طريق الخبز الشائك

محي الدين الوكيلي | المغرب

كتبت : في الطريق بين أيت قمرا و بني حديفة نواحي الحسيمة

طلبت مني أمي أن أذهب إلى الفرن لجلب الخبز، و كي أكون دقيقا هي لم تطلب مني، فقد أمرتني بذلك. كانت تغمرني فرحة كبيرة كلما طلبت مني أمي مهمة خارج المنزل ، إنها فرصة لكي أعانق مكانا أرحب من البيت الذي يشدني اليه ذلك الخيط الحريري (التسدية، أو السداوة) و الذي لم يكن يختلف عن العقال الذي يضعه أي فلاح لدابته حتى لا تتيه عنه. هذه التسدية بالنسبة لي كانت هي العائق بيني و بين فضاء أكثر رحابة، فضاء اللعب، فضاء المعاكسة مع الأطفال، فضاء التحديات ، وبخلاصة فضاء الحرية.
قمت بسرعة، انتعلت أول حذاء وجدته أمامي، فاللحظة يجب أن تستثمر أيما استثمار.
قبل أن أترك المنزل و أدلف إلى الخارج، سمعت صوت أمي تنبهني:
– إياك أن تعود بالخبز منقوصا كعادتك؟
ليتها ما قالت ذلك، بل ليتني أسرعت قبل أن أسمعها تطلق ذلك الإنذار. المهمة التي كانت قبل هنيهة مصدر متعة و سعادة، أصبحت الآن مصدر قلق و توتر. بسرعة البرق أو أسرع من ذلك، مر أمامي الشريط بأكملة، المسافة بين المنزل و الفرن لا تزيد عن خمسمائة متر، لكن الحواجز بها كثيرة و متنوعة، الحاجز الأول داخل الفرن ، قد يطلب مني أحدهم كسرة من الخبر، لا عليك فهذه مقدور عليها، تعودت أن أرد بحزم:
– انتظر “وصلتك” و كل خبزة كاملة و ليس كسرة فقط.
الحاجز الثاني مباشرة وأنت تلج ساحة باب القصبة (بزرهون), المكان خطير جدا، ليس لأنني لا أستطيع مقاومتة، فهو بالأساس مكون من أطفال في سني أوأصغر من ذلك، الصعوبة أنك إن ضعفت ، رحم الله ما في “الوصلة”. إنه مكان لتجمع أطفال الحي والأحياء المجاورة، المكان المفضل للعب كرة القدم، إن تنازلت للأول، هجمت عليك جحافل الأطفال مطالبة بنصيبها من الغنيمة، من منهم يستطيع مقاومة كسرة خبز خرجت للتو من الفرن. هذا الحاجز كما قلت ، و إن كان صعبا إلى حد الخطورة، فلي قدرة على المناورة فيه، أستطيع أن أخلق الأعذار، أن أفتعل الغضب، أن أختبئ وراء شجار مفتعل، لي من الإمكانيات ما يمكنني من تجاوزه بأقل الخسائر.
الآن وصلت إلى الحاجز الآخير و هو أخطر الحواجز، باب القصبة، الباب العتيق الجميل الحامل لعبق التاريخ وجمال الهندسة، هذا هو المكان المفضل لزمرة الشباب اليافع، جلهم يشكل لنا ،نحن الأطفال، مثالا يحتذى به، في كرة القدم أو في الدراسة، في الأناقة أو أشياء أخرى مما نتمنى أن تجتمع فينا في قادم الأيام. هذا الحاجز صعب المقاومة بل لا مجال لمقاومتة، كل ما يمكن أن تتمناه هو أن تنزل الألطاف من السماء و لا يعترضك أحد.
قصدت الفرن، غير متأكد من وصول الخبز مكتملا إلى المنزل، بالمقابل لا يساورني شك في الحساب العسير الذي ينتظرني إن وقع ذلك، فأمي كانت تعتبر ذلك قلة أدب غير مقبولة البثة.
في الطريق إلى الفرن التقيت أكثر من واحد، قطعت الطريق مازحا مع البعض، مشاكسا البعض الآخر ومستغلا الفرصة لاستكشاف الطريق و توقع المخاطر.
في الفرن، كالعادة استقبلت بالإبتسامة الدائمة لحسن وعبد القادر المساعدين الدائمين للمعلم ، بإشارة منهم فهمت أن الخبز على وشك الخروج من الفرن، كالعادة أيضا هي مناسبة لأراقب عبدالله و هو يخرج الخبز بقدرته الفائقة علي تنظيمه بالشكل الذي يجعله لا يخلط بين محتويات كل لوح من ألواح الخبز. مكنني حسن من لوحنا و به ثلاث خبزات، نزلت إلى أسفل الدرج، أخذت الوقت اللازم لجمعه بإتقان داخل الثوب المخصص لذلك، وعلى بركة الله مشيت نحو المنزل مستعدا لمواجهة المصير.
قبل الوصول إلى الساحة، وضعت اللوح خلفي بحيث يكون الخبز بين اللوح و ظهري، هو الآن محكم بمرفقاي بحيث لا يظهر من اللوح إلا القليل، هي طريقة استلهمتها من رعات الغنم حين يضعون العصى بهذه الطريقة. راقبت المكان و اتخذت مسارا بعيدا عن الأطفال الذين لا يمكن لي أن أرفض طلبهم، تحاشيت أن أتكلم مع معظم من صادفته كانت نظراتي تعبر عن عدم رغبتي في الكلام. قرب مدخل باب القصبة لاحظت أن عدد الشباب ليس بكثير فانتابني فرح كببر، ما إن اقتربت من الباب الكبير حتى أسرعت الخطى مستغلا انشغال الجميع بالاستماع إلى حكايات البطولة لأحدهم، عندما تجاوزت الباب ودخلت إلى داخل الحي شعرت بالكثير من الارتياح و كأن حملا ثقيلا أزيح من على ظهري، المهمة تمت هذه المرة بسلام، لم أكد أنعم بالسكينة حتى لمحت أحد أصدقاء أخي متجها نحوي، تبادلنا التحية:
-كيف الحال؟
– الحمد لله
– أحوال الدراسة؟
– جيدة
لم أكن مركزا على الحوار بقدر تركيزي علي يده التي كانت تزيل الثوب عن الخبر، لم يكن بمقدوري أن أعترض، فمقام الشاب مهم عند العائلة، ولا أريد أن يستصغرني على إثر هذا اللقاء.
أخد قطعة صغيرة من الخبزة الصغيرة ” القرصة” لكنها كانت كافية لتترك أثرا مهما في نفسي، أعاد الثوب بشكله المحكم ، شكرني و ذهب إلى حال سبيله تاركا وراءه تساؤلات عدة في نفسي، و احتمالات متعددة::
– هل أواجه أمي بواقع الحال؟
– هل أختلق قصة ما؟
– أم أستعين كالعادة بحماية أخي الكبير؟
الحيوية التي كانت في جسدي تحولت إلى تثاقل ظاهر، والابتسامة إلى تفكير، واصلت المسير لا أدري مآلا للقصة، دخلت المنزل وقبل أن أضع الخبز في مكانه، وبسرعة كبيرة أزحت الثوب ومن نفس المكان أخدت قطعة متوسطة من الخبز، انهالت على ظهري ضربة خفيفة من أمي معاتبة:
– دائما أقول لك أنها عادة سيئة يجب أن تقلع عنها.
– قلت بمكر: خبزك أمي لا يقاوم
– أجابت: أحياني عليك يا العفريت.
كان ذلك أهون بكثير مما كان ينتظرني لو علمت أمي بواقع الأمر، عدت إلى أعمالي وأنا أعلم أنني ربحت الجولة فقط لا المباراة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى