير، والوصف منافٍ تماما لمعنى الإنسانيّة، و “روهينغا” يؤكد بعض مؤرخي الروهينغيا مثل خليل الرحمن أنّ مصطلح روهنغيا مشتق من كلمة “رحمة”، حيث تمتلئ الرّواية بالوحشيّة وضروب من العنف ، لم يسبق لنا وأن تصوّرناها .

سمعنا بـ”بورما” ، مسلمون قد تعرّضوا لأقوى أنواع العنف والتّعذيب والقهر ، و سمعنا عن التّطهير العرقيّ الّذي جرى وما زال قائما وإن كنّا لا نسمع عنه فهو موجود بشكل أو بآخر ، عرفنا ذلك صدفة عبر إحدى مواقع التّواصل الاجتماعيّ أنّ ثمّة مسلمون يعذّبون في الأرض و يحرقون ، تداولنا الصّور فيما بيننا ، جثث محروقة وأنصاف أجساد ،مناظر تقشعّر لها الأبدان، هذا ما كان يصل فقط ، ما مدى تصوّرنا لواقع هؤلاء ؟ لم نكن نتصوّر ذلك ، في رواية القرنة نجد قصّة عائلة من الرّوهينغا تلك الفئة المستضعفة في الأرض قد تناولها نيابة عن كلّ مَن يمثّل تلك الفئة ، قصّة حملت معها رسالة، وأحداثا تنبثق عن واقع أليم، تتحدّث الرّواية عن الأقليّة المسلمة في ميانمار الّتي اتضطهدها البوذيّون، وقدْ تُرجمت للعديد من اللّغات ووصلت لذاك البلد البعيد .

تنحو الرّواية في بثّ قضيّة الرّوهينغا منحى الحياديّة ، و إن كانت من منطلق سياسيّ ، هي تصوُّرٌ لما قد يحدث لتلك الفئة المنكوبة و ما يحدث من تطهير عرقيّ في مثل تلك البلاد ، إذًا من هذا المنطلق نجد أنّ الرّواية اتّسعت في مكانها و زمانها لتخاطب جميع من يقع عليهم حكم التطهير العرقيّ . 

تشكّل الرّواية حالة سرديّة نادرة، حيث تأخذنا جغرافيّا إلى أقصى جنوب شرق آسيا حيث هناك ميانمار وهناك الرّوهينغا، حيث وحشيّة الآسيويّ المتطرّف المتعصّب لهويّته.

 تناولت الرّواية قصّة عائلتينِ من كلّ طرف ، عائلة من البوذيين ، و عائلة من الرّوهينغا ، كلّ منهم لم يكن يمثّل فعليّا عائلة واحدة ، لاي سان في شخصيّته الوحشيّة و عائلته الغريبة يمثّل كلّ مَنْ هو ضدّ المسلمين في بورما و غيرها ، و عائلة حبيب  تمثّل المسلمين في التّهجير و الاضطهاد و الانتهاك ، فنرى أنّ الكاتب قد اختصر المشاهد على عائلتين ينتهي بهما المطاف بالعدالة الإلهيّة في نهاية الرّواية .

الوحشيّة الطّابع العام و الّذي أخذ الحصّة الكبيرة من أحداث هذه الرّواية،يتخلّى الإنسان عن إنسانيّته عندما يتجرّد من المشاعر الطّبيعيّة الّتي تحكم بين البشر ، والّتي تقيس كلّ واحد منّا  و مدى إنسانيّته ، أمّا عن شخصيّات القرنة فقد تخلّت عن صفتها كبشر عندما دنت أنفسهم و اشتهت لحم البشر ، “الضّابط لاي سان ذو الأنياب هكذا ينادونه ربّما لأنّه يقود مفارز ناساكا الّتي أُسّست للقضاء على الرّوهينغا ”  كذلك بدأ القرنة الرّواية بشخصيّة وحشيّة تدعى ” لاي سان ” ضابط يتميّز بشخصيّته المجنونة و الآكلة للحوم الحيوانات غير المألوف أكلها للإنسان الطّبيعيّ كالقطط و القرود ، شخصيّة منفرّة و مبتذلة لا تحترم حتّى نفسها ، و كان يمتلك زوجة كانت تنضمّ إلى جمعيّات لمحاربة الرّوهينغا، كما و لديهم ابنان يدعى أحدهم بـ( ني) والآخر بـ (لو ) ، لاي سان الشّخصيّة القذرة و المستفزّة لأيّ قارئ تأخذك إلى عالم مليء بالوحشيّة و الخوف، فوحشيّة القضيّة تتمثّل في وحشيّة هذا الإنسان حيث كان مولعا بأكل لحوم القردة وحيوان النّيص الذي كانت تعدّه له زوجته، هذا جانب من وحشيته والجانب الآخر يكمن في لقبه “ذو الأنياب” حيث يستخدم أنيابه ليرعب الجنود في معسكره و يرعب البورميين أيضا، هذا البعد النّفسي للشخصيّة و تقديم القرنة له على هذه الهيئة قرّب لنا وحشيّة الآسيويّ البوذيّ ، و جعلنا نتصوّر عن قرب مدى الرّعب الّذي عاشه المسلمون بأدقّ تفاصيله ، حتّى زوجته  جيا لم تكن بعيدة عن تلك الوحشيّة الّتي أصابت زوجها فهي أيضا تسعى لتدمير البورميين بانضمامها لجمعية ” 969″ ، و كانت تخونه مع الرّاهب المتواجد في تلك الجمعيّة و الّذي هو أيضا قد تعرّض في صغره إلى ظروف جعلت منه الإنسان الحاقد ، أمّا عن و لدهما (ني و لو) فهما لم ينقصا شيئا من الوحشيّة الّتي اكتسباها و تعايشا معها في بيئتهم، كان لو صاحب مطعم لتقديم المأكولات المصنوعة من لحوم الحيوانات البريّة ،حيث كانوا يتهافتوا عليه من أقصى البلاد ؛ليتناولوا لحم تلك الحيوانات البريّة والّتي باعتقادهم هي دواء لشّفاء كثير من الأمراض على عكس ما كان في النّهاية .

و قد كان لو متأثّرا في ذلك من والده المحبّ لأكل لحم مثل تلك الحيوانات ، أمّا عن ني  “ني الجنديّ في حرس الحدود و من مفرزة ناساكا و الّذي قام والده بتعيينه بالواسطة ….” ، حتّى مجتمعاتهم باتت تتعامل مع الواسطة و هي من إحدى المقوّمات الّتي تساعد على انتشار الوحشيّة بين أفراد المجتمع فلم تغفل عنهم هذه أيضا و قد كانت من البديهيّات . 

الوحشيّة لم تكن فقط في المعطيات الموجودة من طريقة العيش و النّهم في تناول الحيوانات أو البعد النفسيّ للأشخاص فقط، بل تعدّت إلى مرحلة اللّاشعور أن نجد التّلذّذ في التّعذيب ، ” أتمنّى أن لا ينقلوني لمدينة أخرى أحبّ مطاردة هؤلاء و أصيدهم ببندقيّتي ” ، أصبحوا يطاردون المسلمين كما يطاردون الحيوانات الّتي يصيدونها ليتناولوها مساء ، لم يعد للإنسان قيمة لديهم ” كانوا يغنّون و يرقصون و يدخنون السّجائر كانّهم يحتفلون ”  على شرف جثث المسلمين على ضفاف الأنهار و بين التّلال.

أمّا عن حبيب “الإنسان” و عائلته المنكوبة ، فيبدأ مسلسل المعاناة و الهروب لديهم منذ القبض على حبيب في يد ني ” خرج شابّ يبلغ الثّلاثين ، ضربه ني بالعصا الغليظة الّتي يحملها…” ، الهروب من الظّلم إلى القهر ، يتركون أراضيهم و سكناهم وأهليهم مرغمين ، حتّى حكوماتهم إذا أرادت إنصافهم تجعلهم يحفرون طرقا في الجبال و الصّخر ، تلك الفئة المختصرة بعائلة حبيب في هذه الرّواية تعاني مسلسل المعاناة والهروب يوميّا، ” بالنّسبة لحبيب كانت ليلة سيّئة تسرّب المطر من سقف البرّاكية ، ولم يستطع النّوم لقد ترك وراءه صابر و حسين ابنيه ، و كذلك ابنته خديجة و زوجته مريم في قرية تحيط بها الأسلاك الشّائكة وتحاصرها من جميع الجّهاتِ ، أخوه زاهد فرّ إلى الغابات القريبة من التّربة ، أمّا أبوه فهو يصيدُ السّمك و يهرب كلّما حضر الجيش ، و له طرقه الخاصّة في الدّخول إلى القرية و تهريب بعض الطّعام بعائلة حبيب فقد كانت زوجته ميتتة ” فهذا الاقتباس يُظهر لنا المأساة الّتي كانوا يعيشونها ، فقسم منهم يؤخذ للعمل ” وضعوا يافطة في المعسكر تقول : ( اعمل من أجل أن تنجو) “، فكانوا يحفرون طرقا في الصّخر لصالح الحكومة حتّى يظلّوا على قيد الحياة دون مقابل ماديّ إنمّا فقط من أجل الحياة، الرّابط العجيب هنا أنّ كثيرا من الشّعوب الآن تعيش نفس المأساة لكن بطريقة أخرى ربّما ، اعمل من أجل أن تنجو من الجوع من الفقر من الموت ، ربّما هذه مفتوحة على التّاويل ، ومنهم  ينتهك عرضه وتؤخذ نساؤه رهائن عند البوذيين ومنهم من يقومون بجمعهم في أحد المساجد أو البيوت و يقومون بالتّدفئة على نيران ضلوعهم الموقدة من نار وحشيّتهم . 

نرى أنّ عائلة حبيب لاذت بالفرار و التّخلّص من حكم  هؤلاء الوحشيين لكن هيهات ، يتمّ التضييق عليهم أيضا حتّى حقدهم على تلك الفئة لم يكن يختصر على ترحيلهم فقط بل التّضييق عليهم و ملاحقتهم حتّى آخر رمق على الحدود ” …و لكنّهم يضربون حصارًا ويمنعون كلّ شيء الماء و الهواء و الطّعام يريدون خنق النّاس ” ، فقد نجد أنّهم زرعوا كمائن على الحدود المتوقّع أن يهربوا منها. من ضروب الوحشيّة  أنّ لديهم أطفالا صغارا يقومون  بزرع الكمائن و المتفجّرات في طريق المسلمين حتّى أنّه كان يموت عدد منهم أحيانا أثناء زرعها و لم تأبه الحكومة في ذلك ، فالإنسان آخر ما يهمّهم .

 أمّا عن كلّ تلك الوحشيّة فقد كانت تتمّ بسريّة تامّة خوفا من أن يعلم المجتمع الدّولي و منظّمات حقوق الإنسان ما يحصل في تلك البلاد من قمع و تهميش ووحشيّة  ، ” …. قبل أن يخلع لاي ملابسه العسكريّة ذهب إلى غرفة القيادة فقد حضر قائد اللّواء الّذي كان في جولة استطلاعيّة ، أدّى له التّحيّة العسكريّة وأعطاه إيجازًا عن سير العمل في المنطقة . طلب منه الحفاظ على سريّة هذه الأعمال الّتي قد تُغضِبُ المجتمع الدّوليّ …” تغضب المجتمع الدّوليّ جملة كافية لتنقل خطورة الموقف و قبح التّصرّفات يقابل ذلك تساؤل المسلمين ”  معقول لا أحد يرى أو يسمع ما يحدث هنا ، كم أنتَ منافق أيّها العالم ” ، ما النّفاق المقصود هنا ؟ نفاق المنظّمات العالميّة لحقوق الإنسان ؟، أم نفاق أهل الدّين و العلم؟

” قال الشّيخ و هما يأكلانِ: 

-لا أحد يهتمّ بنا لقد أصبحنا كالشّاة الجرباء .

– سيعود الإسلام غريبا .

– نعم، لأنّنا مسلمون و لن يساعدنا أحد و سنجد الكثير من النّفاق ” 

وحشيّة الموقف ها هنا في معاناة مسلمي بورما  في مواجهة النفاق العالميّ ، و بتخمينهم أنّه حتّى لو سمعوا صوتهم و رأوا معاناتهم لن يحرّكوا ساكنا ، وسيعود الإسلام غريبا كما وُلد . تلك الحقيقة الوحشيّة و المأساة الغامضة الّتي سكنت شخصيّات تلك الرّواية ، ممزوجة و بشكل كبير بالمكان و الحيّز الذّي يعيشون فيه.

من طبيعة الشّخوص الّتي تحرّك الرّواية إلى الحيّز و المكان الّذي يتحرّكون فيه ،  المكان في الرّواية يجتاز كونه شيئا مادّيا ،إلّا أنّنا نجد الوحشيّة في المكان أيضًا ، الجوّ العامّ للمكان و مناخه يسود عليه الخوف و الظّلام و الرّعب ، حيث الغابات الممتدّة ، و الّتي يسكنها حيوانات من شتّى الأصناف و الأنواع ، والمطر الغزير و البرق و الرّعد ، و السّيول ، حتّى أنّبيوت هؤلاء لم تكن مهيّئة لتلك الأجواء السّائدة كانوا على مضض دائما خائفين من أن ينهال المطر على أكواخهم ويفقدوا مأواهم ، فوحشيّة المكان و الإنسان في هذه الرّواية وجهانِ لعملة واحدة ، يكمّل واحدهم الآخر ، ” كان الجوّ ماطرًا و غائمًا و الغيوم السّوداء تزحف وتنطبق على سماء المدينة ” ممّا نلاحظه هنا حتّى الجوّ و المناخ هو ضدّ هؤلاء المستضعفين ، ” صوت الكلاب في الخارج لا ينقطع بالإضافة للمطر الّذي يعزف موسيقاه الخاصّة على البرّاكية . كانت أصوات الغابة كثيرة . الرّياح الشّديدة الّتي تجري حوارا مع الأشجار و أصوات الحيوانات تقفز في الماء” ، فالقارئ عندما تحيط به هذه الأجواء المرعبة فكأنّه يعيش مع فيلم من أفلام الرّعب على شاشة التّلفاز وصف دقيق للحركة و الشّعور و الأجواء العامّة ،  إنّ الأماكن المتّخذة في الرّواية من بيت لاي إلى مفارز ناساكا إلى نهر ناف و الغابات المحيطة بهم تعج بالخوف و طابع الوحشيّة بشكلها العامّ فإن لم تجد حيوانا مفترسا في غابة فإنّك تجد إنسانا متوحّشا في بيتٍ يفتقد الرّحمة و المودّة .

فطبيعة المكان إذًا ساعدت على تصوّر الأحداث والعيش معها بأدقّ تفاصيلها ذلك و أنّ المكان جزء لا يتجزّأ من عمليّة تكوين الرّواية فهو الحيّز الّذي تقع عليه الأحداث .

و اقعيّة رواية عائلة من الرّوهينغا نابعة عن معرفة الكاتب بجميع تلك التّفاصيل عن كثب ، ذلك لأنّنا قد لمسنا الحقيقة بين تلك السّطور بعيدا عن الخيال والتّأليف ، فد كانت رواية القرنة بمثابة عدسة لكاميرا قد وثّقت لنا الأحداث بتفاصيلها ، و نقلت لنا وحشيّة القضيّة كما يجب أن نعرفها ، لم نر يوما حقيقة مسلمي بورما لكنّنا عشناها مع القرنة و تأثّرنا بها ، تأكيدا على نجاح الهدف من الرّواية و هي نقل القضيّة الواقعيّة كما يجب أن تكون بطريقة حياديّة هدفها فقط تصوير الحدث و نقله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى