طيفُ اليمامة

شعر: يوسف حطّيني | أكاديمي بجامعة الإمارات

“حين جاء شيوخُ القبائل؛ ليصلحوا بين البكريين والتغلبيين بعد مقتل كليبٍ بنِ ربيعةَ على يدِ جسّاس، دعا الزيرُ سالمٌ اليمامةَ ابنةَ أخيه القتيل؛ ليسألها أمام القوم: ماذا تريدين لتصلحي بين أخوالك وأعمامك؟ فقالت: أريد أبي حيّاً”.

أبي يا أبي

من سقاكَ المنيّة كأساً من الغدرِ

في طعنةِ الظهرِ

كي يضعَ الرّوحَ في سدرةٍ لا تُنالْ؟

أما كان من حقّ وجهيَ أن يتوضّأ

من مقلتيكَ بعذبِ الوصالْ؟

ألستَ الملاذَ الّذي يحتوي وجعي

حين تجتاحُ صدري النّصَالْ؟

ألستَ حِمى البيتِ يا أبتي؟

كيف يرمونَ بي في الغياهبِ عاريةً

ثمّ يسعونَ للصّلحِ بينَ الذّئابِ

وطُهْرِ الغزالْ

أريدكَ حيّاً،

لكي تتدثّرَ بالدّفءِ هذي الرّمالْ

أريدكَ حيّاً

لكي يملأَ الماعزُ الجبليُّ

رؤوسَ الجبالْ

(2)

فراشةُ نورٍ أنا يا أبي

أسرجتْ حلكةَ الرّوحِ

في زمنِ النّارِ

حينَ تلظّى جحيمٌ على ثغرِها

وغطّى على ذهَبِ الكستناءِ

ندى شَعرِها

ولكنهم سرقوا عندما قتلوكَ

شَذَى عطرِها

أتذكرُ حينَ أويتُ إليكَ

كخائفةِ الطّيْرِ

إذْ كنتَ سَجّادةَ النُّورِ للتّائهينَ

وتعويذةَ الموجِ تحمي الغريقْ

لقد كنتَ تملأ دنيايَ

يا أبتي

هم يريدون أن أختفي

كي تموتَ الحكايةُ

لكنّني لستُ ظلّاً لأعشقَ ظلّاً

يراودُ أغصانَ قلبي

بشهدِ الرّحيقْ

وما كانَ بي شبحٌ

كي يلوّحَ لي شبحٌ

ثم أتبعُهُ خلفَ عتمِ المَدَى

ولستُ صَدىً

كي أطاردَ رجعَ الصَّدى

وإنّي هنا..

ها هنا الآنَ

أحيا حياتي شهيقاً.. زفيراً

بملْءِ الرّدى

وها هو وجهي يطلُّ على الآخرينَ

كحزنِ النّدى

وها هو صوتي يكذّبُ من لا يراني

سوى ذرةٍ في غبارِ الطّريقْ

أريدكَ حيّاً

لتبقى ليَ الشّمسُ وحدي

أريدكَ حيّاً

لكي تستمرَّ الحكايةُ خضراءَ

في أرضِ جدّي

ويزهو البريقْ

وكي تمحقَ الغاصبينَ

بسيف التّحدّي

ويزهرَ قوسُ الفراشاتِ في حقل وَردي

أريدكَ حيّاً

ففي كل خفقةِ قلبٍ

حريقْ

(3)

تطلُّ على غربتي يا أبي

كي تظلّلني مثلَ صفصافةٍ

في جحيمِ اليبابْ

لو انّك تعلمُ

كم طعنةٍ أدمتِ الرّوحَ بعدكَ

كم سهمِ غدرٍ تخفّى وراءَ الضبابْ

لو انّك تعلمُ

كم إخوةٍ صلبوني على درجِ الوقتِ

كم إخوةٍ أسرجُوا خيلهم للعدوِّ

وكم حاصرونيَ في الجبِّ

كي يمسحوا من حنايا العزيمةِ

عن صخرتي: “لا تصالحْ”

ولكنّها تكبرُ اليومَ

تنمو كصبّارةٍ،

وترنُّ على وَجعي

“لا تصالحْ”:

ترنُّ على قلبِ سالمَ عمّي

تنوءُ به عن لظى اللّيلِ والخمرِ

تدفعه للنزيفِ

فيدمي الحرابَ من الأخوة المتخمين

بذلّ الهوانْ

ولكنه لا يعيدَك حيّاً

إلى المرتجى في حديقةِ عمري

ولا ينعشُ الروحَ في طفلةٍ

ودَّعتْ عمرها في احتضارِ الهديلِ

وليسَ يحرّرُ قبّرةً من سُجونِ العدوِّ

وليس يضيء سنا نجمةٍ

في سماءِ الجليلِ

كما يشتهي الأقحوانْ

فسالمُ عمّي يراك دماً طازجاً

يتحرّكُ نحوَ المقابرِ في كل آنْ

وأما يمامتُكَ البِكْرُ

فهي ترى فيكَ تلويحةً

لقيامةِ هذا الزّمانْ

ونجماً يضيءُ المكانْ

تعال نُضِئْ في المثلّثِ

فاتحةَ المهرجانْ

وشمعةَ حبٍّ

تناوشُ في عطرها زهرة البيلسانْ

وقمْ يَنْبُتِ الرّملُ في غزّةٍ

سوسناً ونجوماً تبدّدُ عتمَ الدّخانْ

وقمْ كي تعودَ الجذورُ

إلى ضحكةِ السّنديانْ

(4)

حنانيكِ يا طفلتي

إنَّ هذا الشِّتاء طويلٌ عليّ

وموحشةٌ ليلتي دونَ وجهكِ

موحشةٌ غربتي

دونَ دفْءِ ابتسامتكِ الساحرَهْ

هوَ المنجلُ الوحشُ يحْصُدُ عمري

ويسعى ليرسمَ نجمته

في جبينِ سماءاتنا الساهرَهْ

وهذا النزيف الّذي تعرفينَ

يليقُ بجرحٍ

ينزُّ.. ينزُّ ولا ينتهي

ما لنا في المنافي الشّقيقةِ قبرانِ

حتّى نموتَ كما نشتهي

خذي دفترَ اللّيلِ يا حلوتي

مزّقي عتمةً في صدورِ الأيامى

اللواتي يعاقرْنَ دمعَ الرِّثاءْ

أنا لم أمتْ يا يمامةُ

ما زلتُ أسمعُ دفءَ نشيدكِ

يعلو ويرفعني

نحوَ شمسِ الرّجاءْ

فأبحثُ عن نجمةِ الصّبحِ

في قهوتي

كي تظلّي

كفاكهة من ثمارِ التجلّي

وكي لا تذوبَ حروفَ القصيدةِ

في كأسِ ماءْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى