أفكار حول التعليم

أ. سامي قرّة | فلسطين

يحتوي هذا المقال على حفنة من الملاحظات والمقترحات التي من شأنها، من وجهة نظري، الارتقاء بعملية التعليم والتعلم في مدارسنا وجعل هذه العملية مصدر فائدة ومتعة للمعلمين والمعلمات والتلامذة. وهذه الملاحظات والمقترحات هي حصيلة تجربة خضتها لسنوات طويلة في مجال التعليم على المستويين المدرسي والجامعي.

أثناء عملي كانت تظهر العديد من الأسئلة والتي هي نتيجة طبيعية يفرضها واقع العمل في مجال التربية والتعليم. هي أسئلة بسيطة جدًا وسهلة للغاية ينبغي على كل معلّم ومعلّمة التفكير بها؛ لكنها في نفس الوقت أسئلة قد يصعب الإجابة عليها: ما هو التعليم؟ ما الهدف منه؟ وهل نظام التعليم لدينا يُعّد أولادنا وبناتنا لمستقبل أبهى وحياة أفضل؟ هذه الأسئلة ليست جديدة، فقد شغلت بال الكثيرين من المفكرين التربويين في السابق وما تزال. والإجابات عليها تختلف من زمن لآخر ومن مجتمع لآخر نظرًا للاختلافات البيئية والتطورات السريعة التي تحدث خاصة في عالمنا اليوم.

نسعد بأولادنا وبناتنا ونفخر بهم، ونحاول دائمًا توفير الأفضل لهم كونهم عماد المستقبل. ونقول دائمًا أن الأطفال أغلى ما نملك ولذا فهم يستحقون أفضل معاملة. لكن إذا نظرنا إلى واقع التعليم في بلدنا نرى أنه لا يعطي أولادنا وبناتنا حقهم بل يسيء لهم كثيرًا. فلنأخذ على سبيل المثال مسألة التسرب من المدرسة. وفقًا للمركز الفلسطيني للإعلام في مقال نُشر على صفحته الإلكترونية في 8 شباط 2018، كشفت إحصاءات أجرتها بلدية القدس أن “نسبة التسرب من مدارسها الإعدادية والثانوية بلغت 55%” خاصة من المدارس الشاملة. أمّا في المدارس الفلسطينية في الضفة كشفت دراسة حول التعليم الأكاديمي في فلسطين أجراها الباحث أ. د. محمود الجعفري، أستاذ الاقتصاد في جامعة القدس في أبو ديس، “أن نسبة التسرب آخذة في التزايد من 13% عام 2009/2010 إلى أكثر من 30% عام 2016/2017”. وإذا استمر التسرب على هذا المنوال فسوف يواجه المجتمع الفلسطيني أزمة اجتماعية كبيرة قد يصعب التغلب عليها.

لكن مسألة التسرب هي مجرد غيض من فيض. فالطلبة الذين يذهبون إلى مدارسهم بانتظام يذهبون إليها مثقلين رغمًا عنهم، ولا يشعرون بالانتماء لها، ولا يجنون فائدة كبيرة منها. والأسباب في ذلك لا تتعلق فقط بالإنفاق على التعليم، أو بحجم الصفوف المكدّسة بالطلاب، أو بالمبادرات التعليمية التي تُطرح من أجل النهوض بمستوى التعليم. تكمن المشكلة الأساسية في أن الجهة المسؤولة عن قيادة دفة التعليم في مدارسنا تقودها في الاتجاه الخاطئ.

هنالك ثلاثة مبادئ أساسية تعتمد عليها حياة الإنسان من أجل الازدهار والتقدم هي التنوع والفضول والإبداع، وهذه المبادئ تتناقض كثيرًا مع ثقافة التعليم السائدة في مدارسنا التي يعاني فيها المعلمون والمعلمات ونتوقع منهم دون وجه حق خلق أجيال جديدة من المتعلمين يتمتعون بقدرات ذهنية عالية؛ وهذه الثقافة هي نفسها التي يعاني منها أولادنا وبناتنا ونتوقع منهم أن يصمدوا فيها وكأنهم أصنامًا حجرية لا حياة فيها وليس لهم احتياجاتهم الخاصة.

يختلف الأشخاص بطبيعتهم عن بعضهم البعض، فالتنوع سمة أساسية من الحياة الإنسانية، والتعليم في مدارسنا لا يعزز مفهوم التنوع بل يقوم أصلًا على الامتثال. أي أن مدارسنا تقرر توفير مجموعة معينة ومحددة من المواضيع وتتوقع من الطلاب والطالبات الالتزام بها وتحقيق الإنجازات بشأنها. ويبدو أن عملية التعليم تنحصر ضمن نطاق ضيق من المواضيع يشمل في أغلب الأحيان العلوم والرياضيات واللغة والتاريخ والتربية الوطنية وبعض المفاهيم الأساسية في التكنولوجيا. وهذه جميعها مواضيع هامة لكنها غير كافية من أجل خلق أجيال جديدة تتمتع بنمو عقلي ونفسي وجسدي كامل. فالتعليم الحقيقي يعطي أيضًا أهمية للعلوم الإنسانية مثل الفنون بجميع أشكالها كالرسم والموسيقى والرقص ومبادئ الفلسفة والأدب والتربية الرياضية وغيرها من المواضيع التي تُعنى بالجوانب العاطفية والإبداعية لدى جماعة المتعلمين. (قد يدّعي البعض أن مثل هذه المواضيع يتم توفيرها عبر برامج ونشاطات لامنهجية؛ لكن النشاطات اللامنهجية لا تستهدف جميع فئات الطلاب والطالبات، وهي في أغلب الأحيان ليست إلزامية وتتم في حال توفر الوقت لها. من ناحية أخرى، في حال تمّ إدماج هذه المواضيع ضمن المنهاج الأساسي فلن يبق هنالك حاجة للبرامج اللامنهجية).   

أثناء لقائي مع بعض أولياء الأمور كنت دائمًا أطرح عليهم هذا السؤال: ماذا تتمنى أو تتمنين أن يصبح ابنك أو ابنتك في المستقبل؟ وكانت الإجابة تقريبًا ذاتها من جميع أولياء الأمور: أحب أن يصبح ابني طبيبًا. أحب ان تصبح ابنتي مهندسة. أتمنى أن يصبح ابني محاميًا مرموقًا، وغير ذلك. فهل هناك أب وأم يحبان أن يكون ابنهما مثلا عازف كمان في أوركسترا عندما يكبر؟ هل هناك اب وأم يحبان أن تصبح ابنتهما رياضية محترفة؟ أو ممثلة مسرح؟ أو رسّامة؟ أو راقصة باليه؟

نسمع مؤخرّا الكثير من الشكاوى من المعلمين والمعلمات والإدارة المدرسية بأن العديد من الطلاب والطالبات يعانون من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط. قد يكون هذا صحيحًا لكنني أعتقد أنه يمكن التعامل مع هذا الأمر بسهولة. إن الطفل الذي يجلس لساعات متواصلة بجانب طفل آخر على مقعد ضيق ولا يبدأ بالتململ والتحرك هو طفل عاجز لا يمكنه التعبير جسديًا عن ضيقه. مثل هؤلاء الأطفال لا يعانون من حالة نفسية بل أنهم يعانون من الإساءة لطفولتهم. ينمو الأطفال بشكل أفضل إن توفر لهم منهاجًا واسعًا يمكنهم من استغلال مواهبهم المتعددة وليس فقط قسم منها. لا تساعد العلوم الإنسانية الأطفال على تعزيز قدراتهم العلمية فقط، بل هي تخاطب ايضًا صميم كينونتهم. ومن اللافت للانتباه إن إرهاق التلاميذ بالفروض اليومية يمنعهم حتى من ممارسة هواياتهم أو حتى من الاستمتاع بجمال الطبيعة.

يقول الشاعر الإيرلندي وليام بتلر ييتس أن العقل ليس وعاءً علينا تعبئته بل نارًا ينبغي إشعالها. فإذا أضئنا شعلة الفضول لدى طلابنا وطالباتنا فهم يستطيعون أن يعلموا نفسهم بأنفسهم دون مساعدة من الغير لأن صغار السن ميّالون للتعلم بطبيعتهم. (من وجهة نظري، أحد الأخطاء الشائعة التي يرتكبها أولياء الأمور أنهم دائمًا يحاولون مساعدة أولادهم وبناتهم في إنجاز فروضهم المدرسية، وهذا يخلق في الأطفال شعور بأنهم غير قادرين على التعلم ويعيق نمو مهاراتهم الدراسية، على الرغم من مساعدتهم على الحصول على علامات أعلى. فكما نعلّم أولادنا وبناتنا مسؤولية ترتيب أسرّتهم والحفاظ على نظافتهم الشخصية ونظافة بيئتهم، علينا أن نعلمهم مسؤولية تعليم أنفسهم بأنفسهم لأن التعليم عملية مستمرة تستمر مدى الحياة. وكما يقول الكاتب الفرنسي إرنست ديمنة، بالطبع علينا أن نعلّم أبناءنا وبناتنا، لكن علينا أيضًا ان نتيح لهم المجال كي يعلموا أنفسهم). شدّد مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم (2009) المنعقد في قطر على أن التعلم مدى الحياة أضحى أمرًا أساسيًا ودعا إلى “تجديد طرق التعليم الراهنة التقليدية التي لن تكون نافعة بعد حين” بسبب تطور الذكاء الاصطناعي والحياة الذكية التي تتطلب مهارات جديدة. “لعلّ المعادلة القادمة هي تعليم مهارات حلّ المشاكل والتركيز على الإنجازات، وليس التعليم لأجل التعليم”، يقول الدكتور فادي عمروش المحاضر في جامعة غرناطة في اسبانيا.

المعلمون والمعلمات هم الصخرة التي تقوم عليها المؤسسة التعليمية، ومهنة التعليم هي مهنة إبداعية، والتعليم في معناه الصحيح لا يعني فقط القدرة على إيصال المعلومات (والمعلمون والمعلمات الجيدون يستطيعون القيام بهذا) لكن يعني أيضًا إرشاد الطلاب والطالبات وتحفيزهم واستفزازهم وإشراكهم. ففي نهاية الأمر يهدف التعليم إلى التعلم، فإذا لم يكن هناك تعلم فلا يوجد تعليم. يمكننا الانخراط في عملية التعليم لكن هذا لا يعني بالضرورة أننا قد حققنا ما نصبو إلى تحقيقه.

الإبداع جزء من حياتنا، وكلما تقدّمنا في الحياة نشكّل ونعيد تشكيل حياتنا عن طريق إيجاد البدائل واكتشاف الإمكانيات. أحد أهم الأدوار التعليمية هو إيقاظ قوى الإبداع الكامنة في طلابنا وطالباتنا وتطويرها، وهذا يساعدهم في نموهم العاطفي. فثقافة التعليم السائدة تسعى إلى خلق حدود وقيود يتوجب على الطلاب والطالبات عدم تجاوزها، فهي تسعى إلى التحكم بعقل الطلاب والطالبات والسيطرة عليهم (التلقين مثلًا والنجاح في الامتحانات والحصول على الشهادات هي الغاية وليس الوسيلة) ولا تسعى إلى خلق مفكرين أحرار مبدعين. المؤسسة التعليمية هي المؤسسة التي تقرر ما يتعلمه أولادنا وبناتنا وأين وكيف. (يشبّه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو المدرسة بالسجن). 

نظام التعليم الجيد يسعى إلى التركيز على مشاركة الطلاب وإثارة فضولهم وتطوير قدراتهم الإبداعية. وهو يعطي مكانة هامة لعملية التعليم ويستثمر فيها ويعمل على تطوير المعلمين والمعلمات ودعمهم مهنيًا وماديًا. فالاستثمار في التعليم يجلب أرباحًا كثيرة أهمها خلق أجيال قوّية قادرة على مجابهة تحديات المستقبل والتغلب عليها. والمؤسسة التعليمية هي القائد، والقائد الجيد هو من يخلق الفرص كي يكتشف الآخرون قدراتهم وإمكانياتهم ويحققوا أهدافهم وطموحاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى