بلاغة المحو؛ قراءة أفقية لمجموعة “ضوء هناك” للشاعر زكريا شيخ أحمد

د. ثريا بن الشيخ | شاعرة وناقدة – الرباط – المملكة المغربية

برغم الحجر الصحي العام والنسبي استمرت الأنشطة الثقافية في صيغتها الجديدة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة من خلال ندوات ولقاءات ودروس ومحاضرات وحفلات إمضاء.. وفي حمأة الأحداث الكبرى التي يعيشها العالم عَجّت المكتبات العربية بعدة إصدارات جديدة كانت وليدة السياق الجديد وما صاحبه من اكراهات جعلت المبدعين يسعون إلى استغلال معظم أوقاتهم في الكتابة والابداع والتصنيف والمطالعة المستمرة. وفي هذا الصدد وفي زمن قياسي شاركت في حفل إمضاء “ضوء هناك”، وهو منجز شعري للشاعر السوري زكريا شيخ أحمد. ولا شك أن هناك فرقا كبيرا بين القراءة النقدية التي نعتمدها في حفلات الإمضاء وبين الدراسات النقدية الأكاديمية على مستوى الرؤيا والمنهج معا.

بذلك وفي غضون فرحة المشاركة في الاحتفاء بهذا المولود الجديد، وجدت نفسي متورطة جدا بشكل جعلني أعيد النظر في المناهج السابقة التي تعودنا اعتمادها في تقديم الدواوين وفي تحديد بعض الأطر المرجعية التي ننطلق منها .

بلاغة المحو: أرتأيت اعتماد القراءة العاشقة التي تركز على جماليات النصوص الشعرية وعلى القضايا الكبرى التي ترتبط بالشعرية العربية من خلال علاقتها بالنقد الشعري العربي وبالنظام المعرفي الفلسفي. وبما أننا أمام منجز شعري يندرج ضمن إبداع ما بعد الحداثة، فإننا سوف نهتم بالقراءة الأفقية التي تجمع بين كيفية بناء النصوص وطريقة تشكلها وآليات اشتغالها .

لقد بُنيت القصائد على عدة لحظات شعورية قدم خلالها الشاعر نفسه في البداية باعتباره كونا صغيرا. ثم بنى عالمه بأسلوب يتجاوز قوانين الفيزياء تَجلى عبر إمكانية تغيير زاوية الرؤية من أعلى ومن أسفل دون أن يحدث أي ارتباك في الرؤيا. لقد بنى عالما خاصا به وكأنه أول شاعر يمتلك سلطة الذاكرة وهو يؤسس رؤيته على تُربة غير خاضعة لما تَعُج به الذاكرة من صُور واستعارات قديمة. لقد بنى خطه خارج الخط المعهود، خارج الظل وخارج المرآة في مكاشفة حقيقية وإن كانت صادمة وجارحة. نحن أمام منجز شعري يفوق مائتي صفحة : قصائد من خلال عناوينها: جزء من سيرة ذاتية، لا أحلم أن أكون شاعرا ، مغفل من يعتقد أن الحروب تنتهي، في الاتجاهين، مفهوم آخر للأشياء، لو أني كنت خشبا، رصاصة في الرأس، ما الفائدة من الكتابة  ..

 وَلّدت عِدة أسئلة قَلقة وتساؤلات فلسفية خالية من طرق التفكير المستوردة ومن طبيعتها النمطية. وكان طبيعيا لأي قراءة نقدية – وإن كانت أفقية- تحفيز الناقد على ضرورة إدراك المنهج الذي يناسب طبيعة النصوص. فمن خلال تفرد النصوص بمضامينها  وشكلها الفني تطرح قضية أساسية في الشعرية العربية وهي علاقة الإبداع  بالتراث.  فهل يستوعب الشاعر التراث ويتمثله ليمحوه و يتجاوزه أم أنّ فِعلَ الاستيعاب هو الذي يجعله “يمحو ” لِيكتب؟

وردت القصائد شبه صرخة أو حشرجة، انبثقت من القلب عنيفة مدببة تحمل صوانة الجنون والغضب والألم والأمل؛ هكذا يكون شعر من خرج إلى الدنيا فوجد كل شيء على خلاف ما كان يتوقعه. واقع تفترض معايشتُه إلغاءَ ذاكرة موجوعة مبنية على حرف مَوبوء . فلكلِ عصر خصوصياته ولكل شاعر بهاؤه. مُنجزٌ شعري بُني على كتابة مستفزة للذاكرة وللتراث وللنظام في لغة شفيفة تندرج ضمن السهل الممتنع وفي خط سردي يستحضر صوت السارد ويُورط بقية الضمائر الأخرى الغائبة. فحين تكون الرؤيا منطلقة من منظار كاشف، فإن تغيير زاويتها وضعياتٌ لا تغير منها  ولا تنقص من عمقها شيئا ؛ فقابلية بعض النصوص للقراءة من أعلى ومن أسفل أكبر تحدٍّ  من شأنه استفزاز الإبداع والنقد  والتلقي. لا نَدعي القيام بدراسة نقدية شاملة، وقد أشرت إلى ذلك في المقدمة وإنما نقرأ الإبداع قراءة أفقية عاشقة تسعى إلى ملامسة المعنى وفهم بعض ما ينطوي عليه من قيم فنية وفكرية وجمالية وإنسانية عليا.

يذهب حازم القرطاجني في كتابه المنهاج  إلى قيام الإبداع على قوى أسميها ملكاتٍ: ملكة حافظة وملكة مائزة وملكة صانعة. والأمر يعلق بموهبة الشعر وقيامه على ما تراكم في الذاكرة من مختلف الأشكال المعرفية الأخرى التي تكون ثقافة المبدع . ويبدو من خلال قصائد الديوان قيام لغتها على النسبة الذهبية للأشياء. فالتناصات أو التعالقات بعيدة ولا تكاد تَعن عن نفسها إلا بعد التدقيق والتمحيص، فلسنا أمام شاعر تقليدي يبني نصوصَه على نماذج تراثية معينة، وإنما أسس لنفسه أسلوبا خاصا يحمل ملامحَه هو دون إحداث  قطيعة نهائية مع التراث.

“ضوء هناك”: عتبة العنوان: يتألف من مُركب إسمي قائم على التقديم والتأخير كما يوهم القارئ لأول وهلة – نقصد القارئ الذي يؤمن برتبة الأشياء – برتبة الجملة في اللغة العربية؛ إلا أن التأخير نفسَه جوهر تحديد المقصدية وضدها في نفس الوقت. والحديث عن التحديد استحضار للحدود النوعية الفاصلة بين الأشياء في طابعها النمطي المعهود . فالسياق هو الذي يبني الدلالة ويكسبها طابعها الخاص. إن بؤرة الدلالة هي “الضوء” وليس “هناك” إشارة للمكان البعيد، لأن المكان هنا ليس ورقيا فحسب، وإنما يبدأ من بعده الشعري ليشمل العالم العربي برمته. وفي جغرافية اللغة، تأسست الدلالة التأويلية من خلال بعد الشاعر عن وطنه الذي ظل محمولا في الذاكرة والوجدان. لدلالة (ضوء) هنا إشارة إلى الأمل الذي يصاحب قبس النور والذي برغم ضآلته يُولد أملا كبيرا في التغيير.

وهذا الضوء (القليل) لأنه ورد بصيغة مفرد / نكرة  كَشفٌ لعورة العتمة التي تكاد تشمل ال – هناك – كاملة- إشارة إلى المكان التاريخي الذي يعتبر مصدر وجع الشاعر لما يعرفه من تقلبات وصراعات مستمرة. فهل يعتبر هذا العنوان عتبة أم أنها الجملة المنطلق التي تختزل جوهر الموضوع: إنها ميزة تكاد تشمل كل العناوين الفرعية الأخرى والتي من من دلالاتها العميقة وتداعياتها قدمت منجزا شعريا يجمع بين مفهوم الديوان ومفهوم المجموعة الشعرية. فهناك تيمة تُوحد كل القصائد، وهي تركيزها على الانسان الشعري أو الكوني الذي لا ينحصر في مجال دون آخر، فهو يحمل بداخله ما يجعله يلامس اللانهائي.

فاختلاف النصوص عن بعضها البعض يوحي بنضج التجربة الشعرية وقيامها على رؤيا كونية تنمو مع تحولات العالم. وقد تجلى ذلك في ابتعادها عن النماذج وقيامها على رحلة جديدة خارج اللغة المألوفة. هكذا تأسست قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة بعيدةً عن اقتفاء أثر الغير ، مما جعلها تبطل المناهج التي تعودها الدرس النقدي سابقا.

إن الصعوبة لا تكمن فيما يبدو صعبا، فجميع النصوص تبدو مَغلقة ومكثفة في آن، ومع ذلك نطرق بابها بعنف أحيانآ و  بِلين  أخرى حتى تأذن لنا بالدخول ، بل يكمن شَرَك الدلالة في التوسل بالسهل الممتنع الذي اقتربت فيه اللغة من طابعها البدائي  ” كلما قربت اللغة من وضعها البدائي كانت أكثر تصويرية “مالارميه .

 إن الانطلاق من مفهوم السهل الممتنع يفترض الانطلاق من خلفية واضحة ألصق ما تكون بمفهوم الشعر نفسه. وليس المقصود به عمود الشعر كما صاغه المرزوقي في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام ولا من خلال التصورات النظرية لمفهوم الحداثة أو الحداثوية ولا من خلال تعريف قدامة بن جعفر في كتابه في نقد الشعر  “الشعر قول موزون مقفى دال على معنى، وإنما من خلال الثورة على مفهوم الأشكال  الفنية التي تصبح قوالب صناعية جاهزة.

بذلك يظل الشعر في تشكل مستمر، في ولادة مستمرة، يبقى تعريفه ما ورد عند مس شتاين بأن الشعر هو الشعر هو الشعر هو الشعر. صحيح أن الشعر عِلم “وما علمناه الشعر” – وقد كان حلم ابن طباطبة العلوي وجماعته التنظير لعلم الشعر، إلا أن عمق السؤال ومفهومه يقوم على عدم إمكانية وضع شكل نهائي للفن عموما وللشعر بشكل خاص. ومن خلال قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة بما ينطوي عليه المصطلح من رفض واستهجان، ندرك عدم وجود حدود نوعية فاصلة بين أجناس التعبير الشعرية منها والسردية. ففي كتاب Le récit poétique   لصاحبه Jean Yves Tadier , طرحت هذه المسألة بوضوح.  وقد كانت قصائد  “ضوء هناك” صيغة جديدة للقصيدة التي تؤسس لمفهوم الشعر من خلال طريقتها الخاصة في التعبير وهي تقدم مفهوما جديدا للايقاع الذي يعتبر الدال الأكبر في الشعر حسب تعريف ميشونغ. ومما تنطوي عليه هذه القصائد قدرتها على توليد عدة تساؤلات حول علاقاتها بقضايا الانسان والفكر والفلسفة والوعي ومختلف أشياء هذا العالم.

يقول الشاعر : لست شاعرا… فالشعراء يبكون بين الماضي والحاضر ، وهناك تناص ماكر مع بنية القصيدة العربية القديمة وقيامها على البكاء على الأطلال.. لكن الحاضر اليوم يبطل التاريخ . فما قدمته الذاكرة سابقا ولد سلطة فكرية ونظاما أنتج الشك لا اليقين؛ لذلك فالشعر وليد هذا التغيير في الوعي الشعري وفي موقف الشعراء من اللغة ومن الشعر ومن العالم ، والشعر أيضا هو وليد هذا التغير المستمر الذي يعيد للنثر سلطته على التاريخ.

وقد قامت مختلف التوجهات النقدية على كون النثر أصل الأجناس الأدبية كما اعتقدت كثير من الدراسات أن الإنسان شاعر قبل أن يفكر. لسنا هنا في معرض تحديد الأسبق هل الدجاجة ام البيضة ، فالأصل هو السؤال وليس الجواب، تتغير الأجوبة التي تغيب اليقين والحقيقة ويظل السؤال مستمرا وهو يستفز الإبداع والفكر والفلسفة والدين. فمتى كان البحث عن الحقيقة هدف البحث أو رهان الدلالة ؟ قضايا فكرية وإنسانية راجت فيها قصائد هذا المنجز الشعري.

إنه مأزق الانسان الكوني ومازق المرآة . فلأن الأجوبة مخاتلة، يظل السؤال مستمرا ، فهو منهجي ولا ينطلق من اعتبار الحقيقة مطلقة وإنما نسبية جدا، ورهانه الأكبر هو الدخول في علاقة ما معها؛ فهي مخاتلة، نسبية جدا وسياقية جدا. فلماذا يكون الفرق شاسعا بين المرآة وبين الشريط المصوَّر؟ إن المرآة برغم تعدد أشكالها ثابتة مرتبطة بزاوية رؤية صاحبها،  ومخاتلة الحقيقة هدفها الاسمى. أما الشريط فهو متحرك وهو يحمل رؤية الآخر لا رؤيتنا نحن. لذلك فهو الأقرب إلى الحقيقة. إذن أين تُصنف لغة الشاعر؟

حين وصفت لغة الشاعر بكونها شفيفةً وشفافة فلأنها ذكرتني بتفاصيل قصائد لاماراتين على مستوى العناصر المكونة للحظة الشعورية : خوذة –  بنادق –  دماء – جنود حرب – ثورة  – نار –  إحراق، بوعزيزي : معجم حربي يرتبط بالحرب وبما نعت بالربيع العربي ، وفي سياق الحياة أو الحب: نجد عوالم الطبيعة من الطيور و العصافير والأشجار والضوء والظلام والعتمة؛ تفاصيل صغرى أنشأت معجما مفتوحا يشمل عالم الشاعر وواقعه ورؤيته ووعيه الشعري .

فكيف تُحاصَر الدلالة؟  النص حَمُال للمعنى، وهو قابل لكل القراءات الممكنة ، وهو لا ينتج دلالته لذاته، وإنما من خلال دور النقد في السعي إلى محاورة بياضاته وما يقوم عليه من تناقضات.  فالنص الجيد يحمل توتراته بنفسه، وقد تجلى ذلك في هذا المنجز الشعري بشكل فرض المنهج المناسب لخصوصياته ولما يقوم عليه من دلالات وايحاءات وتداعيات.  فالنص هو الأساس وليس المنهج، وهنا تكمن المفارقة الكبرى: فهذه القصائد لا تُبطل فقط اعتمادَ الأدوات المنهجية المعتادة وإنما تُغري البحث وتستفزه بالسعي إلى تحقيق قفزة نوعية يتجاوز فيها الناقد أساليب  كتابات نمطية يسعى إلى تحيينها منهجيا لتساير الراهن برغم قيامها على خلفيات تقليدية.

القراءة باتجاهين: القراءة الأفقية والعمودية معا: سَعدنا كثيرا بنصوص شعرية جديدة مرنة جدا، اضطلعت فيها اللغة بعدة أدوار استحال فيها المعنى لوحة فنية تُعتبر ذِروة العمل الفني؛  أصبحت فيها اللغة تشكيلية بمختلِف عناصرها المقصودة والمفهومة، كما تعتبر صيغة لتحدي الإبداع من جهة والتلقي العادي من جهة أخرى، فاقرأ كما تشاء أيها المتلقي، فالرؤيا واضحة، ولم يعد هناك حاجز يَحول دون إدراك الحقيقة، ملامسة المعنى واللامعنى.

لقد نجح الشاعر في بناء استراتيجية قصائده وهو يبتعد عن اللغة الاثيرة، عن شَرَك التاريخ، فاللحظة التي يتوافق فيها المبدع مع اللحظة ومع الواقع تَفقد اللغة أهمّ رهانات الخطاب الذي تؤسسه وتؤسس له وتختفي تَحت بياضاته وفراغاته. لا أحد يجادل اليوم حول سُقوط مركزية الشعر بمفهومه القديم، فالسلطة اليوم للسرد، إلا أن هذا لا يعني إعلان موت صوت الشاعر وجدوى القصيدة، وإنما يؤكد تشذّر الشعر في كل الأنماط الأخرى بحَدسه الثاقب وتشكله بوعي جديد حريصٍ على الإبقاء على شعرية ناضجة، قائمة على الفكر وعلى شعرية اللغة خارج اللغة النمطية التي أدت إلى اِفقاد الشعر جدواه أمام عصر متحول باستمرار، يرفض النماذج ويسعى إلى التأسيس لخطاب كوني يلزم الشاعر بالاضطلاع بأدواره الكبرى في ضمان التوازن بين الخطابات الأخرى .

وخير ما أختم به  تقديمَ هذا المنجز الشعري: “ضوء هناك”  أننا أمام تجربة شعرية اشتملت على مرتكزات الرؤيا الكاشفة، حققت ثورة على سلطة الكتابة وهندسة الورقة بتحدي القراءة والكتابة معا بحيث أثبتت سلطَتها أثناء السرد وقد أصبحت تشكيليّة، ألوانا ناطقة لا تخضع لغير منطق الشاعر وقدرته على تطويع اللغة لتستجيب لمقصدياته دون أن تفقد طابعا الماكر، فالشاعر يَرسم باللغة من خلال نظام رموز بَناهُ لنفسه دون الإغراق في الغموض أو الاستعانة بما راكمت الذاكرة من استعارات ميتة.

فالشاعر لا يكرس النموذج وإنما أسس لخطاب فني يستفز فيه النقد كما يستفز الإبداعَ، وهي مخاطرة لابد منها لتحقيق إبداع حقيقي ومتفرد، كيف لا وهو المثقف السوريّ الذي يحمل جرحَه وتاريخَه خارج وطنه قسرا في انتظار مستقبل لابد آتٍ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى