أدب

مذكرات صيفية

رائحة الزمن الجميل

بقلم: الشاعر محمد القاضي 

كان أيضا صيفا حارا؛ لكننا لم نكن لنعبأ كثيرا بذلك، لم نسمع عن مكيفات الهواء سوى من هؤلاء العائدين من الشمال، حيث نتقاذف ساخر الضحكات ونقول: أجسامهم الضعيفة لا تقوى على أشعة الشمس، لم يكن لهيب الصيف حينها هو الحدث الأهم؛ بل ربما لم يكن حدثا مهما من الأساس، فالبيوت المرصوصة، والأسقف المرفوعة، والأسطح المكشوفة، والحوائط المطعمة بالطوب اللبن، والأرضيات المرشوشة دوما بالمياه. كل ذلك جعلنا نتكيف مع الطقس حتى قبل أن تشق المكيفات طريقها إلينا.
ولأن مدينتنا كادت تكون خلوا من الأندية والمتنزهات، فقد صنعنا أنديتنا بأنفسنا، كانت أنديتنا كل مكان صالح للعب الشوارع الرئيسية، والشوارع الفرعية، ومداخل البيوت، وحتى البيوت ذاتها كانت مكانا صالحا للعب، ورغم أنها صنفت كمدينة وفقا للتقسيمات الإدارية المقررة، إلا أنها لم تحظ بقسط وافر من ضوضاء المدينة فهي قروية الطبع مدنية الأوراق.
كنا نقضي أغلب أوقاتنا في اللعب فبعد عام دراسي طويل، حق لنا أن نعوض ما فاتنا بين دفات الكتب وصفحات الكراريس، لا يصرفنا عن اللعب، إلا أداء الصلاة وتناول الطعام، وهدنة القيلولة ودروس أبي، كنا نترقب بائع الدندرمة، وغازل السكر، وساقي العرق سوس، على أننا لم نجرب هذا الأخير قط، ولكن كانت تستهوينا منه قربته الزجاجية وصاجاته الراقصات لعبنا الكرة وركبنا الدراجات، واحترفنا لعبة البحث والاختباء، غير مروعين من لص غادر أو حظ عاثر، أو موت محمول على العجلات الشوارع لنا والناس أيضا كذلك وأقصى ما قد يخشاه أحدنا غضبة هنا أو صيحة هناك.
طرنا مع ماهر، وهبطنا معا على رأس مازنجر، قاتلنا جنود المزدوج، ودمرنا آليي أبي الغضب، رافقنا ماجد وياسين، وتنافسنا بشرف، مع بسام ورفاقه الأقوياء، ركضنا خلف موكلي، عبر غابة الذئاب، أنصتنا للحكيم آكيلا، وثبتنا لغرور شريخان، فكرنا مع عبقرينو، وتآمرنا مع مشاكس، وتكاسلنا مع كعبول.
نسينا ونحن نفعل كل ذلك أن نشتكي حر العطش، أو ربما أننا تناولنا أكوابا مثلجة من منقوع الحلبة، أو مخفوق البوظا، أو مسحوق العناب فما كان أكثرها في البيوت، وأرطبها على قلوب الناس.
لم يعرف الناس حينها طريق البحر الأحمر، ولا طرقوا بعد أبواب قراه السعداء منهم فقط من يسافرون شمالا نحو القاهرة، والأوفر حظا من يتابعون المسير نحو الإسكندرية على أن هذا الفرض أو ذاك لا يحدث عادة إلا كل حين وحين، وبين الحين والحين عمر طويل جدا. أنا شخصيا سافرت رفق عائلتي إلى القاهرة مرتين وإلى الإسكندرية مرة واحدة ولكن هذه المرة الواحدة كانت كفيلة بأن تجعلني أتنسم هواء البحر حتى الآن.
أما الموعد الذي لا نخلفه أبدا، فهو الألومنيوم بمدينتها الهادئة وناديها ساحر الأركان كان أبي وفيا جدا لهذا الموعد حريصا عليه لكل عام يوم كامل نقضيه هناك لا شيء سوى المتعة والضحك ما زلت حتى يومي هذا أراني كلما ذهبت إلى هناك طفلا صغيرا يلهو بين إخوته و أبويه وأجدني أذهب خصيصا إلى هناك ببن الحين والحين لأشاهد طفولتي الراحلة تركض على قدمين فأسمع صوتها وأركض خلفها وأشتم منها رائحة الزمن الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى